إن السيرة الذاتية هي أصدق ما يمكن أن يُكتب عن الكاتب، فما أصدق أن يكتب عن حياته، لأن حياة الرجل حين يكتبها بقلمه هي أحسن مايكتب عنه. والسيرة الذاتية تكون بمثابة التطهير الذي يقوم به الكاتب، ربما ليري مشوار حياته ماثلا أمامه علي الورق، وربما، ليقوم بنوع من المداواة والتطبيب لجروح آلمته في مسيرة حياته، و هو يعيد كتابتها حتي يحقق ذلك الشفاء لعذابات الروح، وذلك التطهر المنتظر بعد أن يخرج ما كان يعاني منه علي الورق. ومع ذلك لم يستطع كتاب السيرة في أدبنا العربي، علي امتداد عصوره أن يكتبوا السيرة الذاتية بميثاق كتابتها، ومن ثم قراءتها وتلك العلاقة التي يقيمها القارئ مع النص السيري، كما تحدث عن ذلك فيليب لوجون وجورج ماي وغيرهم من نقاد الغرب، فالكتاب العرب لم يبلغوا فيما صرحوا فيه عن أنفسهم مبلغ تعرية النفس، والمكاشفة الفاضحة، بالاعتراف الخارج عما ألفه الناس من مثل اعترافات كل من روسو وأندريه جيد وغيرهما، وكاتب السيرة حين يؤثر الاحتفاظ بما في الداخل، فإن هذا يعني خضوعه لسلطة السائد، بما يترتب علي هذا الأمر من وضع ميثاق السيرة الذاتية المعلن موضع الريبة، لأنه قد يتواطأ ضد المقموع في نفسه، أو قد لا يجرؤ علي ملامسة ما في أعماق ذاته، ورفع الستار عن مكنون هذه الذات المكبوتة، فالخطاب الاسترجاعي الذي يتطلب ويفرض الصدق وقول الحقيقة يتحايل عليه الكتاب العرب، ويقدمون سيرة انتقائية، ينتخبون من سيرتهم الذاتية ما يليق بهم، وما يتطلعون، لأن يعرفهم القارئ من خلاله.وقد عمد الكاتب فؤاد حجازي إلي تلك الانتقائية في تقديم سيرته الذاتية التي أعطاها عنوان:" قرون الخروب، أوراق من السيرة الذاتية" حاول من خلالها أن ينتقي وينتخب أحداثا وتفاصيل من حياته، ليقدمها للقارئ، في محاولة من تحقيق الميثاق السيرذاتي بينه وبين القارئ، لكن علام اعتمد الكاتب في تحقيق هذا الميثاق؟ منذ العتبة الأولي للكتاب يصرح الكاتب أنه سيرة ذاتية، لكنها أوراق منها، فمن التبعيض هنا تشير إلي أن النصوص الأولي منتخبة من سيرته، كما أن الكاتب استخدم ضمير المتكلم في السرد مما يؤكد الميثاق السيرذاتي، وأخيرا يأتي الكاتب بتفاصيل حياته، وسيرته الإبداعية بذكر الأعمال المسرحية والروائية والقصصية التي سبقت هذا النص السيري، كذلك يصرح في أكثر من موضع بعلاقاته الثقافية مع الكتاب والمبدعين، والمؤتمرات التي يشارك فيها، والندوات الثقافية التي يتحدث عن إبداعه فيها. تكتسب السيرة الذاتية قيمتها من وعي الكاتب نفسه بأهميتها، فالحياة التي ترويها السيرة، حتما يري الكاتب أنها تستحق أن تُسرد، فما من حياة شخصية تُروي عاشها كاتبها عبثا وعلي هذا النحو يعبر الإنسان عن معني وجوده، فكما قال جورج ماي" إن السيرة الذاتية تنشأ من رغبة الكاتب في استعادة مسار حياته ليدركه وليهنأ باله بما ينتهي إليه من نتائج تطمئنه إلي أنه رغم الحوادث والتناقض والفشل والنكوص علي الأعقاب والتردد والتنكّر، لايزال كما كان وأن الهوية الأثيرة للأنا لم يمسسها سوء"،وهكذا يبدأ فؤاد حجازي أوراقه بحدث محوري في حياته، وهو سجنه هو والكثير من اليساريين والشيوعيين في أحدث 1977، فيما أسماه السادات ب " انتفاضة الحرامية" وما سُمّي تاريخيا بانتفاضة الخبز، والتي تفجرت علي خلفية غلاء الأسعار الذي اتخذته الحكومة دون الرجوع للشعب، وهذا الانتخاب من أوراقه يشير إلي رغبة الكاتب في أن يؤكد علي دوره كمثقف تبني قضايا الشعب، ويقف علي يسار السلطة:"وجدتني ذات صباح في سجن طرة، برفقة كثير من قدماء الشيوعيين من شتي أنحاء مصر، كنا في صبيحة اليوم التالي لاندلاع تظاهرات 18، 19 يناير 1977، وقد قبضوا علينا في عجالة". يقوم الكاتب بهذا السرد السيري، ليوضح علاقة المثقفين بهذه الاحتجاجات، ثم ينتقل إلي سردية أخري أكثر ذاتية، يحكي فيها طرفا من حياته الوظيفية والملابسات التي تقابله في عمله في المجلس المحلي بالمنصورة، وكيف كان يتعامل مع ممارسات البعض التي تشير بشكل لافت إلي بداية الانحدار المجتمعي بعد عصر الانفتاح، واهتزاز منظومة القيم، فكل شئ قابل للمقايضة والبيع حتي الأخلاق، وقد استطرد في هذه السرديات الذاتية كثيرا ، بعد ذلك يقدم للقارئ سرديات عن علاقته بالكتابة والحياة الأدبية، والعلاقات بين المثقفين في فعاليات ثقافية مختلفة سواء في مصر أو العالم العربي، ويذكر فيها الكاتب تفاصيل العلاقات بين المثقفين، في سردية بعنوان" في بغداد" يحكي قصة سفره هو وبعض المثقفين المصريين لمؤتمر أدبي هناك، وما حدث مع ألفريد فرج، وكيف تحكم في انفعاله، وآثر الصمت:" في اليوم التالي ترأس ألفريد فرج جلسة تحدث فيها الأدباء عن تجاربهم في الكتابة عن الحرب وتحدثت عن تجربتي في كتابة روايتي "الأسري يقيمون المتاريس" وبينما أنا مستغرق في الحديث، استوقفني ألفريد فجأة، طالبا الاختصار. دهشت، فلم يتململ أحد وكان الجميع ينصتون باهتمام...وكان يجلس في جواري صديقي وعزيزي خيري شلبي قرب رأسه مني وهمس: هل ستسكت له؟! تنقلت بنظراتي بين الوجوه، أدباء من الدول العربية، وبعضهم جاء من مهجره في أمريكا وفرنسا وألمانيا. ماذا يقولون لو عملت" قفلة" ونحن مصريان، وهل يصح أن نتجافي أمام الآخرين من جنسيات مختلفة، وأمام رجال الإعلام؟! سيطرت علي نفسي بصعوبة، وأنهيت حديثي كيفما اتفق". وهكذا يواصل فؤاد حجازي سردياته التي تكشف علاقته بالكتابة وبالمجتمع والسلطة ضمن أوراقه من سيرته الذاتية، لكننا لم نقرأ سردية واحدة تجرأ فيها الكاتب وعرّي حياته، أو غاص متأملا ذاته العميقة، إنها سرديات تتجمل، لكنها لا حتما لا تكذب.