ارتفاع طفيف في سعر اليورو أمام الجنيه المصري اليوم الجمعة 24 أكتوبر 2025    أسعار الفاكهة اليوم الجمعة 24-10-2025 في قنا    جديد سعر الدولار اليوم وأسعار العملات أمام الجنيه    موعد تطبيق التوقيت الشتوي في مصر 2025.. تعرف على تفاصيل تغيير الساعة وخطوات ضبطها    مصطفى البرغوثي: الموقف المصري أفشل أخطر مؤامرة ضد الشعب الفلسطيني    الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين: نجاح الجهود المصرية بتثبيت وقف النار إنجاز كبير    تغييرات عديدة في تشكيل الزمالك المتوقع لمواجهة ديكيداها بالكونفدرالية    حالة الطقس ودرجات الحرارة اليوم الجمعة 24-10-2025 في محافظة قنا    تعرف على الحالة المرورية اليوم    حفل زفاف حاتم صلاح يشعل السوشيال ميديا.. مصطفى غريب يسرق الأنظار برقصه والعروس تخطف القلوب    هنادي مهنا: «أوسكار عودة الماموث» يصعب تصنيفه وصورناه خلال 3 سنوات بنفس الملابس    فردوس عبدالحميد: كنت خجولة طول عمري والقدر قادني لدخول عالم التمثيل    محمد ثروت: «القلب يعشق كل جميل» غيّرت نظرتي للفن.. والأبنودي الأقرب إلى قلبي و50% من أعمالي معه    تعطيل الدراسة أسبوعًا في 38 مدرسة بكفر الشيخ للاحتفال مولد إبراهيم الدسوقي (تفاصيل)    «مبحبش أشوف الكبير يستدرج للحتة دي».. شريف إكرامي يفاجئ مسؤولي الأهلي برسائل خاصة    التفاصيل الكاملة ل اللوتري الأمريكي 2025 (الشروط ومن يحق له التقديم)    قاذفات «بي-1» الأمريكية الأسرع من الصوت تحلق قرب ساحل فنزويلا    بعد «أقدم ممر فى التاريخ» و«موكب المومياوات».. مصر تستعد لإبهار العالم مجددًا بافتتاح المتحف المصرى الكبير    عمرو دياب يتألق في أجمل ليالي مهرجان الجونة.. والنجوم يغنون معه    الاتصالات: لم نطبق القانون بأثر رجعي بعد غلق 60 ألف هاتف معفى.. وأمهلنا أصحابها 90 يومًا    استخراج جثة متوفي من داخل سيارة اشتعلت بها النيران بطريق السويس الصحراوى.. صور    في أجواء روحانية، طوفان صوفي في الليلة الختامية لمولد أبو عمار بالغربية (فيديو)    خطة أمريكية جديدة لحل مؤسسة غزة الإنسانية المثيرة للجدل واقتراح البديل    الاتحاد الأوروبي يسعى لدور أكبر في غزة والضفة بعد اتفاق وقف إطلاق النار    أسماء المرشحين بالنظام الفردي عن دوائر محافظة بني سويف بانتخابات مجلس النواب 2025    نوفمبر الحاسم في الضبعة النووية.. تركيب قلب المفاعل الأول يفتح باب مصر لعصر الطاقة النظيفة    مهرجان الموسيقى العربية ال33 يحتفي