أعتقد أن النيابة العمومية في مصر تسرف إسرافا شديدا في إصدار قراراتها الخاصة بحظر النشر ومنع الصحف من التعرض » من قريب أو من بعيد للتحقيق في قضية كذا أو تهمة كيت.. وإلا كانت الصحيفة عرضة لمحاكمتها بمقتضي المادة كذا من قانون العقوبات.. وحظر النشر هذا قد تناول حتي اليوم في مصر » وفي خلال السنوات القليلة الأخيرة قضايا كبيرة وقضايا تافهة صغيرة. قضايا تتعلق بالأمن العام وقضايا تهدد النظام العام. وقضايا تمس الآداب العامة..وقضايا تتعلق بالصحة العامة.. قضايا من كل الأنواع.. قضية القنابل..ممنوع النشر بأمر النيابة العمومية ! قضية الاغتيالات السياسية، ممنوع النشر بأمر من النيابة العمومية ! قضية الشيوعية...ممنوع النشر ! ومثلها وقبلها قضية المخدرات الكبري وقضية إفساد الشبان.. ويطول المقام وقد تخونني الذاكرة إذا حرصت علي سرد جميع القضايا التي أصدرت فيها نيابتنا العمومية أمرا بحظر النشر ! وحجة النيابة العمومية في هذا هي الغيرة علي سير التحقيق.. وحرصها » حرص النيابة » علي المصلحة العامة وضمان العدالة..إلي آخره كأنما الغيرة علي المصلحة العامة والغيرة علي مصلحة التحقيق والعدالة وقف علي النيابة العمومية في مصر وحدها دون شريك. وكأنما قضاة التحقيق في فرنسا مثلا أو رجال البوليس في لندن » سكوتلاند يارد وهم الذين يتولون التحقيق هناك في الجرائم » أو رجال البوليس والمدعي العام في أمريكا.. كأنما هؤلاء وهؤلاء قوم لا أخلاق لهم ولا ذمة ولا ضمير لأنهم لا يغارون في بلادهم علي تحقيق العدالة ولا يحرصون علي المصحة العامة أوحسن سير التحقيق.. ذلك لأن هيئة التحقيق في هذه البلدان- سواء كانت النيابة العامة أو إدارة البوليس- لم تصدر ولا مرة واحدة أمرا بحظر النشر يحرم علي صحافة البلد تناول القضية من قريب أو من بعيد ! ومع ذلك فقد قامت في فرنسا مثلا قضايا هزت الرأي العام هزا عنيفا » بل وهددت نظام الحكم وسلامة الدولة وأمنها العام...دون أن تصدر النيابة العمومية في فرنسا أمرا بحظر النشر ! قضية ستسافكي مثلا في عامي 1932 و1933 وكانت فضيحة مالية خطيرة تناول التحقيق فيها أسماء وزراء من رجال الحكم وأسماء أقطاب من عظماء وكبار مالييها. وقضية المؤامرة في شهر مايو الماضي وخلاصتها كما كشف التحقيق أنه كانت هناك حركة سرية يتزعمه بعض قواد الجيش الفرنسي وكانت ترمي إلي الزحف في يوم معين علي باريس والاستيلاء بالقوة علي السلطة واعتقال رجال الدولة وأقطاب الحكم.. هل يمكن أن يوجد أخطر من هذه وأكبر، ومع ذلك فإن المحقق لم يصدر أمره بحظر النشر. وراحت الصحف الفرنسية تبعث بمندوبيها ومخبريها هنا وهناك يجمعون لها التفاصيل ويلتقطون صورا للقواد والضباط الذين استدعاهم المحقق.. أثناء دخولهم أو خروجهم من غرفة المحقق..وصور بعضهم وقيد الحديد في يديه أثناء ذهابه إلي السجن ! وقضية البليونير »لا المليونير » جو فانوفيتش وقد قبض عليه أخيرا.. وهو متهم بالاتجار في السوق السوداء بالتعاون مع الألمان أثناء الحرب وبأنه أفسد ذمم كبار رجال البوليس في باريس.. وبينهم مدير البوليس في باريس نفسها. ولقد تناولت صحف فرنسا هذه القضية ونشرت يومها كل ما يمكن نشره من التفاصيل وكان من بينها أن مدير بوليس باريس هو الذي حذر جو فانوفيتش بالتليفون وقال له:" إنج بنفسك حالا فقد أصدر المحقق أمره بالقبض عليك " ! كل هذه التفاصيل تنشر ولا يجد فيها المحقق الفرنسي » ما يجده زميله المصري » ما يتعارض مع مصلحة العدالة وسير التحقيق ! وفي إنجلترا قضية ماركوني الشهيرة التي تناولت تشرتشل ولويد جورج..و قضية خطاب الوزير الروسي زينوفيف وقد طوحت بوزارة العمال في عام 1925. وقضية مستر توماس الوزير في حكومة العمال عام 1930.. وأخيرا قضية النائب عضو مجلس العموم البريطاني الذي اتهم بعض زملائه في المجلس بأنهم "يقبضون مصاريف سرية" من بعض الصحف ليوافوها بالأخبار..ثم اتضح أنه هو الذي يفعل ذلك ! هذه كلها قضايا هامة كبيرة وخطيرة..وبينها ما له علاقة بالنظام العام.. وما له علاقة بسلامة الدول.. وما له علاقة بسمعة الحكم.. ومع ذلك لم تصدر هيئة التحقيق أمرا بحظر النشر ! أما هنا في مصر فإنني لا أذكر قضية هامة واحدة أو لها شئ من الأهمية إلا بادرت النيابة العمومية وهزت أصبعها في وجه الصحافة محذرة إياها من نشر أي تفصيل عن القضية موضع التحقيق ! هذا وسوق الإشاعات تزدحم، ومراسلو الصحف الأجنبية يتلقفون الإشاعات ويبرقون بها » من مكاتب التلغرافات المصرية إلي صحفهم لكي تنشر في العالمين.. وتتناول محطات الإذاعة الأجنبية، وبينها محطات فلسطين وسوريا ولبنان والعراق » هذه الإشاعات وتذيعها بلسان عربي مبين... يسمعه المصريون ! وعدد الصم في مصر لا يتجاوز 3%.. أي إن الذين يستطيعون سماع هذه الأخبار الممنوعة يبلغ عددهم 97% أما عدد الأميين في مصر فلا يقل عن 85% أي أن عدد الذين يستطيعون قراءة هذه الأخبار لا يزيد علي 15 % ! آخر ساعة - 3 ديسمبر 1947