قبل سبع سنوات وشهور من اليوم، وجهت لي رئاسة المخلوع مبارك دعوة رسمية لحضور حفل خطاب أوباما الشهير في جامعة القاهرة، وكانت تلك هي المرة الوحيدة التي خاطبتني فيها الرئاسة إياها بغير لغة القمع والمطاردة والتجويع، كنت وقتها المنسق العام المنتخب لحركة »كفاية»، وقد انتظرت إلي أن وصلت الدعوة بالسلامة إلي منزلي، ثم عقدنا مؤتمرا صحفيا، مزقنا فيه دعوة الرئاسة علي رءوس الأشهاد، ورفضنا المشاركة في لقاء الزور، وكان رأينا ولايزال، أن أمريكا ليست جمعية خيرية، وأن الحدأة لا ترمي الكتاكيت، وأن وجود أمريكا في مصر، وتكثيف حضورها منذ زيارة نيكسون في أواسط السبعينيات، وتطور ما أسمي »العلاقة الخاصة» مع واشنطن، كان العلامة الأظهر علي هوان وانحطاط لحق بالبلد، واحتلال للقرار الاقتصادي بعد السياسي، وإضعاف وإهلاك قوة مصر الذاتية، وهو ما يصح أن نتذكره دائما، وألا نعود إلي حالة الولع المرضي بالرضا الأمريكي الخادع، وعلي طريقة حماس دوائر في الإعلام والسياسة المصرية لانتخاب دونالد ترامب رئيسا جديدا لأمريكا، وعلي ظن أنه رجل النعمة لا عنوان اللعنة ذاتها، وأنه قد يحل لنا مشاكلنا، أو يخوض عن النظام حربه الداخلية مع جماعة الإخوان. نعم، كان فوز الملياردير دونالد ترامب له وقع المفاجأة، وجاء الفوز المثير تعبيرا عن أزمة أمريكية لا كعلامة عافية، فالرجل يمثل بشخصه حيرة »الكاوبوي» البائس، بغلظته وعجرفته وعدوانيته التي أبادت الهنود الحمر زمن التكوين الأمريكي، والساعية للخلاص الآن من تكاثر اللاتينيين والزنوج والمسلمين الأمريكيين، وبسلاح الكراهية والعنصرية المقيتة ذاتها، وبسبل التهجير والملاحقة والمنع وإقامة الأسوار، وفي سياق أزمة أقعدت الرأسمالية الأمريكية، ونزعت عنها صناعاتها الإنتاجية الكبري، وأثقلتها بديون وصلت إلي 29 تريليون دولار، جعلت أمريكا أكبر مدين في مطلق التاريخ الإنساني، وجعلتها تستقوي بالبلطجة والعضلات المسلحة لتعويض تراجع وتدهور اقتصادها، وهو ما يفسر جانبا من ظاهرة ترامب المأزومة، فهي تعبير عن احتجاج عام علي المؤسسة الأمريكية الفاسدة بامتياز، والعاجزة عن تقديم أي حلول حقيقية إنسانية وعادلة، وبما لا يستبقي سوي ظواهر تعصب بدائي علي طريقة صعود ترامب، وهو جزء من سلوك يميني متطرف، تصعد جماعاته شعبيا في الغرب الأوروبي، وعبر »الأطلنطي» إلي أمريكا، وعلي خلفية بؤس شامل تتسع معه رقعة الفقراء والمهمشين، وعلي نحو يذكر بصعود النازية والفاشية زمن أزمة الكساد الرأسمالي العظيم في ثلاثينيات القرن العشرين، وإن كان يأخذ هذه المرة صورا مختلفة، تعكس في حالة ترامب ميلا إلي الانعزال بأمريكا، وتأجير عضلاتها وسلاحها مقابل الدفع الفوري، وعلي ظن أن فرض الإتاوات قد يصلح ما فسد من ملح الرأسمالية الأمريكية. وعلي النقيض مما توحي به عجرفة ترامب الشخصية، وجهالته العظيمة بشئون السياسة، فإن ظاهرة الرجل تعكس ضعف أمريكا لا قوتها المفترضة، فلم تعد أمريكا