أنا سكرتيرة الأستاذ عصام عبدالرحمن! وكلكم تعرفون الأستاذ عصام.. تقرأون له مقالاته وقصصه، وتسلمون له عقولكم وقلوبكم ليقودها بقلمه! ولكنكم لا تعرفونني! وأؤكد لكم أنكم لن تعرفوا الأستاذ عصام إلا إذا عرفتموني! لقد التقيت به لأول مرة منذ خمس سنوات، عندما ذهبت إليه في مكتبه بدار الجريدة، ومعى خطاب توصية من أحد أصدقائه، لأشغل وظيفة سكرتيرة خاصة له.. وكنت أتخيله كما يتخيله كل قرائه.. كهلا فى الخمسين على الأقل.. جادًا وقورًا.. خبيثًا.. مغرورًا.. ولكنى وجدته إنسانا آخر.. شابًا قد يزيد عمره عن الخمسة والثلاثين، ولكنه يبدو فى الثلاثين.. بسيطًا إلى حد السذاجة.. متواضعًا بلاتكلفة كأنه لا يعرف نفسه! ودخلت إليه بلا مقدمات.. قلت للساعى الواقف فى الصالة الخارجية: - الأستاذ عصام من فضلك! فأشار بيده إلى أحد الأبواب، وقال دون أن يتحرك من مقعده: - تفضلي.. وطرقت الباب طرقات خفيفة ولم يرد أحد.. وطرقته طرقات أشد فلم يرد أحد أيضًا، ففتحت الباب ودخلت ووجدته جالسًا وراء مكتبه يكتب.. وظللت واقفة أمامه بضع دقائق وهو لا ينتبه إلي.. ثم اضطررت أن أنبهه قائلة: - تسمح يا أستاذ.. ورفع رأسه وما كاد يلمحنى حتى ابتسم ابتسامة كبيرة، لم تستطع أن تمسح خطوط الإنهاك من فوق جبينه، والنظرات الشاردة فى عينيه! وقدمت إليه الخطاب، وقلت فى أدب. - أنا بعتنى الأستاذ عمر، علشان.. وقاطعنى فرحًا: - انتى السكرتيرة؟ قلت: - بإذن الله! قال وهو يقوم واقفًا ليصافحني: - أنا قلت لهم يحطوا لك مكتب فى الأوضة اللى جنبي.. وانشاء الله حنقدر نتعاون سوا! قلت فى دهشة: - أنا خلاص اتعينت؟! - قال وهو لا يحاول أن يقرأ الخطاب الذى قدمته إليه. - انتى مش عايزة تبقى سكرتيرة؟ خلاص!! قلت وأنا أبتسم فى وجهه كأنى أبتسم فى وجه طفل: - بس لازم أعرف اختصاصاتي.. أعرف سيادتك محتاج لى فى إيه! واختفت الابتسامة من على شفتيه، ومرت على وجهه سحابة من الحيرة.. وعاد يجلس وراء مكتبه، ثم أشار لى بيده لأجلس على المقعد المقابل.. وقال فى صوت كسول كأنه يحلم: - أنا الحقيقة ما اعرفش اختصاصات السكرتيرة تبقى ايه.. أنا عمرى ما كان عندى سكرتيرة.. وعمرى ما فكرت يبقى لى سكرتيرة.. إنما أصحابى كل ما يشوفونى تعبان فى شغلي، يصمموا عليّ أن أجيب سكرتيرة.. ومتهيأ لى أن شغلة السكرتيرة، زى شغلة ست البيت. مراتى بتنظم لى حياتى فى البيت، والسكرتيرة تنظم لى حياتى فى الشغل.. وأنا عمرى ما أعرف أنظم حاجة.. أنا أقدر أكتب لك كتاب فى تنظيم الدولة.. إنما أعجز عن انى أنظم درج مكتبي، أو أنظم وقتي.. أنا شغلى كله ملخبط، أوراقى ملخبطة.. وكتبى ملخبطة. مواعيدى ملخبطة.. ومتهيألى انى لو نظمت الحاجات دى كلها حااقدر انتج اكتر. واستريح أكتر.. ومش بس كده.. متهيألى ان اختصاص السكرتيرة، انها تبقى حتة من عقلي.. تدخل جوه عقلى وتنظمه.. عقلى زى الراديو فيه محطات كتير.. فيه سياسة واجتماع ومقالات وقصص ومحاضرات.. ومفتاح الراديو ده لازم يكون فى ايد أمينة فاهمة.. تدوره زى ما هى عايزة.. تدوره على المحاضرات يقول محاضرات! وسكت الأستاذ عصام برهة، ثم استطرد: - متهيألى انى باقول كلام خيال. زى ما اكون باحلم! قلت: - أبدا.. سيادتك فاهم شغلة السكرتيرة كويس! وابتسم ابتسامة صغيرة، ثم فتح درج مكتبه، وأخرج حزمة من المفاتيح، ناولها لي، قائلا: - دى كلها المفاتيح اللى حيلتي.. مفاتيح مكتبي، ومفاتيح الدواليب اللى فى الأوضة دي، والأوضة اللى جنبها.. دواليب مليانة أوراق ودوسيهات ومراجع.. ولازم كلها حاجات مهمة بدليل انى احتفظت بيها.. انما ما اقدرش أقول لك هى ايه، لأنى ناسى أنا شايل ايه ورميت ايه.. ولما باعوز حاجة من الدواليب دى باقعد جمعة وجمعتين أدور عليها ويمكن مالقيهاش! وقمت لأخرج وأنا مذهولة من الثقة التى وضعها فى دون أن يعرفني.. انه لم يسألنى شيئًا، لم يسألنى حتى عن اسمي.. والتفت اليه قبل أن أخرج من الباب، وقلت له: - أنا اسمى خديجة! ولكنه كان قد عاد وأمسك بقلمه وبدأ يكتب.. فلم يسمعني! وابتسمت وخرجت! وهكذا بدأ عملى مع الأستاذ عصام عبدالرحمن.. وقد وجدت فى الدواليب كنوزًا مهملة.. قصصا رائعة كتبها عصام، واحتفظ بها ليعدها للنشر ثم نسيها.. وعقودًا لم تسدد قيمتها، ملقاه وسط وثائق سياسية، و.. و.. و.. وقضيت شهرين وأنا أنظم هذه الكنوز فى مجموعات متناسقة مرقمة.. ثم بدأت أفهم عمل الأستاذ عصام.. وأفهم عقليته.. وتصرفاته.. وأدرس أعصابه.. وبدأت أتدخل فى كل شيء.. كل شيء.. حتى انى كنت أعد أعقاب السجائر التى يتركها فى المنفضة بعد أن يخرج، لأعرف كم سيجارة دخنها.. وأذوق القهوة التى يشربها حتى أتأكد من أن عامل البوفيه لا يغش البن.. وكنت أطوف بالمكتبات قبل عودتى للبيت، لأشترى له الكتب الحديثة وكنت أفاوض ناشرى قصصه.. واستطعت أن أرفع ما يدفعونه له إلى ثلاثة أضعاف.. وكنت أنا التى أقبض له نقوده.. وأنا التى أضعها له فى جيبه.. وفى الوقت نفسه جعلت من مكتبه قطعة من الجنة.. قطعة مشرقة.. منيرة.. أزينها كل يوم بوردة حمراء! ولم أكن أستطيع تنظيم الأستاذ عصام، إلا إذا نظمت علاقته بكل من يشتغلون معه فى الدار.. سواء من المحررين أو السعاه.. وحاول هؤلاء أن يتمردوا علي، وأن يتحدوا سلطاتي.. ولكنى استطعت أن أخضعهم وأطوى ثورتهم.. فلم يعد واحدا منهم يستطيع أن يتصل بالأستاذ إلا عن طريقي.. ولم يعد الأستاذ يبتسم لواحد منهم إلا إذا ابتسمت له أنا أولا.. كل ذلك والأستاذ مستسلم لى كالطفل الذى وجد أمه.. أصبح لا يرى إلا بعيني.. ولا يسمع إلا بأذني.. وهو سعيد.. انه يرى إنتاجه يزداد.. ودخله يزداد.. ويومه يتسع.. وعقله المرتبك يصفو.. ونفسيته الحائرة تستقر.. وبدأ الذين يشتغلون فى دار الجريدة يحاربوننى بالشائعات.. أشاعوا أن بينى والأستاذ علاقة حب، وأنه يتردد كل مساء على الشقة الصغيرة التى أقيم فيها وحدي، والتى تطل على ميدان سليمان باشا.. ولم تكن هذه الشائعة صحيحة.. أقسم لكم أنى فى خلال ثلاث سنوات قضيتها فى وظيفة السكرتيرة لم يكن بينى و الأستاذى شيء.. ورغم ذلك فلم يكن عصام مجرد رجل اشتغل عنده.. كان أكثر من ذلك بكثير.. كنت أحس كأنه ابني.. أكثر من ابني.. انه شيء أملكه.. أملك عقله.. وأملك وقته.. شيء أصنعه بيدي.. أنتم لا تدرون كم كنت أبذل فى صنعه.. لقد كنت أذهب إلى المكتب فى الساعة الثامنة صباحا، لأعد له أوراقه، وأعد له برنامج