شوقى بدر يوسف فى رحلته الإبداعية التى جاوزت أكثر من أربعين عاما، عاش مصطفى نصر مسيرته الحياتية والسردية مع الورق فى تفاعل له غرابته بين الوظيفة حيث كان يعمل فى شركة الورق الأهلية بالإسكندرية وبين ورق مكتبته الخاصة قراءة وكتابة، وأفرزت هذه التوليفة عالما سرديا ثريا له علاماته وحضوره الخاص فى المشهد السردى السكندرى والمصرى والعربى. كانت القراءة والكتابة بالنسبة له هما يوميا على الرغم من وظيفته التى قضاها فى شركة الورق بالإسكندرية. كتب عن مصطفى نصر العديد من النقاد دراسات لكن أعتبر نفسى أكثر من كتب دراسات عن إبداعه، كتب عنه الدكتور محمد مصطفى هدارة والدكتور السعيد الورقى والدكتور عبد العزيز شرف والدكتور زكريا عنانى والدكتور أحمد حسن صبره والدكتور مصطفى عبد الغنى والدكتور مجدى توفيق، كما كتب عنه كل من النقاد حسين عيد وجلال العشرى ومحمد أحمد عطية ومحمد السيد عيد ومحمد عطية محمود، وغيرهم. ولأن مصطفى كان لديه مشروع كتابى عن الرواية فى الإسكندرية فقد كان المكان هو الأساس فى كل ما كتبه وكانت شخصياته كلها تنحدر من بيئة المكان السكندرى خاصة مكانه الأثير بحى غربال، وكانت المرأة فى البيئة الشعبية هى الشخصية الرئيسية المحورية فى كل أعماله الروائية والقصصية وكما يقول فى إحدى حواراته: «للإسكندرية اهتمام خاص لدى.. وهى ليست اسكندرية البحر والشاطئ، ولكن اسكندرية أخرى.. أحياء شعبية قديمة كانت مسرحا لأحداث واحتكاك بين الأجانب، وما تركوه بعد رحيلهم من أثر فى السكندريين الذين عاشوا معهم. من هنا تجدنى اهتم بالشخصية السكندرية المتفردة التى لا تتشابه مع أى شخصية أخرى» وهو الذى كان يسم أعماله بميسم الأنثربولوجى الخاص بالمرأة وممارساتها فى بيئتها الشعبية كأنثى فاعلة فى بيئتها، حاضرة بكل ما تتسم به المرأة فى الأحياء الشعبية السكندرية من سمات معروفة بها فى التعامل مع الآخرين جيرانها أقاربها الباعة اللائى تتعامل معهم، كان لها أسلوبها الخاص وطبيعتها التى اكتسبتها من المكان وقد نجح مصطفى نصر فى الكتابة عن طبيعة حياة المرأة فى الإسكندرية نجاحا كبيرا. ففى أولى رواياته وهى رواية «الصعود فوق جدار أملس» 1977 والتى أعيد نشرها بعد ذلك تحت عنوان «شارع البير» 1995 بسبب الجدل الذى دار حول عنوانها الذى تداخل مع عنوان كاتب سكندرى آخر، وتدور أحداث الرواية بين حى غربال ببيئته الشعبية المهمشة، وشارع البيّر بمواخيره وملاهيه وبؤره الفاسدة حيث يمتزج الزمن والحدث ليقدما رؤية داخلية لأعماق الإنسان السكندرى الحائر بين الذات والبيئة الشعبية السكندرية والعمل. وفى رواية «الشركاء» 1982 والتى تصور ما يدور داخل إحدى شركات الورق بالإسكندرية من ممارسات وعلاقات متدنية تحكمها المنفعة والمصالح الشخصية وهو انعكاس لما يدور فى الحياة الاجتماعية والسياسية العامة وأدان فيها المجتمع بكل ما يحدث فيه خاصة مكان عمله فى شركة الورق. وفى رواية «جبل ناعسة» 1983 صورت الرواية الصراعات الاجتماعية والسياسية العامة فى منطقة جبل ناعسة هذه المنطقة الشعبية المهمشة وديستوبيا الحياة الإجتماعية المهمشة والتى تمور فيها القيم المنهارة وفساد العلاقات وتجارة المخدرات والجنس، وكل أنواع الموبقات الممكن تواجدها فى هذه المنطقة الخارجة من رحم المكان البعيد عن العمران. ورواية «الجهينى» وهى رواية الصعود والسقوط لطبقات طفيلية من المجتمع صعدت إلى القمة ثم سقطت بعد أن أدت دورا فاعلا فى مجتمع السياسة والمال ورواية «الهماميل« برؤيتها السياسية وإسقاطاتها على الواقع المعاصر، وتوظيف الوثيقة التاريخية فى خدمة أحداث ونسيج روائى يبرز وجه الزيف والفساد