بأساطير الطرب.. ثروت وناجي يعيدان سحر حليم ووردة| صور    فتاة تتناول 40 حبة دواء للتخلص من حياتها بسبب فسخ خطوبتها بالسلام    دوي صفارات الإنذار في تجمعات سكنية قرب غزة.. وبيان عاجل من الجيش الإسرائيلي    النيابة العامة تنظم دورات تدريبية متخصصة لأعضاء نيابات الأسرة    في قبضة العدالة.. حبس 3 عاطلين بتهمة الاتجار بالسموم بالخصوص    «مش بيكشفوا أوراقهم بسهولة».. رجال 5 أبراج بيميلوا للغموض والكتمان    وكيل صحة الفيوم تفتتح أول قسم للعلاج الطبيعي بمركز يوسف الصديق    «بالأرز».. حيلة غريبة تخلصك من أي رائحة كريهة في البيت بسهولة    82.8 % صافي تعاملات المستثمرين المصريين بالبورصة خلال جلسة نهاية الأسبوع    الشناوي يكشف مكافأة لاعبي بيراميدز عن الفوز بدوري الأبطال    التجربة المغربية الأولى.. زياش إلى الوداد    طريقة عمل صوابع زينب، تحلية مميزة لأسرتك    نصائح أسرية للتعامل مع الطفل مريض السكر    مجموعة "كايرو ثري إيّه" تدعم وحدة زراعة الكبد في مستشفى الناس بمبلغ 50 مليون جنيه    فحص فيديو تعدى سائق نقل ذكى على فتاة فى التجمع    طعن طليقته أمام ابنه.. ماذا حدث فى المنوفية؟.. "فيديو"    بعد المشاركة في مظاهرة بروكسل.. أمن الانقلاب يعتقل شقيقا ثانيا لناشط مصري بالخارج    مجلس الوزراء اللبناني يقر اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع قبرص    مدرب بيراميدز يتغنى بحسام حسن ويرشح 3 نجوم للاحتراف في أوروبا    محمد كساب: ستاد المصري الجديد تحفة معمارية تليق ببورسعيد    نجم غزل المحلة السابق يشيد ب علاء عبدالعال: «أضاف قوة مميزة في الدوري»    ماكرون: العقوبات الأمريكية ضد روسيا تسير في الاتجاه الصحيح    الأمين العام لمجلس الكنائس العالمي: وحدة الكنيسة ليست خيارًا بل طاعة لنداء المسيح    لماذا لم تتم دعوة الفنان محمد سلام لمهرجان الجونة؟.. نجيب ساويرس يرد    راقب وزنك ونام كويس.. 7 نصائح لمرضى الغدة الدرقية للحفاظ على صحتهم    النيابة تكشف مفاجأة في قضية مرشح النواب بالفيوم: صدر بحقه حكم نهائي بالحبس 4 سنوات في واقعة مماثلة    إكرامي: سعداء في بيراميدز بما تحقق في 9 أشهر.. ويورشيتش لا يصطنع    ما الدعاء الذي يفكّ الكرب ويُزيل الهم؟.. أمين الفتوى يجيب أحد ذوي الهمم بلغة الإشارة    هل تأخير صلاة الفجر عن وقتها حرام؟| أمين الفتوى يجيب    الشيخ خالد الجندي: الطعن فى السنة النبوية طعن في وحي الله لنبيه    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 23-10-2025 في محافظة الأقصر    ما حكم بيع وشراء العملات والحسابات داخل الألعاب الإلكترونية؟ دار الإفتاء تجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أدباء وكتاب أسقطهم التاريخ الأدبي‮ ‬
