ليس هناك من شك في أن ثورة25 يناير واجهت تحديات عظمي في مشروعها الثوري للقضاء علي النظام السلطوي الذي هيمن علي الساحة السياسية لمدة ثلاثين عاما كاملة. وأخطر هذه التحديات قاطبة هو كيف يمكن حشد الأنصار لفكرة الاحتجاج والانتفاض الثوري ضد النظام؟ ويمكن القول بناء علي دراسة منهجية دقيقة, إن مقدمات الثورة كانت لها صور بارزة في مجال المجتمع الواقعي, وتجليات مهمة في ميدان الفضاء المعلوماتي. ولعل أبرز المعارك ضد النظام السياسي القديم في مجال المجتمع الواقعي تتمثل في النقد السياسي العنيف للسياسات المطبقة وللظواهر السلبية التي أكدت أن الميراث البائس للنظام بعد ثلاثة عقود كاملة, هي استئثار القلة من رجال السياسة ورجال الأعمال الفاسدين بالنسبة الأعلي من معدل الدخل القومي, في الوقت الذي غرق فيه ملايين المصريين في الفقر, وعانت فيه الطبقة الوسطي وهي عمود المجتمع من الإفقار وتدني أحوالها الاقتصادية. ويمكن القول إن قادة النظام السابق قد سمحوا بهامش من حرية التعبير والنشر تحت ضغوط الدول الأجنبية التي نقدت الاستبداد السياسي السابق, نتيجة الترويج لأهمية الديمقراطية وحقوق الإنسان. وقد ظن رموز النظام السياسي القديم بغبائهم وجهلهم, أن فتح الباب لحريات أوسع في مجال الصحافة والنشر من شأنه أن ينفس عن الناس ويجعل بخار الغضب يتصاعد إلي عنان السماء, في الوقت الذي يجاهد رموز الفساد السياسي والاقتصادي علي إبقاء الحال علي ما هو عليه. بمعني الاستمرار في تطبيق برنامج الخصخصة لتدمير تراث القطاع العام الذي طالما أشبع الحاجات الأساسية للطبقات الوسطي والفقيرة, والنهب المنهجي لأراضي الدولة والإثراء الفاحش من عملية الاتجار فيها, بالإضافة إلي التلاعب في البورصة وتحقيق أرباح خيالية تقدر بالمليارات لمجموعة محدودة من رجال الأعمال علي حساب صغار المستثمرين. غير أنه بالإضافة إلي التحقيقات الصحفية التي نشرت في صحف المعارضة وحتي في بعض الصحف القومية, ومن أبرزها جريدة الأهرام التي كشفت عن مواطن متعددة للفساد, فإن مجموعة من الكتاب والمثقفين مارسوا النقد الاجتماعي المسئول للسياسات المنحرفة, ولم يكتفوا بالإشارة المحددة للانحرافات ولكنهم أعطوها التكييف الصحيح. وإذا كان النقد الاجتماعي المسئول للسياسات المنحرفة للنظام السياسي السابق كان أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت الثورة تختمر في نفوس وعقول مئات الآلاف من الشباب الذين مارسوا التفاعل الاجتماعي باقتدار عبر شركة الإنترنت, فمما لا شك فيه أن الحركات الاحتجاجية التي نشأت وأسست لحق التظاهر في الشوارع, وأبرزها حركة كفاية, كانت من بين العوامل المؤثرة في تحريك الشارع وتحويل البحيرة الراكدة للممارسة السياسية السلطوية إلي محيط زاخر بالأعاصير الثورية إن صح التعبير. وبالإضافة إلي حركة كفاية التي كان مؤسسوها خليطا من الشيوخ والكهول أصحاب الخبرات النضالية السابقة, بالإضافة إلي عناصر الشباب القادمين حديثا إلي مجال العمل السياسي, فقد نشأت حركات شبابية خالصة أبرزها حركة شباب6 أبريل, التي وقفت إلي جانب إضراب عمال المحلة الكبري. غير أن النقد الاجتماعي العنيف والحركات الاحتجاجية الجماهيرية لم تكن هي فقط من أسباب إخماد الثورة, ولكن أضيفت إليها الحركات المطلبية للموظفين والعمال, والذين قاموا باعتصامات علنية في الشوارع المحيطة بمجلس الوزراء ومجلسي الشعب والشوري, حيث ارتفعت صيحات الجماهير المدوية ضد سياسات النظام. والواقع أن تردي الأوضاع الاقتصادية لغالبية الشعب