فى إحدى الوحدات الإقتصادية فى الإسكندرية، تماما كما سبق أن صورها الكاتب فى رواية «الشركاء». ويعتبر الصعود والسقوط، وإبراز الواقع المعيش بتأزماته الخاصة والاتكاء على جوانب الجريمة والجنس سمات غالبة فى أعماله وتكاد تكون هى المهيمنة على طبيعة العلاقات المتداخلة والمتشابكة لشخوص ومواقف رواياته حتى أنه منذ أول أعماله الروائية «الصعود فوق جدار أملس» حدد طبيعة نوعية العلاقات الدائرة فى محيط هذا العالم الروائى من خلال رواية صوتية تعبر كل شخصية فيها عما يدور داخلها من أفكار وملامح ذاتية تنعكس على النسيج العام للرواية. كما تمثل رواية «إسكندرية 67» فى مسيرته السردية إنعطافة مهمة، وزاوية جديدة مختلفة عما سبقها من نصوص روائية، حيث خرج بهذا النص عن الفضاءات المعتاد له تناولها فى رواياته السابقة، ونعنى بهذه الفضاءات حى غربال، مكانه الأثير الذى سبق تجسيد ملامحه وشخوصه فى روايات «جبل ناعسة» و«الجهينى»، و«الهماميل»، و«ليالى غربال» وغيرها من نصوصه السردية، إلى تجسيد رؤية جديدة فى عالمه الروائى الهدف منها رصد بعض المشاهد الحية للحياة الإجتماعية والسياسية لواقع مكان سكندرى آخر له خصوصيته، أحتفى به فى هذا النص وهو «حى بحرى»، وفى زمن حفل بأحداث مصيرية هامة حدثت فيه وهو عام 1967 بما يحمله هذا العام من دلالات خاصة فى التاريخ المصرى والعربى المعاصر، حيث يجسد النص واقع عاشته شريحة من المجتمع السكندرى فى فترة حملت معها نذر الحرب، خاصة فى الأيام التى سبقت حدوثها مباشرة، وكذلك أيام الحرب ذاتها والأيام التى أعقبتها، وما خلفته هذه الأيام جميعها من إنعكاسات هامة كان لها تأثير كبير على مستويات المجتمع المختلفة، مستخدما فى ذلك الواقع الإجتماعى والسياسى والعسكرى فى تجسيد هذا الزمن بكل ما يحمل من أحداث جسام، وشخوص عاشت واقع هذه المرحلة، وتعاملت مع المكان والزمان والحدث، بحيث طغت الهموم العامة على الهواجس الخاصة لشخوص النص، من خلال حادثة حدثت أيام حرب 67 عندما حاولت مجموعة من الضفادع البشرية الإسرائيلية التسلل إلى ميناء الإسكندرية وتمكنت الجماهير من القبض عليهم فى عيادة جاسوس يهودى فى منطقة بحرى بشارع التتويج. وفى رواية «المساليب» 1999، وهى الرواية التى لم تنتبه إليها الساحة الأدبية وقت صدورها، وعلى الرغم من ذلك فهى تمثل علامة فارقة وجملة اعتراضية مهمة فى مسيرة وعالم مصطفى نصر الروائى لاحتوائها على بنية سردية لها جمالياتها الخاصة النابعة من توجه المتخيل السردى فى هذا النص إلى نفس النموذج الواقعى المألوف فى عالم الكاتب، نموذج الغجر وما كانوا يفعلونه فى البيئات الشعبية، هذا علاوة على ما رسمه الكاتب فيها من تنوع فنى له غناه ومظاهره المتعددة فى القدرة على تجسيد ما يدور فى أعماق الشخصيات بهمومها واستلاب واقعها وأفكارها. كما أنها تجسد وتعبّر فى نفس الوقت عن سطوة الواقع المأزوم من خلال استلاب المكان والزمان والحقيقة الكبرى الشائعة الآن فى عالمنا العربى، وهى حقيقة تشكّل العنصر الصهيونى على أرض فلسطين العربية، بواسطة الخديعة والمكر، وهو يشبه إلى حد كبير نموذج الغجر الذين يتواجدون حول الأمكنة التى تخدم أغراضهم ومنافعهم الخاصة، والتى يحاولون فيها السيطرة على كل غال رخيص، وقد جسد الكاتب هذه الرؤية الكامنة فى التاريخ العام للمنطقة فى هذا النص الروائى فى واقع سردى له نفس الأبعاد ولكن من منظور فنى واقعى حكائى خالص بعث فيه الكاتب حركة الحياة بكل ما تحمل من شخوص وممارسات ووقائع وأحداث وتداخلات للواقع حول هذه الموتيفة، موتيفة الغجر وأفعالهم على الأرض حيث تتواجد شخوص لهم نفس التوجهات ونفس