محمد خليل قاسم‮ ‬ و إشكالية الأدب النوبي
نشر في أخبار الحوادث يوم 19 - 11 - 2016

رغم أن رواية‮ "‬الشمندورة‮" ‬للكاتب والأديب الراحل محمد خليل قاسم،‮ ‬الفريدة في سردها الشفاف والعذب والواقعي الرومانتيكي،‮ ‬لعبت دورا كبيرا في شحذ همم وطاقات جيل كامل من الأدباء النوبيين،‮ ‬مثل‮ ‬يحيي مختار وحجاج أدول وحسن نور وإدريس علي وابراهيم فهمي،‮ ‬واستطاعوا أن‮ ‬يعبروا بطرق وأساليب مختلفة عن هموم‮ "‬النوبي التائه‮" ‬في بلاد الشمال،‮ ‬ذلك النوبي الذي أجبر منذ عقود من الزمان علي ترك ملاعب صباه وحبه وتعليمه وحياته كلها،‮ ‬وتشريده أو تهجيره،‮ ‬وتسكينه في أماكن‮ ‬غريبة عليه وعلي ثقافته وتقاليده تماما،‮ ‬وقد أثري هؤلاء المكتبة الأدبية العربية بنماذج سردية مفعمة بذلك الألم المفرط الذي تركته تلك المأساة الانسانية،‮ ‬مأساة اقتلاع النوبيين من تاريخهم المكاني والزماني والاجتماعي والثقافي،‮ ‬ومحاولة زرعهم في تاريخ آخر،‮ ‬أو إضافتهم بشكل كمّي بائس‮.‬
ولكن مافعله النوبيون منذ أربعينيات القرن الماضي،‮ ‬كان مدهشا،‮ ‬إذ استطاعوا أن‮ ‬يأخذوا أماكنهم الطبيعية في الثقافة المصرية والانسانية،‮ ‬والتحقوا بمنظمات‮ ‬يسارية ومتمردة،‮ ‬وأنشأوا لأنفسهم كيانات ثقافية واجتماعية،‮ ‬وعلي رأسها‮ "‬النادي النوبي‮"‬،‮ ‬للحفاظ علي ذلك التراث الثقافي واللغوي والفني،‮ ‬وكان من أبرز الوجوه النوبية التي شاركت في الحياة الثقافية والأدبية والسياسية المحامي والمناضل زكي مراد،‮ ‬ذلك المقاتل العنيد،‮ ‬والذي كان‮ ‬يقرض الشعر،‮ ‬وقدّم نماذج مبهرة في قصائده،‮ ‬كما كان مثالا باسقا في الوطنية المصرية علي مدي عقود أربعة من الزمان،‮ ‬كما كان المناضل السياسي مبارك عبده فضل،‮ ‬وله أدوار عديدة في المجال السياسي،‮ ‬وله تلاميذ ورفاق شهدوا بدوره التثقيفي والسياسي،‮ ‬وهناك مجموعة أخري في ذلك الزمان لعبت أدوارا أدبية وثقافية،‮ ‬مثل سيد اسحاق وعبد الدايم طه وابراهيم شعراوي ومحمود شندي،‮ ‬وكان محمد خليل قاسم،‮ ‬هو المثقف الأبرز في كل هؤلاء،‮ ‬فهو المثقف والمناضل والمترجم والشاعر والقاص والروائي،‮ ‬رغم أن إبداعاته الأدبية،‮ ‬كانت معطلة لأسباب انخراطه شبه الكلي في العمل السياسي‮ ‬الكثيف‮.‬
