فى 20 أبريل نشرت مجلة «صباح الخير» قصة قصيرة للكاتب والشاعر والمترجم النوبى محمد خليل قاسم، وكان عنوان القصة «فى الأوتوبيس»، ورغم أن القصة تتسم بالطرافة فإنها تكشف عن جوانب اجتماعية لطبقة اجتماعية تكاد تكون مشردة، وهذا يعود إلى التهميش الواسع والقاهر الذى تمارسه الطبقات الحاكمة فى البلاد الفقيرة، والقصة لا تهتف ولا تصرخ ولا ترفع شعارات لكى تبرز الفقر والعوز الذى يبدو على أبطالها جميعا، إذ إن القصة تتناول طفلين صغيرين ركبا أحد الأوتوبيسات دون أن يكون معهما أى نقود لدفع ثمن تذكرتَى الركوب، وكان المحصل يسير بصعوبة بين الناس مناديا: «ورق.. ورق». وكان المحصل ينوّه فى لطف بأنه سوف يضبط الهاربين من الدفع، وكاد الطفلان الفقيران، الذاهبان إلى محل رزقهما، يموتان فى جلدهما، ولكن المحصل عندما قبض عليهما لم يفعل شيئا رغم تهديداته المستمرة. ويحدث العكس، إذ نلاحظ أن تعاطفا اجتماعيا مقنّعا نشأ بين الطفلين والمحصل، فيتركهما لحال سبيلهما دون أى عقاب، وسط ضجيج وصياح وثرثرات الركاب. هذه القصة التى نشرها قاسم، الأديب والشاعر والمترجم، لم تأتِ بهذا الجمال الفنى والهامس، والمبنية بطريقة محكمة، من كاتب حديث الخبرة، ولكن خليل قاسم كان قد بدأ الكتابة الأدبية منذ عقد الأربعينيات فى القرن الماضى، وكان قد جاء من قريته «قتة» النوبية ليلتحق بكلية الحقوق، ولكنه انتقل منها فورا لميوله الأدبية، ثم التحق بكلية الآداب، وكان قد انضم إلى جماعة الإخوان المسلمين لفترة قصيرة جدا -كما تقول كل الأخبار- ثم ينتمى بعد انفصاله عن جماعة الإخوان إلى الحركة الشيوعية من أوسع أبوابها، وينخرط فى نضال وطنى تقدمى عتيد، ويكتب فى مجلات اليسار وهو فى الثالثة والعشرين من عمره، فهو من مواليد 15 يوليو 1922. ونشرت مجلة «الفجر الجديد» له قصيدة عنوانها «دموع فلاح» فى عددها الصادر فى أغسطس عام 1945، والتى كان يرأس تحريرها الكاتب والأديب والمترجم أحمد رشدى صالح، وكان يكتب فيها على الراعى وأنور عبد الملك وأحمد صادق سعد ونعمان عاشور وغيرهم. جاء فى القصيدة: (ضحيّت عمرى للروابى والسواقى الناعبة فى غنوة العصفور أنّات لروحى الشاحبة فى جدول روّته عينى بالدموع الساغبة عبَرات أجدادى أراها فى فؤادى راسبة فى ثورة أحنو عليها بالوعود الكاذبة كالشهوة العذراء تكبتها ضلوع الراهبة كالهرة العجفاء تُعشيها الشموس الغاربة لا بل كحلم الليث تنكره الثعالب واثبة) بدأ خليل قاسم شاعرا، وكانت كوكبة من الأدباء والمثقفين النوبيين قد انخرطوا فى الحركة الشيوعية المصرية، وعلى رأسهم المحامى والمناضل العظيم زكى مراد، وكذلك الشاعر محمود شندى، وعلى شعراوى، وكل هؤلاء أصدروا فى ما بعد ديوانا شعريا مشتركا تحت عنوان «طائر البلشون». وظل قاسم منخرطا فى العمل النضالى السرّى، مخلصا لمبادئه، ومخلصا