في ربيع 2015 اتصل بي العم فؤاد حجازي. كنت قد انتهيت من لقاء علي الهواء، عن كتابي »الثورة الآن«، في القناة الثقافية التي ظنت أنها تبث برامجها للا أحد. قال إنه يرشح لي عملا للنشر في سلسة روايات الهلال، ولم أنتبه لاسم المؤلف الذي طمسه صخب كورنيش النيل عند ميدان عبد المنعم رياض. ولم تغب الضحكة عن المكالمة وهو يجاملني بجملة عن اللقاء الذي انتهي قبل دقائق، ويقول: «والقميص شيك يا أبو السعود!»، فقلت إنه «منظر، اشتريته من وسط اللد بسبعين جنيه!». مكالمة مطَمْئِنة بعد شهور من الانشغال، وسنوات من اكتئاب وقع الكثيرون ضحيته؛ لتكرار انكسارات ثورة 25 يناير علي صخور القوي المضادة للثورة، لكن فؤاد حجازي يتابع ويراهن ويعطي دروسا في التفاؤل، هو الذي مر بما هو أكثر من انكسار ثورة، إذ اعتقل عام 1959 بتهمة الانتماء إلي تنظيم ماركسي، وشهد هزيمة 1967، ونجا من الموت في معركة غير متكافئة، وتعرض للأسر في سجن عتليت لدي العدو، وواجه قسوة التجربة بالأمل، كان يكتب. لا أتذكر متي عرفت العم فؤاد؟ ولا أظن الكثيرين يستطيعون تحديد بداية معرفتهم به، لثلاثة أسباب. الأول: أن التعرف إليه يبدأ ولا ينقطع. معه يتأكد لك أن معرفة الرجال كنوز، فما بالك بمعرفة هذا النبيل؟ لا أعرف أحدا اختلف علي فؤاد حجازي، هو هناك، في المنصورة، يقرأ ويكتب ويعلّم وينشر. لا ينافس أحدا ولا يتصارع علي شيء. لا يدعي بطولة، ولا يسعي إلي مجد. يكره الادعاء، ويتعفف حتي عن الظهور العام. السبب الثاني: أنني أعتبر العم فؤاد من حقائق الوجود، أحد حراس الضمير وممثليه، ربما تنقطع الاتصالات بيننا شهورا، ولكني أطمئن نفسي إلي أنه من المنصورة يري ويراقب بحدة صقر، وربما لا يعجبه العجب ويؤجل العتاب. حقائق الوجود ليست طارئة ولا منقطعة، ولا حادة في حضورها، فلا تعرف متي بدأ إدراكك لها، وكذلك لا أعرف متي التقينا؟ فقبل قبل ربع قرن أو يزيد بدأ حوار ما، في المنصورة أو القاهرة وربما في مدينة أخري، كأنه وصل لما انقطع من كلام في لقاء لم يحدث. أما السبب الثالث فنسيته. في بدايات التسعينيات كان يرسل إليّ الجديد من سلسلة فقيرة الطباعة، غنية بأسماء وتجارب في الإبداع، «أدب الجماهير» التي قدمت في السبعينيات أعمالا بارزة، منها مجموعة محمد روميش «الليل الرحم» أصدق وأعمق قصص قصيرة «في» القرية المصرية. راهن فؤاد حجازي علي جيل جديد، طلبة وبعضهم تخرج حديثا، يجربون أولي خطواتهم، في سياق قاتل للمواهب وأزمة نشر وتصحر نقدي، فمد إليهم يديه بالنشر، وإرسال الأعمال إلي من يثق بهم، لتسليط أضواء علي مبدعين قادمين من الظل، ومن حقهم مساحة من النور. قدم العم فؤاد الأعمال الأولي لهشام علوان وهشام الصباحي وأشرف يوسف وآخرين، وفي ظرف يضم الإدارات الجديدة كنت أجد مخطوطات قصص قصيرة، مصحوبة برسالة كتبها بخط جميل: «عزيزي أبو السعود». لا يكلمني العم فؤاد عن شيء يخصه. وحين قرأت الرواية التي حدثني عنها، ورشحها للنشر في روايات الهلال، فرحت بأن في مصر روائيا له قضية وقدرة علي الكتابة بعمق جراح انتهت إليها حرب أكتوبر. كانت رواية محمود عرفات «سرابيوم» التي تحفر عميقا في أسباب الهزيمة، وترصد تفاصيل حرب 1973 وما تلاها من تنازلات. مصطلح «المثقف العضوي» الذي استهلك كثيرا في غير موضعه استهدف به جرامشي أمثال فؤاد حجازي، فلا يكفي أن يكون الكاتب موهوبا، وينظر مثلا من وراء زجاج إلي عمال التراحيل علي الرصيف، ليكتب «عنهم» رواية أو مسرحية. هنا مواطن يخلص لمن ينتمي إليهم، ويعيش بينهم، وبالمصادفة يكتب الرواية والقصة والمسرح والنقد أيضا. ولكن نقادا كسالي حشروا أعماله في خانة ضيقة اسمها «أدب الحرب»، وأسرها فؤاد حجازي في نفسه ولم يبدها لهم، وكتب أعمالا للأطفال، ثم كتب روايته الجميلة «لا تنس البلبل». قرأت المخطوطة قبل نشرها في روايات الهلال، وأخذتني التفاصيل، روح أخري تختلف عن أعماله السابقة، لا لغز يخفيه المؤلف ويبخل به عليك ليجذبك إلي الاستمرار في القراءة، هنا دراما البيوت، تراجيديا اكتشاف ابن مدمن في الأسرة، وكيف تتعامل الأسرة مع المريض الضحية؟ هاتفته: خدعتني، انتهيت من الرواية ولم أجد البلبل!