اندلعت الثورة الشبابية وبدت كما لو كانت صاعقة هبطت علي المجتمع الواقعي من الفضاء المعلوماتي. فقد أشعلها الشباب المصري الذين أتقنوا في السنوات الأخيرة التعامل مع أدوات الاتصال الحديثة وخصوصا المدونات والفيس بوك والتويتر. هؤلاء الشباب الذين فجروا الثورة مازالوا حتي الآن وبعد النجاح السابق لها يرفضون أن يعلنوا عن قيادة لهم. ربما لأنهم يخشون أن تسقط الثورة في يد مجموعة أشخاص من بينهم قد تغرهم أوهام الزعامة وأطماع السلطة فتذوي شعلة الثورة المتقدمة. لقد فاجأني من هيمنوا علي هذه الانتخابات وفي مقدمتهم أحمد عز أنهم يمكن أن يلغوا المعارضة مهما تعددت أشكالها بجرة قلم من خلال عملية تزوير جماعية منظمة. لقد سبق لنا أن اهتممنا اهتماما خاصا برسم ملامح خريطة التغيرات الكبري التي حدثت في بنية المجتمع العالمي وذلك في كتابنا خريطة التغيرات الكبري التي حدثت في بنية المجتمع العالمي نهضة مصر2008 وكذلك في كتابنا الأخير شبكة الحضارة العالمية من المجتمع الواقعي إلي العالم الافتراضي ميريت.2010 وأول هذه التغيرات وأخطرها جميعا و الانتقال علي المستوي العالمي من نموذج المجتمع الصناعي إلي نموذج مجتمع المعلومات. وإذا كان المجتمع الصناعي يقوم اساسا علي السوق الذي يعمل وفق آلية العرض والطلب فإن المجتمع المعلوماتي يقوم اساسا علي الفضاء المعلوماتي والذي هو المجال الرحب الذي تشغله شبكة الإنترنت إحدي عجائب الثورة الاتصالية الكبري. وإذا أضفنا إلي ذلك بروز ظاهرة العولمة بتجلياتها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية لادركنا أن كل هذه التغيرات الحضارية الكبري أدت في الواقع إلي انقلاب كامل في الأوضاع العالمية. وأصبحت شعارات الديمقراطية واحترام التعددية وحقوق الإنسان شعارات عالمية ودخلت الديمقراطية علي وجه الخصوص إلي عقول ووجدان ملايين البشر في مختلف أنحاء الأرض. وإذا كانت الشمولية كنظام سياسي قد سقطت بانهيار الاتحاد السوفيتي إلي الأبد إلا أن السلطوية كنظام سياسي مازالت تحارب معاركها الأخيرة في سبيل البقاء محاولة وقف حركة التاريخ. والنظام السياسي المصري نظام سلطوي منذ ثورة يوليو1952 التي أدت إلي قطعية تاريخية مع النظام الملكي الليبرالي وترسخت هذه السلطوية وتجلت بصور شتي في عهد الرؤساء جمال عبدالناصر وأنور السادات وحسني مبارك. إن الثورة الشبابية في25 يناير التي سرعان ما تحولت في الواقع إلي ثورة شعبية بكل معاني الكلمة يشارك فيها المواطنون من كل الأعمال ويسهم فيها الرجال والنساء والمسلمون والأقباط وآلاف الناس الذين ينتمون إلي طبقات اجتماعية شتي. وهي في الواقع حين خطط لها في الفضاء المعلوماتي بواسطة مجموعة من المدونين الذين لا يعرفون بعضهم معرفة شخصية ثورة بغير قيادة! ومن هنا جاء البيان رقم واحد الذي عادة ما يعلن عن قيام الثورات في العالم العربي خلوا من اسم قائد محدد أو مجموعة قادة. وهؤلاء الشباب الذين فجروا الثورة مازالوا حتي الآن وبعد النجاح السابق لها يرفضون أن يعلنوا عن قيادة لهم. ربما لأنهم يخشون أن تسقط الثورة في يد مجموعة أشخاص من بينهم قد تغرهم أوهام الزعامة واطماع السلطة فتذوي شعلة الثورة المتقدة. ثورة هي صرخة ضد القهر السياسي وضد الفساد وضد هيمنة رأس المال علي الحكم وضد إهدار المال وضد الثراء