هي »القوة العظمي» بألف ولام التعريف والحصر، ولم تعد هي القطب الوحيد القادر علي تصريف أمور الكون وضبط توازناته، فقد صعدت قوي عظمي عديدة في مجالات الاقتصاد والسلاح، وصار الاقتصاد الصيني هو القوة العالمية البازغة المسيطرة بإطراد، وعادت روسيا بقوة سلاحها للعب دور دولي متزايد، ولم يبق لدي أمريكا سوي أن تتواضع، وأن تعترف بحقائق وتوزيعات القوي الدولية الجديدة، وأن تسعي للتفاهم معها لا الوصاية عليها، فقد نزلت أمريكا عن عرش »القوة العظمي» الوحيدة، وصارت مجرد »قوة عظمي» بين متعددين، وقد كان انتخاب أوباما الأسود تعبيرا عن شعور أمريكا بالرغبة في التواضع، والتسليم بالعجز عن شن حروب برية تضمن النصر فيها، وكانت حرب واشنطن في العراق هي »العشاء الأخير»، وهو ما يفسر ميل أوباما لتقليل الانخراط الأمريكي في نزاعات العالم الحربية، وبالذات في منطقتنا التي تشكل قلب الدنيا جغرافيا، ومن هذه الزاوية بالذات، تبدو ظاهرة ترامب امتدادا مراوغا لظاهرة أوباما، واعترافا غريزيا بتراجع الدور الأمريكي، وهو ما يفسر ميل ترامب إلي التفاهم مع روسيا بوتين، وترك مناطق نفوذ بكاملها لحساب موسكو، وعلي طريقة ما يجري وسيجري في المشرق العربي ودول جواره في تركياوإيران، ومع تجريب الطلقة الأخيرة في جراب ابتزاز وسلب ما تبقي من ثروات ممالك وإمارات الخليج العربي، وفرض إتاوات حماية، يسد بها رمق الخزانة الأمريكية الخاوية الجائعة، والعاجزة في الوقت نفسه عن نهوض ذاتي، تجاري به عواصف صعود الاقتصاد الصيني، أو كفاءة اقتصاد ألمانيا التي تبدي اشمئزازها من ابتزاز ترامب. والمعني بوضوح، أن حقائق القوة هي التي تفرض اعتباراتها، وأن أحدا في مصر لا يصح أن ينتظر عطف ترامب، ولا بركة أمريكا التي ينتظرونها مع رئاسته للبيت الأبيض، وخذوا العظة والعبرة من تاريخنا القريب عبر أربعين سنة مضت، فلم تنفعنا المعونات، بل أذلت رقابنا، وجعلت اقتصادنا في قاع القاع، وحجبت عن مصر دورها الطبيعي الطليعي المستحق في أمتها العربية، فقد زاد ضعف مصر برغم تدفق المعونات، بينما صعد دور إيران برغم اتصال العقوبات، وكلمة السر في الاستقلال الوطني، وفي طبيعة الاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وقد استفادت مصر من عقوبات أمريكا لا من معوناتها خلال السنوات الأخيرة، ونجحت في تنويع مصادر السلاح بعد خفض أوباما لمعوناته العسكرية، وضاعفت قوة الجيش، وفتحت الملفات المسكوت عنها، وقررت استئناف مشروعها النووي السلمي، واستعادت جوانب معتبرة من استقلال قرارها الوطني، وجري ذلك بفضل التحلل النسبي من روابط التبعية الموروثة للأمريكيين، واتخاذ مواقف مختلفة في السياسة العربية والدولية، والشروع في نهوض لن يقوم بغير أولويات التصنيع الشامل والديمقراطية السياسية والعدالة الاجتماعية، وهذا هو التحدي الحقيقي الذي يواجه مصر الآن، وليس الانشغال والتخويف من »أشباح» الإخوان، ولا انتظار معونة المعتوه ترامب.