كنت على وشك أن أكتب مقالا أشيد فيه بقرار السفير محمد العرابى الاستقالة من منصبه كوزير للخارجية، احتراما منه للرأى العام، الذى لم يكن قطاع كبير منه سعيدا بالعلاقة الحميمة التى ربطته بالرئيس المخلوع محمد حسنى مبارك وأسرته، وهى علاقة أشار إليها -فى رسالة تشرفت بنشرها- زميلنا وليد الشيخ، المراسل الصحفى المقيم فى ألمانيا، الذى نقل وقائع وتصريحات محددة للسفير العرابى فى مديح مبارك وولده. نشرت الرسالة ليس لأن بينى وبين السفير العرابى شيئا لا سمح الله، ولكن لأننى أعرف أن الدبلوماسية المصرية تمتلك كفاءات كبيرة تستحق أن تكون عنوانا «بكرا» لمصر الجديدة، خصوصا أن العرابى لم يتعامل مع علاقته بمبارك، على أنها شغل لا بد من أدائه، بل كان ينظر لها ويفاخر بها. كنت على وشك أن أتمنى أن يحذو حذو العرابى -فى الانسحاب- كل من كانوا يعتقدون أن جمال مبارك منحة إلهية لمصر، لكن السفير العرابى صدمنى بتصريحات قرأتها له فى موقع «الدستور الأصلى»، أشار فيها إلى ما نشرته هنا بطريقة غير دبلوماسية، وهذا أكثر الأوصاف دبلوماسية لوصفها، وهى التصريحات التى يرد عليها الزميل وليد الشيخ فى هذه الرسالة. «للأسف ربما يعد تعيين وابتعاد (محمد العرابى) من منصبه كوزير للخارجية، ثم تصريحاته الصادمة لموقع (الدستور الأصلى) نموذجا صارخا يعكس حالة الاضطراب والخلل الذى لا يزال يسيطر على وزارة الخارجية والحكومة بل و(النظام) المصرى، مما يؤكد أن النظام لم يسقط بعد، وأنه يفكر ويتصرف بنفس طريقة نظام مبارك. فبدلا من انسحاب العرابى، اعترافا بأنه ليس رجل المرحلة أو حتى رده على الانتقادات التى وجهت إليه، وآخرها تصريحه المثير للجدل الذى يقزم دور مصر بعد أن كانت أم العرب ثم شقيقتهم الكبرى، لينزل بها إلى درجة أدنى، مؤكدا أن السعودية هى الشقيقة الكبرى، وجدناه يهاجم كل من احتج على توليه المنصب، بمن فيهم الوزير (نبيل العربى) ومؤيدو التحول الاستراتيجى الذى أحدثه فى الفترة القصيرة التى تولاها قائلا إن هؤلاء قاموا (بمؤامرة) ضده، وأنهم (قرروا أن لا يتركوا خليفة العربى يجلس على مقعده إلا إذا كان يحمل نفس توجهاته الفكرية)، وهو اعتراف منه بأن توجهاته مناقضة لفكر نبيل العربى بعد أن كان يؤكد العكس. ثم تتهم الأستاذ بلال فضل والأستاذ علاء الأسوانى وبعض الإعلاميين الآخرين الذين رأوا أنه لا يصلح وزير خارجية مصر ما بعد الثورة، لأنه من رجال مبارك الوثيقين، إنهم اعتمدوا على معلومات غير صحيحة دون البحث فى صدقها، بل وصل الأمر لاتهامى بعد نشر الأستاذ بلال رسالتى هنا فى نفس المكان (بالعمالة) و(الخيانة).. قائلا إننى (على صلة بجهات أجنبية تتربص بمصر ومصالحها ودورها الإقليمى ونصحته بالابتعاد عن هذا الطريق)! وهو اتهام خطير.. ويعطينى الحق فى مقاضاة السفير العرابى، خصوصا أننى حين كتبت أكدت كفاءته وقدراته ونشاطه وأنه شخصية ودودة، لكنى أكدت أنه آخر من