ولد في‮ ‬7‮ ‬يوليو عام‮ ‬1922‮ ‬في قرية‮ "‬قتة‮" ‬بإقليم النوبة،‮ ‬وكان أبوه مزارعا،‮ ‬ثم انتقل إلي التجارة بعدما ابتلت بلاد النوبة بكارثة الطوفان،‮ ‬وكان ذلك نتيجة القرار الخاطئ من حكومة اسماعيل صدقي باشا عام‮ ‬1933‮ ‬بتعلية خزان أسوان،‮ ‬وكان صدقي رئيسا للوزراء،‮ ‬ولم‮ ‬يضع في اعتباره سكان النوبة بأي شكل من الأشكال،‮ ‬ومن هنا انقلبت حياة النوبيين رأسا علي عقب،‮ ‬فمن هاجر هاجر،‮ ‬ومن ترك مهنته وامتهن أعمالا أخري،‮ ‬ومنهم والد محمد خليل قاسم،‮ ‬حيث إن الطوفان كان قد ابتلع منازل النوبيين من أساسها وتركهم في كارثة مهيبة،‮ ‬ولم‮ ‬يترك لهم سوي الخراب التام،‮ ‬خراب الأرض الزراعية،‮ ‬وبالتالي خراب الصناعات الوليدة،‮ ‬وتبعا لذلك راح النوبيون‮ ‬يبحثون عن مهن أخري لهم،‮ ‬وبالتالي نزحوا من أرضهم التاريخية،‮ ‬فكتبت عليهم الهجرة الدائمة،‮ ‬والتشرد الكامل والمطلق،‮ ‬حيث إن الدولة لم تستطع أن ترعاهم بأي شكل من الأشكال،‮ ‬ولم توفر لهم أي حياة كريمة،فضلا عن أن أبناء الشمال المصري كانوا‮ ‬يتعاملون مع النوبيين بقدر بائس من التمييز،‮ ‬نظرا للون النوبيين الأسمر،‮ ‬وكذلك الصفة التي اخترعها الانجليز وفرضوها علي النوبيين،‮ ‬وهي صفة‮ "‬بربري‮"‬،‮ ‬تلك الصفة التي كانت تلاحقهم أينما حلوا‮.‬
وفي‮ ‬يناير‮ ‬1935‮ ‬ترك خليل قاسم نجعه الصغير،‮ ‬وامتطي حمارا‮ ‬_حسب سيد إسحاق_ليلتحق بمدرسة‮ "‬عنيبة‮"‬،‮ ‬وبعدها التحق بمدرسة أسوان الثانوية،حتي نال شهادة الثقافة العامة،‮ ‬وبعد رحلة مع المدارس في أسوان والقاهرة،‮ ‬التحق محمد خليل قاسم في أوائل أربعينيات‮ ‬القرن الماضي بالجامعة،‮ ‬وفي كلية الحقوق علي الوجه الأرجح،‮ ‬ولكنه لم‮ ‬يستطع استكمال تعليمه،‮ ‬وذلك لانخراطه الجارف في الحركة الشيوعية،‮ ‬وكان ضالعا في إنشاء النشرات السياسية،‮ ‬وكذلك كتب الشعر والقصة،‮ ‬وحاول الترجمة في سنوات‮ ‬1948‮ ‬ومابعدها،‮ ‬وكان‮ ‬ينشر قصائده في مجلة‮ "‬الفجر الجديد‮" ‬الطليعية‮.‬
وكان موقف خليل قاسم،‮ ‬موقفا قتاليا مخلصا،‮ ‬فهو كان مدفوعا بحس التمرد العارم،‮ ‬بقدر‮ ‬يفوق كل رفاقه الشماليين،‮ ‬إذ إن مأساته كانت مركبة إلي حد كبير،‮ ‬ولكن كان انخراطه في الحركة اليسارية،‮ ‬انخراطا منظما ونضاليا،‮ ‬وضد الثالوث السلطوي الشهير،‮ ‬السراي والانجليز والإقطاع وكبار الملاك في ذلك الوقت،‮ ‬ولأن الحركة اليسارية كانت تعاني من انقسامات عديدة في ذلك الوقت،‮ ‬وهذا لاختلاف عناصر وملابسات النشأة والتكوين،‮ ‬إلا أن خليل قاسم