الطبيعة، ونفس الإطماع، تسللت بأساليب المهادنة والخداع والسحر إلى أرض النخيل بمنطقة بسونة الرامزة لفلسطين، ونجحت فى العبور إلى المنطقة مستخدمة أساليب شيطانية، لا قبل لأصحاب الأرض بها منها افتعال التذلل، والمسكنة، والضعف، واستخدام سلاح المرأة، والمال، والسحر، وزرع أشخاص لهم سطوة وكريزما سحرية خاصة يستطيعون عن طريقهم الوصول إلى أهدافهم فى الحصول على هذه الأرض البكر وفرض سطوتهم عليها. وفى رواية «سينما الدورادو» والتى صدرت عن نادى القصة 2006، يطرق مصطفى نصر فى هذا الكتاب عالم حكائى جديد، يضاف إلى العديد مما سبق له أن جسده فى أعماله الإبداعية السابقة، يلعب فيه الحكى والتخييل جانبا متميزا فى رصد عالم السينما والأفلام فى الزمن الجميل زمن الخمسينيات والستينيات. كما يلعب الموضوع نفسه دورا توثيقيا مهما فى تحديد وبلورة موروث فنى كان له تاثير كبير فى حياتنا جميعا ألا وهو دور السينما والأفلام التى عشقناها أيام الزمن الجميل، وهى المرحلة التى كانت تكّون وتشكل وجداننا وعقولنا فى هذا الوقت . كما ارتبطت دور العرض التى كنا نرتادها ارتباطا كبيرا بالمكان الذى احتفى به الكاتب احتفاء خاصا. وفى ثلاثيته الخاصة ب يهود الإسكندرية حول تشكلها الثلاثى فى ثلاث أزمنة متعاقبة، تختلف فيها الشخصيات، وتتنوع فيها الأحداث، وتتواتر فيها التيمات النصية، وتتباعد أزمنتها بقدر تباعد الأحداث، وتكاثر الشخصيات، وتنوع الأحداث بتفاصيلها واستطراداتها المحددة، فكل من هذه الأزمنة الثلاث فى الرواية يحيل إلى الآخر عن طريق شخصيات متناسلة، وشخصيات أخرى متداخلة، تبث طبيعة جديدة على مشهد اليهود فى نسيج النص، بحيث أستقل الجزء الأول من الرواية بالحياة الاجتماعية لليهود فى الإسكندرية مطلع القرن التاسع عشر إبان حكم الوالى سعيد أواخر عام 1862، والذى رحل بعد ذلك فى الثامن عشر من يناير فى العام التالى بطريقة مفاجأة وهى تيمة رئيسية فى هذا الجزء اشتغل عليها الكاتب لإبراز دور اليهود فى استغلال الحالة الإجتماعية والسياسية والإقتصادية للوصول إلى أغراضهم عندما يفدون إلى المجتمع السكندرى وقد تأثر فيها مصطفى نصر برباعية الإسكندرية للكاتب الإنجيزى لورانس داريل خاصة الشخصيات اليهودية المتواجدة فيها. وفى روايتيه الأخيرتين «دفء المرايا» و«الستات» اشتغل مصطفى نصر على مكيافيللية الشخصيات من خلال شخصية اللامنتمى ودوره فى الحياة الإجتماعية والسياسية والأدبية فى الإسكندرية فى رواية دفء المرايا، والصعود إلى أعلى بأى طريقة يستطيع منها الصعود حتى ولو كانت على أكتاف الأخرين، ومجتمع الستات وما يدور فيه من مكائد وعلاقات طبيعية ومشينة جسدها مصطفى نصر فى رواية «الستات» كعلامة كاشفة لمحور الدلالة الذى تعبر عنه الرواية فى طبيعة أحداثها وشخصياتها التى اختار لها الكاتب التعبير العامى المباشر المعبر عن رؤيته راصدا بذلك وضعية المرأة فى كل محكية ومروية من مشاهد هذا النص، معتمدا فى ذلك على البيئة المهمشة المتدنية التى تفرز نساء على شاكلة هذا المكان اللائى يعشن فيه وراصدا أيضا نساء لهن سطوة خاصة فى شكلها وممارساتها وطبيعة حضورها فى المشاهد والمواقف فى نسيج الحكايات المطروحة. لقد كانت رحلة مصطفى نصر الروائية لها حضورها الفاعل فى الحركة الأدبية المصرية بحيث كانت له طريقة خاصة فى التعبير حاول الكثير من الكتاب تقليدها، إلا أن اللافت من عالم مصطفى نصر أن هناك تأثير كبير من كاتبنا الكبير نجيب محفوظ فى عالمه، حيث اشتغل نجيب محفوظ على عالم القاهرة واشتغل مصطفى نصر على عالم الإسكندرية فى سرد ترك بصمة خاصة على الساحة الأدبية فى مصر ومشهدها الإبداعى.