يومه.. ثم أخرج فى الساعة الثانية مساء لأتناول غدائي، وأنا أفكر فيما ينقصه، وفيما سأعده له فى السماء.. ثم أعود الى المكتب ملهفوة كإنى غبت عنه أياما.. وكأن عصام قد فقد مني.. وأظل حتى التاسعة مساء ثم اضطر أن أعود الى بيتي، وأتركه فى المكتب ليكتب.. ولا أنام.. بل أظل ساهرة بجانب التليفون، لعله يحتاج لشيء فيطلبني.. وأقضى الوقت أقرأ الصحف الفرنسية والانجليزية وألخصها له لأعرضها عليه فى اليوم التالي، حتى أقدر أن عصام قد انتهى من عمله وعاد الى بيته.. فأنام.. لأصحو ملهوفة عليه.. وقد كنت أغار عليه.. هذا صحيح.. ولكنها لم تكن غيرة كغيرة البنات.. نوع آخر من الغيرة.. كنت أغاد على كل شيء أملكه.. وأخاف أن يأخذ أحد منه شيئًا.. أن يسرقه أحد مني.. أن يهدم جزءًا مما أبنيه.. كنت أغار عليه غيرتى على عملي.. وعصام متزوج كما تعلمون.. وقد رأتنى زوجته لأول مرة بعد أن استلمت عملى بثلاثة أشهر.. ولاشك أنها اطمأنت الى عندما رأتني.. فأنا لست جميلة.. لست أجمل منها ولافى مستوى جمالها.. ربماكان قوامى أرشق من قوامها، ولكنى لست جميلة الوجه، ولا يبدو على أنى من صنف البنات اللاتى يصطدن الرجال.. كل ما يبدو عليّ أنى فتاة جادة.. فتاة عمل.. ولكن على مر الأيام بدأت الزوجة تحس بنفوذى وسلطاتى داخل دائرة.. عمل زوجها.. وربما أحست باستسلام زوجها لي.. حتى أنها أصبحت تأخذ مصروف البيت عن طريقي.. وإذا سألت عن شيء.. عن أى شيء قال لها: "إسألى خديجة".. إذا سألته: - نقدر نروح سينما الليلة؟ أجاب ببساطة وسلامة نية: - أما أسأل خديجة.. أشوف ورايا إيه! وبدأت الزوجة تغار.. وبدأت تحاول أن تشعرنى دائما بأنى سكرتيرة.. مجرد سكرتيرة.. ولا يمكن أن أكون أكثر من سكرتيرة.. كانت تتصل بى فى التليفون، وتقول لى من طرف أنفها: - من فضلك وانتى جاية، فوتى على شيكوريل هاتى الفستان بتاعى من عنده! وكنت ألبى أوامرها.. ولكنها تمادت.. وأحسست أنها تتعمد إهانتى وتحقيري. فلم أعد أؤدى لها شيئًا.. انى سكرتيرة زوجها، ولست سكرتيرتها.. واختصاصاتى هى عمل زوجها، لا إحضار ثيابها من عند شيكوريل.. وبدأت معركة صامتة بينى وبينها.. كانت تأتى الى المكتب.. وتنقل الزهرية من مكانها الى مكان آخر.. وتنقل هذا المقعد.. وهذه المنفضة.. وتلقى أوامر إلى السعاه..و.. و.. وأنا أكاد أجن.. أنى لا أتدخل فى شئون بيتي.. وهذا المكتب هو بيتي.. بيتى أنا.. ليس لى بيت آخر أنا سيدته.. وقد ضحيت فى سبيل هذا البيت.. بل رفضت أن أتزوج.. وأرفض أن أتزوج.. فى سبيل هذا البيت. وصبرت على الزوجة! ثم جاءت يومًا الى المكتب.. وحاولت أن تدخل الى زوجها فقلت لها فى أدب: - عنده اجتماع.. وكان فعلا مشغول باجتماع هام مع شخصية سياسية كبيرة، ولكنها صرخت فى وجهى كأنها تصفعني: - انتى اتجننتي.. ازاى تمنعينى أدخل لجوزي.. انتى فاكرانى موظفة زيك.. انتى زودتيها قوي.. لازم تعرفى حدودك! وسكت! وفتحت الباب ودخلت.. ومن يومها أصبحت الحرب بينى وبينها من يومها أصرت على أن يطردنى عصام من العمل.. وجمعت كل الشائعات الكاذبة التى أشيعت عنى وعنه وأشهرتها فى وجهه.. انت بتحبها.. انت بتخونى معاها.. الصرصارة.. الوحشة! وبدأ عصام يتعذب! وبدأ عذابه يربك تفكيره.. وروحه وعمله.. وعجزت أن أسيطر عليه.. عجزت أن أدير مفتاح الراديو.. كما كنت أديره! وكنت أعرف أنه يعانى أزمة الخيار بينى وزوجته.. إما أن يطردني.. أو يطلقها.. وكان أضعف من أن يختار.. كان أطيب قلبًا من أن يضحى بزوجته التى عاش معها أكثر من عشر سنوات.. وأضعف من أن يستغنى عني. وهو يعلم مدى حاجته إليّ! وكنت أتمنى أن يطلقها.. ما جدواها فى حياته.. ما جدوى أى زوجة فى حياة فنان مثل عصام.. انها فقط مظهر.. انها ثوب يرتديه استكمالا للشكل.. انها لا تعينه فى عمله، ولا فى حياته.. بالعكس انها عبء عليه.. انها عذاب يسرى فى أعصابه.. وأنا التى يحتاج اليها.. أنا التى تدير مفتاح الراديو ليملأ آذان العالم فنًا ومجدًا.. انه يرانى أكثر مما يراها.. وأتعب من أجله أكثر مما تتعب.. هذه المدللة التافهة! إلى أن كان يوم! ودخلت الزوجة على كالزوبعة، وصرخت فى وجهي: - اسمعي، انتى لازم تخرجى من هنا حالا، دلوقتي، اذا كان عصام مش قادر يقول لك انك لازم تنطردي، أدينى باقولك.. كفاية.. خسرتى سمعته.. وهدمتى بيته.. امشى اطلعى برة! ورفعت رأسي، ونظرت اليها باحتقار، وقلت: - لو كنت عارفة ان الأستاذ عصام مش عايزني، ماكنتش استنيت لغاية ما يطردني.. وأحب أقولك انه محتاج لى اكتر منك.. انتى صحيح مراته.. انما ما تعرفيش انه أطيب من أنه يخونك! وعادت تصرخ: - امشى اطلعى برة.. اطلعى برة.. انتى مرفوضة.. انتى مرفوضة! وتجمع المحررون عند الباب يشاهدون الخناقة بين الزوجة والسكرتيرة، وقلوبهم ترف بالشماتة! وخرج عصام من مكتبه، ووقف بين زوجته وسكرتيرته ذاهلا! ونظرت اليه بكل عيني! ولأول مرة أعرف أنى أحبه.. أحبه ضعيفا كما هو.. ذاهلا كما هو.. فنانا كما هو.. أحبه أكثر مما تحبه زوجته.. وألف امرأة مثل زوجته.. ولأنى أحبه أكثر منها.. كان يجب أن أضحى به! تركته! وعدت الى بيتى أبكي.. أبكى كل ما بنيته.. أبكى الانسان الذى صنعته بيدي.. وانقضت أيام طويلة.. وأنا وحدي.. أفكر فيه.. وأتبعه بخيالي.. ترى هل كتب المقال.. هل أعد مسودات الكتاب.. هل حضر الاجتماع.. هل قبض الشيك.. هل عاد عامل البوفيه يقدم له قهوة مصنوعة من بن مغشوش.. و.. ومضى أكثر من عشرين يوما! وكنت جالسة فى بيتى وحدي.. والساعة الحادية عشرة مساءً، عندما دق جرس الباب! وارتديت (الروب دى شامبر) فوق قميص النوم، وفتحت.. انه عصام! مذهولا.. ممتقعًا.. شارد العينين.. ودخل صامتا دون أن أدعوه إلى الدخول، وأخذ يطوف بأرجاء الغرفة فى خطوات تائهة.. لا يتكلم.. وأنا أنظر إليه، وقلبى يخفق! ورفع رأسه، وقال كأنه يبكي: - أنا مش قادر يا خديجة.. مش قادر استغنى عنك.. مش عارف اشتغل.. مش عارف أعيش.. مش عارف أكتب.. حياتى ارتبكت أكتر من الأول! واقتربت منه، ووضعت أطراف أصابعى على كتفه، وقلت وكلماتى ترتعش: - أنا لسه معاك.. حافضل طول عمرى معاك.. ونظر الي طويلا.. ثم فجأة جذنبي اليه.. وضمنى إلى صدره بقوة.. وأخفى وجهه فى عنقى وهو يقول: - ما تسبنيش يا خديجة ما تسبنيش..
لقد رفضت الزوجة أن أكون سكرتيرة لزوجها.. فأصبحت عشيقة له.. أرجوكم.. لا تلوموني.. ولا تلوموه.. هكذا أرادت.. الزوجة.