الفاجر الذي حققته مجموعات قليلة من رجال الأعمال الذين لم يكتفوا بما راكموه من ثروات حرام لكنهم أبعد من ذلك أرادوا ايضا أن ينفذوا إلي المجال السياسي حتي يحتكروا عملية صنع القرار التنموي لتحقيق مصالحهم الضيقة حتي لو أضروا إضرارا بليغة بمصالح الشعب. هي احتجاج عنيف ضد الفساد الذي استشري في كل جنبات المجتمع وخصوصا الفساد الكبير الذي مارسه رجال الأعمال وكبار رجال الأعمال. هي ثورة ضد عملية نهب أراضي الدولة التي هي في الواقع أراضي الشعب التي بيت بأثمان بخسة لكبار رحال الأعمال باعوها بعد ذلك بأسعار باهظة وكسبوا من هذه العملية المليارات بدون وجه حق. وهي ثورة ايضا ضد إهدار كرامة المواطن التي اعتدي عليها في تعامله مع الجهات الحكومية المتعددة وخصوصا في تعامله مع الجهات الأمنية. إن المشهد الاجتماعي المصري كما تبلور في السنوات الأخيرة سبق لي أن لخصته في عبارة واحدة هي منتجعات هنا وعشوائيات هناك ذكرت ذلك في برنامج حالة حوار الذي يعده الدكتور عمرو عبدالسميع في التليفزيون الحكومي وليس في قناة خاصة. ويمكن القول انه منذ دعيت للكتابة الأسبوعية المنتظمة في جريدة الأهرام المسائي قررت أن أخصص مقالاتي جميعا للنقد الاجتماعي والسياسي للاوضاع الراهنة في مصر. وأشهد أنه لم تحدث لي ولا كلمة واحدة من مقالاتي التي كانت بالغة الجدة والعنف في نقدها للأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية المتدهورة. وليس هناك من شك في أن تدهور الأوضاع المصرية زاد إلي حد كبير للغاية وخصوصا في السنوات الخمس الأخيرة. وهذا التدهور السياسي كشفت عنه المحاولات المستمرة المنظمة للحزب الوطني الديمقراطي لاحتكار العمل السياسي وتهميش كل أحزاب المعارضة. والدليل علي ذلك أن انتخابات مجلس الشوري الأخيرة شابها التزوير كما أن انتخابات مجلس الشعب كانت والحق يقال فضيحة سياسية كبري تكشف ليس فقط عن ديكتاتورية قبيحة لكن ايضا عن غباء سياسي منقطع النظير! لقد فاجأني من هيمنوا علي هذه الانتخابات وفي مقدمتهم أحمد عز أنهم يمكن أن يلغوا المعارضة مهما تعددت أشكالها بجرة قلم من خلال عملية تزوير جماعية منظمة. وهكذا خرج مجلس الشعب مسخا شأنها لا علاقة له اطلاقا بأي مجلس نيابي صحيح. لقد تحدثنا كثيرا في السنوات الأخيرة عن غياب المشروع القومي والذي أضعف انتماء المواطنين وها هي ثورة شباب25 يناير تقدم لمصر بتلقائية بدون الارتباط بايديولوجية سياسية محددة وبدون قيادة مشروعا قوميا هو بكل بساطة التحول من السلطوية كنظام سياسي إلي الديمقراطية والليبرالية. وهذه العملية لن تتحقق بمجرد اسقاط النظام كما تنادي أصوات الشباب في ميدان التحرير لكنها تحتاج إلي جهود دائبة لتصفية كل قلاع السلطوية في المجتمع المصري لأن لها تجليات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. ليس ذلك فقط بل إن التحدي يتمثل اساسا في رسم ملامح المستقبل. ذلك أن المناداة بالديمقراطية لا يكفي بذاته بل لابد من تحديد مضمونها وأهم من ذلك أهمية تجاوز صور الديمقراطية التمثيلية التقليدية وابتكار ديمقراطية شعبية حقيقة تقوم علي المشاركة الجماهيرية من أول القواعد الشعبية إلي ذروة السلطة وتضمن الرقابة علي عملية اتخاذ القرار حتي لا تصدر القرارات إلا وهي تعبير حقيقي عن مصالح الجماهير العريضة.