في الإذاعة الوطنية التونسية في أوائل الخمسينات كان هناك حراس على سلامة اللغة العربية شيوخ عركهم الدهر وتمرسوا بلغة القرآن الكريم وعرفوا مداخلها ومخارجها. وأذكر من هؤلاء المشائخ مصطفي خريف ، حسين الجزيري ، الشيخ اللقاني و المختار البجاوي. وكان المذيعون يجلسون إليهم جلوس التلاميذ إلى أساتذتهم ويتعلموا منهم الكثير وكانت تقدم برامج قيمة تحرص على سلامة اللغة على غرار برنامج "همسات الليل" الذي كانت تقدمه المذيعة القديرة نجوى إكرام ويشرف على إعداده الأديب الكبير مصطفي خريف. وكان عبارة على مرافقة أثيرية في ساعة يهدا فيها الليل ويعم فيها السكون تقدم فيها قطوف دانية من الشعر العربي المختار بصوت نجوى إكرام و هي يقال إنها من أجمل الأصوات الإذاعية في ذلك الوقت فيصبح للشعر و الليل انسياب خاص ممتع فتن الأذان والقلوب. وأنا أذكر هذا لغياب أشياء كان من الممكن أن تكون من الثوابت التي لا يأتي عليها الزمان ولايغيبها الوقت. فاللغة أصبحت على حد قول حافظ إبراهيم : "كثوب ضم سبعين رقعة " .. وأصبحت برامج الشعر إغتصاب للكلمة وللشعر وللغة ، أخطاء فادحة في الإلقاء وأصوات لا تفيض منها حلوة الحرف ولا النبرة. وأيضا تم استبدال لغتنا العربية بمصطلحات دخيلة من القاموس الفرنسي فأصبحت البرامج "عجة بكل الألوان الغربية". أصبحت تفتح المذياع وتصطدم بضجيج وأخطاء ولغة هجينة ربما هذا نتاج لغياب التشبع بالهوية وضحالة الثقافة وهجر القراءة والتساهل وعدم اللامبالاة الذي يؤدي إلى ضياع الحقائق والقواعد وما رسخ في التاريخ من تقديس اللغة العربية لغتنا. أما الشعر فهو أكبر رصيد ثقافي لنا تملكه الأمة العربية ولا يمكن أن نغفله ، لا يمكن أن نألمه ، لايمكن أن نقتله ولايمكن أن يموت .. وكيف ذلك وهو حصيلة أربعة عشر قرناً وزيادة. وإن لم تكن الإذاعة هي المبلغ والموصل الحقيقي فمن تراه يلفت نظر الناس إليه ؟. أقول هذا وأنا أؤمن بان الشعر "ديوان العرب" وهو رصيدنا الحضاري والتراثي والذوقي فدعونا نستمع إليه في إذاعاتنا التونسية بكل الملكات الجميلة !.