كان ضد النزعة الانقسامية بشكل مطلق،‮ ‬وكان طوال حياته‮ ‬يسعي من أجل توحيد الصفوف ضد الأعداء المشتركين،‮ ‬وكان قاسم‮ ‬يلقي احتراما كبيرا من رفاقه،‮ ‬وكذلك كانت أفكاره ومساعيه تجد صدي كبيرا بين اليساريين،‮ ‬ولكن كانت الظروف الفعلية،‮ ‬أقوي كثيرا من الأفكار،‮ ‬مما جعل الحركة اليسارية منقسمة علي نفسها طوال الوقت‮.‬
ورغم أن خليل قاسم،‮ ‬انتشرت شهرته فيما بعد علي اعتبار أنه روائي،‮ ‬إلا أنه بدأ بالفعل شاعرا،‮ ‬ونشر‮ ‬_كما أسلفنا القول_ أشعارا كثيرة في أواخر الأربعينيات،‮ ‬وهناك قصائد كثيرة ضاعت أثناء الهجمات البوليسية العديدة التي كان‮ ‬يتعرض لها،‮ ‬ولكن صدر عدة كتب مشتركة،‮ ‬تضمنت قصائد له،‮ ‬منها مجموعة شعرية تحت عنوان‮ "‬سرب البلشون‮"‬،‮ ‬شارك فيها الشعراء النوبيون زكي مراد وعبد الدايم طه وابراهيم شعراوي،‮ ‬ومحمد خليل قاسم،‮ ‬وكتب علي‮ ‬غلاف الكتاب‮ "‬أشعار من النوبة‮"‬،‮ ‬وجاء في مقدمة الكتاب‮ : "...‬فمن أجل أن‮ ‬يرتفع خزان أسوان عامي‮ ‬1902و1912‮ ..‬ضحي النوبيون من أهل الشمال بموطنهم كله،‮ ‬بالبيت والزرع والضرع،‮..‬ومن أجل أن‮ ‬يزداد الخزان ارتفاعا،‮ ‬وقدرة علي احتجاز المياه عام‮ ‬1933،‮ ‬ضحي النوبيون من أهل الجنوب بموطنهم كله،‮ ‬وانتقلوا من جنة صغيرة إلي صحراء قاحلة‮ ..‬ومن أجل أن‮ ‬ينهض السد العظيم،‮ ‬ويوزع الخبز النير رخاء ورفاهية للعاملين من شعبنا الباسل،‮ ‬ضحي جميع النوبيين بالوطن والدار وذكريات الآباء والأجداد،‮ ‬وقدموها قربانا جميعا لبحيرة السد العظيم‮..".‬
إذن فالنوبيون ضحوا في كل العقود،‮ ‬وتركوا كل شئ في بلادهم المنكوبة،‮ ‬وتشتت مصائرهم،‮ ‬رغم لغتهم الخاصة،‮ ‬وتراثهم العريق في كثير من الفنون،‮ ‬ولهم أشعارهم وأغانيهم ورقصاتهم المتميزة والفريدة،‮ ‬وكانت اللغة النوبية في ذلك الوقت لا تكتب،‮ ‬أي أنها بلا أجرومية تحميها وتطورها،‮ ‬ولذلك فغالبيتهم بعد التهجير أو التشريد،‮ ‬أتقنوا اللغة العربية،‮ ‬وأبدعوا فيها شعرا ونثرا وأشكالا عديدة من الثقافة،‮ ‬وفي هذا الكتاب نجد ثلاث قصائد لخليل قاسم،‮ ‬ومنها قصيدة تحت عنوان‮ "‬أخي لا تبك‮"‬،‮ ‬يقول فيها‮:‬
‮ ‬أخي لا تبك
إن الصبح أقبل
سينعم بالشعاع
الصخر والجندل
ويهتف بالأغاني
فوقه البلبل
ونرجع نحن أطفالا
نغني في مغانينا
ونرقص رقصة نشوي
تعربد في مجالينا
أخي لا تبك
إن الصبح قد أقبل‮ ‬
أما كنا صغيرين‮ ‬
نواثب هذه النحلة
ونسبقها مع الإعصار
حتي نقطف الزهرة‮. ‬
