"عَم إبراهيم ده أحسن مَكوجى رِجل فى الدنيا"، تسمعها تتردد خلفك مِن أحد زبائنه المُتحمسين.. وأنت لا تستطيع السيطرة على عينيك اللتين تحتضنان فى نهم تلك البساطة التى تغطى كل موجودات ذلك "الدُكان" الصغير.. يعتدل مُبتسماً لِيُشير لك إلى مَقعد قريب.. "عم إبراهيم" صاحب خمسين عاماً.. وهو يهندم قميصه على جسده النحيل.. ثم يعود إلى القميص الآخر الذى كان مُنهمكاً فى تَسويته بمكواة "الزهر" العملاقة.. أو "مكواة الرِجل" كما هو مُتعارف.. تلك المكواة التى ظلت رفيقة له على مدى قرابة الأربعين عاما. "اشرب يا عم الشاى" يقولها بابتسامة ودود.. تتحسس خُطواتك لتصعد فوق رصيف صغير ضيق يتناسب وشارع "نصار شديد"، أحد شوارع حى شبرا العتيق.. مُقترباً من ذلك المَقعد الذى أشار الرجل إليه كى تجلس عليه تتقدم وتمد يدك تتناول كوب الشاى، وعينك تجوب المكان فى شغف.. إحساس بالاطمئنان ينتابك بهدوء.. ربما ينبع من الجو العام الذى يتسم بالعفوية.. مُنحنياً.. مُنكفئاً.. مُنكباً على عَمله بِمنتهى الاجتهاد، وقد سارت تلك العربة المتهالكة التى تَمكُث أمامه مُنذ عقود هى – بِبساطة – المنظور الوحيد للعالم الخارجى بالنسبة له.. ضغوط الحياة لا تُمثل أى عقبة.. لا تُساوى شيئا.. يضعها تحت قَدمه، ويسحقها.. تماماً كالمكواة العملاقة التى مازال مُتمسكاً بأنها الأصلح للمهمة.. ومع ذلك تخرج الكلمات مِن تلك البساطة.. وذاك التواضع بِمخارج أحرف تَمتلئ بمُنتهى الفَخر: "بفضل الله أنا الوحيد فى شبرا والقاهرة الكُبرى".. "كُنت أقدر أجارى (الموضة) لكن خفت أؤذى الناس". يستطرد الرجل وهو مُنهمكاً فيما يفعل.. وفى شَرح وجهة نَظره التى تَتلخص فى أن الكى ب"البُخار ".. لا يُقارن بالكى ب"المكواة الزهر" أو "المكواة الرِجل" كما هو متعارف عليه.. لأنها- أى البُخار- لا تستطيع تنقية الملابس مِن بقايا المايكروبات.. كما تفعل مكواته.. كان يُدافع بِاستماتة عن طريقته القديمة.. وكأن حياته بالكامل تلخصت فى إثبات صحة وجهة نظره التى يقتنع بها معه كثير مِن زبائنه.. يُتابع القول بوجهه الذى لا يَنفك يتسع عَن ابتسامة زاهية راضية عَن الحال "أصل الشغلانة دى غِيّة". تشعُر وأنت تراه يعمل مِن العَزم الذى يضغط به عَلى المكواة، بأنه تَجاوز المعنى العام لأى عَمل يُمارسه الناس لكسب الرزق.. بَل كأنه يُحاول – بِلا كَللٍ – أن يُثبت شيئا ما.. شيئا آمن به مُنذُ زمن.. ولا طريقة لإثبات صحته إلا بالتفانى فيما يفعل دون الاهتمام بما يراه الناس فيها.. وفيه.. فتجد نَفسك تَنظُر إليه وتتساءل بمُنتهى الشغف.. أحقاً هى الحياة التى تضغط عليه.. أهى قادرة حتى.. أم.. أم أنه هو مَن يفعل؟!..