المصري, بخاصة للطبقات الفقيرة والمتوسطة كان أحد أسباب التحام فئات الشعب المختلفة بالانتفاضة الثورية لشباب الثورة, مما حولها إلي ثورة شعبية في الواقع. ومعني ذلك أن الثورة نجحت في مواجهة تحديات الدعوة للانتفاضة ضد النظام القديم, ونجحت أيضا في حشد الملايين في القاهرة وغيرها من عواصم البلاد ليكونوا في صف الثورة, مما أدي في النهاية إلي إسقاط النظام, وذلك بإعلان الرئيس السابق تخليه عن السلطة في11 فبراير2011 وتسليمها للمجلس الأعلي للقوات المسلحة. ويمكن القول إن نجاح الثورة في مواجهة التحديات التي وقفت أمامها وهي تسعي إلي إسقاط النظام, لا يعني أنها استطاعت اجتياز اختبار الانتقال من الثورة إلي السلطة بسلاسة! وذلك لأن الثورة اعتبرت أن ميدان التحرير بالائتلافات الثورية فيه, هي أحد أركان السلطة في مصر استنادا إلي مبدأ شرعية ميدان التحرير. ونستطيع أن نقول إإن السلطة رسميا تتمثل في المجلس الأعلي للقوات المسلحة الذي حمي الثورة منذ البداية ومارس سلطاته في إدارة شئون البلاد وليس في حكمها حسب عبارات خطابات المجلس الأعلي نفسه, بالإضافة إلي الوزارة التي يرأسها حاليا د. عصام شرف القادم مباشرة من ميدان التحرير مما أعطي له شرعية خاصة. غير أن مسار ممارسة السلطة تعثر في الواقع, نتيجة حرص المجلس الأعلي للقوات المسلحة علي تطبيق خطة الطريق السياسية التياقترحها بعد الإعلان الدستوري والاستفتاء عليه, والتي تتمثل في إجراء الانتخابات التشريعية أولا وتشكيل مجلسي الشعب والشوري وانتخاب رئيس للجمهورية, والاعتراضات المتعددة التي ثارت من قوي سياسية متعددة حول هذه الخطة. ومن هنا نشأ الجدل الشهير الدستور أولا أم الانتخابات, زاد التعثر نتيجة لتعدد مطالب شباب التحرير التي رفعوها في مظاهراتهم المليونية, والتي تحولت إلي اعتصام دائم ارتفع شعار الثورة أولا لتحقيق أثني عشر مطلبا. ودارت خلافات شتي بين السلفيين والإخوان المسلمين وباقي القوي السياسية حول ضرورة الالتزام بنتائج الاستفتاء والتي تمثلت في أن غالبية المصريين يوافقون علي خطة الطريق المقترحة. غير أن سلبيات متعددة برزت في الشهور الأخيرة, أهمها علي الإطلاق أن شباب التحرير يظنون أنهم يمثلون السلطة العليا في البلاد, وبالتالي من حقهم أن يفرضوا علي المجلس الأعلي للقوات المسلحة وعلي حكومة شرف ما شاءوا من مطالب. ودارت صراعات شتي وصلت إلي حد المطالبة بإسقاط عصام شرف نفسه القادم من التحرير, بل وإسقاط المجلس الأعلي للقوات المسلحة. وبرز في الممارسة العملية اتجاه لتشكيل الوزارة من قلب ميدان التحرير, وذلك بترشيح أسماء بعينها, أو بالاعتراض علي أسماء اختارها عصام شرف, وعلي هذا تعثر تشكيل الوزارة التي ينتظر أن تواجهها اعتراضات شتي من ائتلافات شباب الثوار التي تعددت حتي وصلت إلي ما يفوق المائة ائتلاف! وأيا ما كان الأمر, فيمكن القول إن المشهد السياسي في مصر تسوده الآن ظواهر صاخبة متعددة تشارك في إحداثها جماعات شبابية شتي لا تعرف هويتها السياسية علي وجه اليقين. بالإضافة إلي مجموعات متعددة من المثقفين الذين ركبوا موجة الثورة, وتصدروا المشهد الإعلامي للحديث باسمها, ويمارسون كل دعوات التطرف السياسي لإثبات أنهم أكثر ثورية حتي من شباب الثورة الأصليين الذي أشعلوا الثورة! مصر تحتاج إلي مشهد سياسي مختلف, يركز علي إجراء الانتخابات التشريعية التي تمثل الشعب المصري في موعدها تمهيدا لإصدار دستور جديد وانتخاب رئيس جديد للجمهورية. وهكذا تطوي صفحة الثورة, لتفتح صفحة السلطة الثورية وتلك قصة أخري! .