وهكذا‮ ‬يستدعي خليل قاسم حياته في جنته النوبية الصغيرة،‮ ‬تلك الجنة التي تهدمت،‮ ‬فيستكمل قائلا أو صارخا‮ :‬
‮ ‬ظللنا نسأل الأيام والأيام لا تسمع
سكتنا‮ ‬
رأينا الأمر طغيانا وطغيانا
فحطمنا كئوس الخمر حتي‮ ‬يهدم الظلم
وبين مواكب الأحرار سرنا نحن أحرارا
ورحنا ننفث الأنوار في الوديان نيرانا‮. ‬
وكانت أشعار خليل قاسم ورفاقه،‮ ‬تعبر عن تلك الحياة المريرة التي عاشها النوبيون بعد التهجير والتشريد،‮ ‬وبعد حالة الاقتلاع القصوي والقاسية،‮ ‬ومحاولة تسكينهم في أماكن لا علاقة لهم بها،‮ ‬وكانت عقود الأربعينيات والخمسينبات والستينيات،‮ ‬مرحلة التعبير عن تلك المأساة بالشعر،‮ ‬حتي أن شرع خليل قاسم في كتابة ملحمته أو روايته العظيمة‮ "‬الشمندورة‮"‬،‮ ‬وذلك عندما‮ ‬
كان‮ ‬يقضي عقوبة مع رفاقه في المعتقلات منذ عام‮ ‬1959‮ ‬حتي عام‮ ‬1964،‮ ‬رغم أن مجموع سنوات اعتقاله وسجنه تجاوزت الخمسة عشر عاما،‮ ‬ولكن كانت تغريبة‮ (‬1959‮) ‬هي التغريبة الأشمل والأكمل،‮ ‬وكان النظام‮ ‬_آتذاك_ يحاول أن‮ ‬يقضي علي أي صوت‮ ‬يساري‮.‬
وفي المعتقل راح قاسم‮ ‬يعمل علي قدم وساق في اتجاهات مختلفة،‮ ‬فساعد في إنشاء المسرح الذي ساهم فيه مع الفنان النوبي محمد حمام بإشراف المهندس فوزي حبشي‮ ‬_مدّ‮ ‬الله في عمره_،‮ ‬وكتب الكاتب صلاح حافظ مقالا عنوانه‮ "‬حضرة الناظر‮"‬،‮ ‬حيث أن خليل قاسم كان قد أنشأ مدرسة في المعتقل لمحو أميّة العساكر،‮ ‬ونشأت علاقات طيبة جدا بين العساكر الحرّاس،‮ ‬والمعتقلين،‮ ‬وهناك لقبوا خليل قاسم بحضرة الناظر،‮ ‬ويكتب رفعت السعيد عن دوره التربوي الفائق لرفاقه،‮ ‬كذلك دوره التعليمي له ولغيره،‮ ‬في تعليم اللغة الإنجليزية،‮ ‬وفي تقويم اللغة العربية للقارئين الذين‮ ‬يلحنون فيها،‮ ‬ومنهم رفعت السعيد نفسه،‮ ‬الذي كان‮ ‬يكسر المنصوب،‮ ‬ويرفع المجرور،‮ ‬فكان خليل‮ ‬يقرأ معه ومع‮ ‬غيره القصائد والقصص،‮ ‬حتي‮ ‬يتم تقويم اللغة‮.‬
وفي المعتقل تضافرت الجهود العظيمة من أجل أن‮ ‬يكتب خليل قاسم روايته،‮ ‬فتم توفير المكان الخاص للكتابة،‮ ‬كما وفروا له قدرا كبيرا من الشاي والسجائر،‮ ‬وكان الفنان الكبير حسن فؤاد والكاتب الصحفي صلاح حافظ،‮ ‬هما أكثر المتحمسين له،‮ ‬وكان رفعت السعيد‮ ‬ينقلها‮ ‬بخطه علي ورق البفرة،‮ ‬وبعد الانتهاء منها،‮ ‬احتفلوا بانتهاء الرواية،‮ ‬وتم تهريبها إلي السيدة ليلي الشال،‮ ‬والتي أصبحت زوجة رفعت السعيد فيما بعد،‮ ‬وبعد خروج قاسم ورفاقه من السجن،‮ ‬سارع حسن فؤاد بنشرها في مجلة‮ "‬صباح الخير‮"‬،‮ ‬وأعدّ‮ ‬لها الرسومات التي كانت تنشر أسبوعيا في المجلة،‮ ‬ولم تنشر في مجلد واحد إلا بعد رحيله عام‮ ‬1968،‮ ‬رغم أن فريدة النقاش تقول بأنها نشرت قبل رحيله المفاجئ بشهرين‮.‬