يصلح وزير خارجية لمصر بعد الثورة، بينما حين كتب هو اتهمنى بالعمالة والخيانة، وهو ما يعكس فى نفس الوقت طريقة التفكير (الأمنية) وليس (الدبلوماسية) لوزير يتهم منتقديه بهذه الاتهامات، مما يشكك فى تحدثه أو توليه أى دور تفاوضى باسم مصر فى العالم. الطريف أنه يقول (نصحته بالابتعاد عن هذا الطريق)، وهو اتهام صريح منه لنفسه، وهى أول مرة نسمع فيها عن سفير يجلس مع مواطن يتهمه بأنه (عميل وخائن)، وينصحه أن يبتعد عن هذا الطريق بدلا من تقديم بلاغ رسمى فيه! لكن الأطرف هو سبب هذه التهمة الخطيرة، وهو أننى مارست عملى كمراسل لقناة (المنار) لمدة أعوام من مارس 2003 حتى مارس 2007 قدمت فيها 1200 تقرير يومى لأهم ما تنشره الصحف الألمانية، هذا إلى جانب أننى رغم معارضتى الحادة لمواقف السياسة المصرية من العدوان الإسرائيلى على لبنان عام 2006 وعلى قطاع غزة عام 2008، فإن الوزير نبيل العربى أكد فى حوار معه فى برنامج (العاشرة مساء) بالظبط نفس ما قلته، من أنه يرى الموقف المصرى من حرب غزة (موقفا مشينا)، وأنه يرى أن حصار قطاع غزة (جريمة إبادة جماعية)، ولا أدرى هل ينعكس عليه بالتالى تهمة العمالة والخيانة لمصر أم لا؟ إلا أن المفاجئ بالنسبة لى أن الجهة الوحيدة فى العالم التى اتهمتنى بالعداء لها والعمل ضد مصالحها كانت إسرائيل، التى وضعتنى فى خانة المعادين للسامية، بل وصل الأمر إلى وضعى إلى جانب الأستاذ عمرو ناصف، والأستاذ محمود بكرى لعملنا فى قناة (المنار) على قائمة الاغتيالات والشخصيات المطلوب تصفيتها، وهو ما نشر حينها فى صحف دولية وعربية، بينما حظيت بتقدير مصرى، خصوصا أننى كنت المراسل المصرى الوحيد الذى سافر إلى لبنان وظل فيها طوال مدة الحرب وغطيتها لصحيفتى (الأسبوع) و(أخبار الأدب) ومجلة (السياسة الدولية)، لذا تأتى تصريحات العرابى صادمة، وكأنها آتية من مسؤول أمنى إسرائيلى وليس وزير خارجية مصر! الأكثر مفاجأة لى أن آخر حديث هاتفى بينى وبين السفير العرابى كان فى 8 مايو 2008 وصفنى فيه (بالوطنية).. وقال لى فيه بالحرف (الجماعة -يقصد أمن الدولة فى السفارة المصرية فى برلين- بيصفوك بالوطنية، فكيف تشارك فى مظاهرات 4 مايو أمام السفارة ضد الرئيس؟)، فأخبرته أننى شاركت لأننى وطنى، وأنى ضد النظام وضد التوريث، ولو أراد الجماعة الحوار معى حول الوطنية، فأنا مستعد للبحث من فينا وطنى ومن غير وطنى، وهو هنا تكرار للتفكير الأمنى للسفير وليس الدبلوماسى. وفى النهاية ورغم تقديرى لحالته النفسية بعد ضياع أمله الذى أفنى عمره من أجله ليصبح وزيرا للخارجية باذلا كل جهد، خصوصا التقرب للحاكم وزوجته وابنيه، ليصدم بأنه هذا بالظبط هو ما أضاع عليه حلمه، إلا أن تصريحاته تجبرنا على المطالبة بعملية إصلاح حقيقية فى وزارة الخارجية، لأن استمرارها بهذا النهج الذى هبط بقيمة وسمعة مصر فى العالم بات مثيرا للإحباط والغضب ولا يمكن قبوله بعد الآن».