لانحيازه إلى الفقراء، وقضيتهم العادلة فى مواجهة كل صنوف الاستبداد والطغيان، وأصبح مرموقا فى صفوف الحركة الشيوعية، وتم تصعيده إلى مستويات قيادية رفيعة، ولم تُغرِه كل أشكال التحالفات السرّية والعلنية التى تم إبرامها بطرق ما بين اليسار والسلطة بعد ثورة يوليو 1952، هذه التحالفات التى كانت تتم فى ظل تنازلات ما من ناحية اليسار، حتى حدث الخلاف بينهما، وتم البطش بكل الشيوعيين المصريين، واقتيادهم إلى أوردى أبى زعبل ومعتقل الواحات وغيرها من معتقلات، تحت اتهامات باطلة، وفى الوقت نفسه ظالمة وجارحة. وكان خليل قاسم ضمن هؤلاء القادة اليساريين الذين زُج بهم فى المعتقلات، وهناك أكمل دوره فى تثقيف المعتقلين وتعليمهم، حتى أطلقوا عليه «حضرة الناظر»، ومع كل المهام التى كانت ملقاة على عاتقه فى المعتقل، بدأ فى كتابة روايته العبقرية «الشمندورة»، وصنفها النقاد بأنها أول رواية نوبية، وهى تتحدث عن مأساة الترحيل المتعدد الوجوه لأهل النوبة، وتشريدهم من بلادهم حتى يعيشوا أشكالا من الشتات، غرباء عن وطنهم الحبيب، منفيين فى لسان آخر غير لسانهم، فهم يملكون لغة خاصة بهم، وأبعادا أنثروبولوجية فى الشكل واللون والجسد والعادات والتقاليد، ولذلك لم تكن الرواية عبارة عن مونولوج مأساوى طويل بقدر ما هى التعبير الأقصى والأمثل والأشمل لعادات وتقاليد «أهلنا» فى النوبة. وعلى هذا الأساس تمت تسميتها برواية «نوبية»، أى لم تأتِ التسمية للبعد الجغرافى فحسب، بل لأن الرواية تحمل طابعا خاصا لتقاليد وعادات وطبائع مختلفة. كتب خليل قاسم الرواية بقلم الكوبيا فى المعتقل، على ورق البفرة، وكان يدير نقاشا مستمرا -كما يروى عنه رفيقه الكاتب النوبى سيد إسحاق- مع رفاق المعتقل مثل ألفريد فرج وصلاح حافظ وحسن فؤاد وزهدى، وكان خوفه الشديد أن يحدث تفتيش فى المعتقل، وتتم مصادرة الرواية، وكان يردد -كما يكتب رفعت السعيد- أن هذه الرواية هى كل ما سوف يتركه فى الحياة، إذ لا زوجة له ولا أولاد. وبعد الانتهاء من كتابة الرواية تم تهريبها من المعتقل. ويخرج قاسم من المعتقل عام 1963 ليعمل مترجما، ويكتب القصص القصيرة، التى صدرت تحت عنوان «الخالة عيشة»، ويترجم كتابا مهمّا، وأعتقد أن كل من كتبوا عنه ورووا سيرته لم يذكروا هذا الكتاب، وعنوانه «تاريخ حركة التحرر الوطنى.. شرق أفريقيا»، وقدم له الراحل فؤاد عبد الحليم، ونشر فى «مكتب يوليو»، الذى أصبح فى ما بعد «دار الثقافة الجديدة». وفى عام 1968 نشرت مجلة «صباح الخير» رواية «الشمندورة» مسلسلة، لتحدث دويّا ما زال حتى الآن، ثم تنشر طبعتها الأولى فى العام ذاته، ثم تتحول إلى مسلسل إذاعى، ويعتبرها النقاد والمتابعون بمثابة معطف جوجول بالنسبة إلى الكتاب النوبيين الذين جاؤوا فى ما بعد مثل إدريس على وحجاج حسن أدول وحسن نور ويحيى مختار وإبراهيم فهمى.