ولا تكمن أهمية رواية الشمندورة في كونها أنها‮ "‬أول رواية نوبية في تاريخ الأدب العربي‮"‬،‮ ‬كما كتب خليل قاسم تلك الجملة بنفسه،‮ ‬ولكن تكمن في أن تلك الرواية جسدت مأساة النوبيين بامتياز،‮ ‬وهي رواية تنتمي إلي الأدب الانساني عموما،‮ ‬وتندرج تحت عنوان الرواية الملحمية،‮ ‬والتي تحكي القصة الدامية التي عاشها النوبيون من أوائل القرن،‮ ‬حتي تهجيرهم،‮ ‬وفيها‮ ‬يسرد محمد خليل قاسم قدرا كبيرا من التقاليد والطباع والثقافات والرقصات للنوبيين،‮ ‬ونحن نستطيع أن نجزم بأن المسافة بين‮ "‬حامد‮" ‬بطل الرواية،‮ ‬ليست بعيدة عن خليل قاسم نفسه،‮ ‬فالراوي هنا،‮ ‬يشعر بقدر الأسي المريع الذي عاشه النوبيون،‮ ‬ولكنه استطاع أن‮ ‬ينقل بلغة شائقة،‮ ‬الخصائص الطبيعية للنوبيين،‮ ‬تلك الخصائص التي حاولت محنة التشريد أن تمحوها،‮ ‬فجاءت الرواية كنوع من المقاومة الباسلة في مواجهة ذلك المحو الاضطراري‮.‬
ورغم أن الرواية لاقت اهتمامات بارزة في نشرها،‮ ‬إلا أن الرواية لم تشغل مكانها الطبيعي في التاريخ النقدي لتطور الرواية المصرية والعربية،‮ ‬وقد تم تحويلها إلي مسلسل إذاعي،‮ ‬وطبعت أكثر من مرة،‮ ‬فبعد طبعتها الأولي عام‮ ‬1968،‮ ‬طبعتها جريدة الأهالي في طبعة خاصة،‮ ‬كما صدرت طبعة ثالثة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة،‮ ‬وكتب لها مقدمة الكاتب والقاص الراحل قاسم مسعد عليوة،‮ ‬والذي عمل علي تطوير تلك المقدمة،‮ ‬وأنجز كتابا عن الرواية،‮ ‬صدر عن مؤسسة عماد قطري،‮ ‬كما أن الكاتب الكبير أنجز كتابا صغيرا عن الرواية،‮ ‬كما أن الأديب النوبي سيد إسحاق كتب كتابا وافيا عن الراحل،‮ ‬وجمع فيه كتابات محمود أمين العالم ومحمد‮ ‬يوسف الجندي وآخرين لتكون كل تلك الكتابات،‮ ‬علامة كبري لتخليد الكاتب الكبير‮.‬
وأعتقد أن أزمة الرواية العظيمة‮ "‬الشمندورة‮" ‬وفي الأدب الذي كتبه الأدباء النوبيون الكبار،‮ ‬تكمن في أن البعض حاول تصنيفه علي أنه‮ "‬أدب نوبي‮"‬،‮ ‬وراح كثيرون‮ ‬يطلقون مصطلح‮ "‬الأدب النوبي‮" ‬علي كل مايكتبه الأدباء النوبيون،‮ ‬ومنذ أن صدرت رواية‮ "‬دنقلة‮" ‬لإدريس علي،‮ ‬ووجدت القضية النوبية اهتمامات واسعة،‮ ‬ولكن ذلك الاهتمام أخذ تيمات سياسية واجتماعية،‮ ‬بعيدا عن الحالة الأدبية،‮ ‬ولأن‮ ‬غالبية روايات