تمرد حصان ذات يوم على حظيرته ودعى الله أن يريحه من مشقة العمل عند بستاني لم يرق لحاله ولم يرحم ضعفه فاستجاب الله دعاءه وباعه البستاني لخزاف شاب. لكن العمل عند الخزاف لم يكن أكثر رفاهية ولا أقل قسوة على الأقل كان الحصان يحظى بغفوة هنيئة تحت ظل صفصافة كبيرة وسط البستان أما الآن فلا ظهرا أبقى ولا راحة وجد ولا كَفَّ طبيعة حانية لمس. وقرر الحصان ذات ضيق أن يرفع رأسه تارة أخرى إلى السماء داعيا أن يرزقه الله بخلف يعوضه عما سلف. وفي الليلة نفسها دق باب الخزاف مشتر جديد. رقص الحصان طربا عندما علم أن الرجل دباغ مسن لا يتجاوز وزنه بضعة أرطال من اللحم المقدد. لكنه عندما وصل إلى ساحة الدباغ ورأى جلود الخيل منشورة على الألواح الخشبية هناك خر باكيا وأدرك أنه ذهب إلى مهمة أخرى تتجاوز الأكتاف والعرق. هل كتب على شعبنا المسكين أن تتداوله الأقدام والسياط وأن يندفع مقهورا من حفرة إلى حفرة وهو يهرول مبهور الأنفاس أمام ذئاب تفترش كل الخرائط في محيط كونه الآخذ في التآكل والتقزم ؟. هل قدر عليه أن يباع بأبخس الأثمان مقابل بضائع رديئة من وعود غير قابلة للوفاء أو الرد ؟. هل قدر على ظهر أجير القارات أن يبحث دوما في الرغام عن بقايا كرامة تحفظ ما تبقى له من حياء في عالم لا يحترم دمه المسفوح في كل الميادين وكافة حروب المغامرات الكونية ؟.
حين طال انتظارنا في غرفة الولادة سنوات كهفية ضيقة خربشنا على جدار الصمت أحلاما غير واضحة تحمل كل المعاني وتقود إلى كل الجهات فكنا كمن جلسوا على خشبة مسرح عبثي ذات عرض في انتظار غوردو الذي لا يعلمون بدقة أوصافه ولا يعرفون كيف يبدو. هكذا طال انتظارنا وانتظارهم حلما لا يأتى ولا نستطيع التعرف عليه حتى وإن التقيناه صدفة داخل ميدان. غوردو الذي لم نعرفه وانتظرناه بفائض لهفة عمرا عبثيا طويلا ظهر فجأة حين التقت أكفنا وتلاحمت أكتافنا ذات هتاف. لكن ملامحه تبخرت بعد أن تمردت الأصابع على مفاصلها وتعلمت الأنامل أن تبصم بكل اللغات على بيع خارطة الأمل الوحيدة في بلاد لا تعرف إلا مدونات الخوف على كل المواقع. حين تحركت عربات الإرادة من موقف الميدان دون أن تحدد وجهة مستقبل تفرقت في كل السبل ولم تصل إلى أي غاية لكنها اتفقت جميعا في أدبيات السقوط فتدحرجت في منحدرات الهزيمة عند أول اختبار وسقطت إلى سفح الفكر دون وعي ودون إرادة حتى تنادت ذات هزيمة بالعودة إلى أي اتجاه. تعرفنا على أقسى هزيمة وأقوى وجع حين رأينا غوردو الذي تبدى لنا ذات ميدان في ثياب فارس لا يهاب الموت أو الرصاص أو القنص أو السحل يخر راكعا على ركبتيه ليرسم أول قبلة تحت قدمي الهزيمة دون أدنى حياء. غوردو اليوم لم يعد قادرا على رفع هامته تحت راية العَلَم بعد أن وقّع بكامل شفتيه على أول وثيقة بيع للجلد في مدبغة الكرامة. غوردو الذي حملناه في أحشائنا ورسمناه على جباه أطفالنا يوم ميلاد يخر اليوم ساجدا بين يدي عاهرة تتاجر بشرف الخرائط كلما شعرت بتململ الحدود تحد قبضتها الفاجرة. هل يشعر شهداء الفجر بالأسر مثلنا ؟. هل تملأ وجوههم حسرة الفقد وهم يرون شرفا سكبوا دماءهم طواعية فوق أروقة التاريخ صونا له يدنس في أروقة المطارات وقاعات المحاكم ؟. هل يدفنون رؤوسهم اليوم مثلنا خجلا وهم يرون حرمةً صانوها كالرجال تنتهك فوق كل الشاشات وكل الجرائد وكل العيون المفتوحة على أزرار كرامتنا التي تفتح واحدا بعد آخر كل يوم ؟.
على من سيرسو إذن المزاد في الصفقة التالية ؟. وبكم سيُشتري ما تبقى لنا من تاريخ يستر جلودنا المقشعرة في قبضات النخاسين ؟. هل يراد لنا أن نبكي حظيرتنا القديمة أم يراد لنا التراكض نحو أي اسطبل يفتح أبوابه لأجسامنا المعروقة وأنفاسنا اللاهثة ؟. وهل كتب علينا أن نعيش حمالي أمتعة وحمالي هموم أمام تصرفات حمالة أوجه وحمالة حطب ؟. وهل تحملنا الصفقة القادمة إلى مدبغة الجلود التي لا قيامة بعدها لكينونة ؟. أسئلة تتراقص كبندول الهموم فوق رؤوسنا المشحونة بالترقب ستتكفل الأيام القادمة بإزالة الغبار من فوق إجاباتها.