وكتابات الأدباء النوبيين اتخذت من قضية التهجير والتشريد حجر زاوية،‮ ‬فانحصرت تلك الآداب في استعادة الفردوس المفقود،‮ ‬وأنا لست ضد ذلك علي الإطلاق،‮ ‬فقضية حقوق النوبيين في التوطين والتسكين قضية عادلة،‮ ‬إلا أن أدبهم‮ ‬ينتمي بقوة إلي الأدب العربي بقوة،‮ ‬ولا مجال للفصل بين مايسمي بالأدب النوبي،‮ ‬والأدب العربي بأي حال من الأحوال‮.‬
وهنا أتذكر الاهتمام الواسع الذي حدث بعد صدور رواية‮ "‬دنقلة‮"‬،‮ ‬وفيها أحدث نقلة أخري في إبداع صورة النوبي التائه أو المشرد أو المستبعد،‮ ‬ونادي كثيرون آنذاك برقبة ادريس،‮ ‬لأنه تجاوز السقوف الواطئة في التعبير عن القضية النوبية،‮ ‬واتسع الاهتمام لتدخل هيئة الأمم المتحدة ومنظمة اليونسكو،‮ ‬وتم ترجمة تلك الكتابات علي اعتبار أنها أوراق سياسية في قضية‮ "‬حقوق النوبيين‮"‬،‮ ‬وربما ابتعد البعض من الأدباء النوبيين عن استخدام تلك الورقة السياسية في ترويج أدبهم،‮ ‬ولكن صرخ آخرون في إبداعاتهم بتلك النداءات السياسية التي ظلمت وستظلم الأدب الرائع الذي كتبه النوبيون أنفسهم‮.‬
ومن هنا فمصطلح‮ "‬الأدب النوبي‮"‬،‮ ‬والذي انتشر بقوة،‮ ‬بل وقامت حوله دراسات أكاديمية،‮ ‬لا مجال له من الإعراب،‮ ‬فالأدب الذي‮ ‬يكتبه النوبيون،‮ ‬مثله مثل الأدب الإنساني عموما،‮ ‬ويكتبه مصريون أو سوريون أو لبنانيون وغيرهم،‮ ‬ومن هنا تبرز رواية الشمندورة‮" ‬كأحد الإنجازات الإبداعية العظيمة،‮ ‬والتي كتبها أحد الكتّاب النوبيون المصريون الكبار‮.‬
بقي أن نقول‮ ‬إن كتابات محمد خليل قاسم لم‮ ‬يضمها مجلد واحد حتي الآن،‮ ‬ففي ظل الاهتمام الواسع برواية‮ "‬الشمندورة‮" ‬التي صدرت‮ ‬لها طبعة جديدة في هذه الأيام عن دار الكرامة تم إهمال مجموعته القصصية الجميلة‮ "‬الخالة عيشة‮"‬،‮ ‬تلك المجموعة التي أظهرت جانبا فنيا آخر عند خليل قاسم،‮ ‬كذلك لم تجمع الأشعار التي نشر بعضها حتي الآن،وأعتقد أن الكاتب الكبير‮ ‬يحيي‮ ‬مختار ذكر في مقال له،‮ ‬بأن خليل قاسم له رواية لم تنشر حتي الآن،‮ ‬ولا أعرف كيف العثور عليها،‮ ‬فمعظم أشقائه قد رحلوا،‮ ‬حيث إنهم وخليل قاسم نفسه كانوا‮ ‬يعيشون ظروفا اجتماعية صعبة،‮ ‬كما أن للراحل ترجمات كثيرة نشرها،وأبرزها ذلك الكتاب البديع،‮ ‬والذي كتبه كاتبان روسيان عن‮ "‬تاريخ حركة التحرر الوطني‮".‬
ومن هنا أعتقد أن خليل قاسم هو أحد الكتاب العظام الذين أهدرت أشكال الاهتمام بهم لأسباب جد درامية‮.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.