بارقة أولي: "سئمت القصور وسكّانها وما حولها من صراع عنيف" (الشابي، الدّيوان: بقايا الخريف) بارقة ثانية: " بيْتٌ بنته ليَ الحياة من الشّذي والظلّ والأضواء والأنغام " (الشابي، الدّيوان: الغاب) بارقة ثالثة: "نشيد الجبار" بكلّ أوساعه وأوجاعه... يكفي عند كلّ ذي نظر أن يلقي منه ما يليق بمقامه ويفيه حقّ قدره ومقداره... 1 حين تنأي بلادٌ عن قلبها وتنكر روحَها وتخرّب أجملَ ما فيها وأبقي ( أو تحاول) تنحدر رأسا إلي الدّرب الذي ينتهي إلي هاوية أو جدار... حين تخرّب بلادٌ روحَها وتشوّه إرثَها... تفقد ضوء الدّليل الذي يُغري بالقِمم والأعالي ويهزّ الخطوَ إليها. حين تُغضي بلاد عن قلوب عشّاقها وتنكرهم، تنجم في الأرجاء جراحاتهم وهي تنزف النشيد تلوَ النّشيد في ليل غربتهم المديد: " ما أعذبَ روْح البلاد وما أمرّ فعلَ العباد..." قدر الأمم الحيّة أن تحفظ ذاكرتها وتصونها... هي وحدها من يردّ عنها جوائح الوقت ودواهي الزّمن... ذلك من شأن الأمّة العظيمة. وإنّك لكذلك يا بلاد.. لكنّ بعضَ أهلِك يأبون. 2 أكلتنا البداوةُ، روح الجاهليّة الأولي التي لا تموت.. وكأنّ البداوةَ طبعنا القديم الذي ينجم فينا في الوقت بعد الوقت كلّما عوي في سمائنا هجير الصّحاري واستيقظ في أعماقنا غول النّسيان... طمسْنا صوتَ كلّ المخلصين من البشر (شخصا ونصّا وسيرة ومسيرة) وأهملنا حكمة الغاب والشّجر(رُوحا وروْحا وريحانا) ثمّ أغفلنا الوصايا الثّاوية في ذاكرة الحجر فانقطع بنا حبل الدّليل إلي الذّرا وانحدرنا.. واقف زمن هذه الأمّة ومَنينٌ.. والسّير إلي الوهاد أقبح من الوقوف، ونحن إلي الوهاد والكهوف نحثّ الخطو منذ وقتٍ مسلمين إلي الرّيح أقدارنا.. صوت الحقّ قويّ لعلعٌ، أجل، وعال صرح النّور، وهو ظلّ الإله، غير أنّ هدهدة الغنيمة قاهرة غلاّبة وحكمة صاحب "الأمير" سادرة خلاّبة.. ضيّقة هي البلاد في عين من سطّر، علي هواه، تاريخَ البلاد... ومتضخّم كيان الزّعيم الواحد الأوحد، والقائد الفذّ الأمجد، والمجاهد الأكبر والأسعد بالعرش الذي فاض حتّي غطّي سماء البلاد وحجب ظلال الإله عن البشر والشّجر والحجر وقصّب أجنحة الأفكار والأرواح وبني المعابد للعبّاد واستوي "إلها صغيرا"... ضيّقة هي الأرض.. وواسع ليل السّائرين إلي الصّباح يرسمونه في رؤاهم ولا تراه عيونهم إلاّ وعدا واحتمالا. 3 وأنت تقف علي ركام التّراب والحجارة والحديد، تذكّر الحديقةَ والفِناء.. تذكّر السّقيفة والأقواس الحارسة لأرواح الأطفال المنتشية بالأضواء والظّلال والأنغام.. وأنت تقف في السّاحة الجرداء، بُعيد همود صخب الجرّافات التي حرّكتَها وتلذّذتَ بسماع زئيرها وهي تنهش الرّخامَ والحديد وضوْء الأرواح المفجوعة في مدارها.. تذكّر، وأنت تغادر آلتك المفترسة، تلك الرّوح التي أينعت هناك منذ دهر، وتذكّر الضّوء الذي كتبَ لك ورسم للوطن "بيتا من الشّذي" واستفتِ الصّوت الذي سينتفض في أعماقك... أغمض عينيك قليلا وأصخ السّمع إلي وجيب قلبك وتهجّ ما يحاول أن يقول لك.. ستعلم، ربّما، أنّك هدمت بيت الحجارة والحديد.. ولكنّك أعجز من أن تهدم بيتَ القصيد. 4 بُعيد الهدم، والجرّافات تجترّ ما التهمت من جسد البيت / الحديقة، مرّ شيخٌ بالجموع الواقفة علي الطّلل... لاحظ أنّ وجه الطّريق غريبٌ.. أنكر المسلك الذي تعوّد علي قطعه يوميّا منذ أكثر من تسعين... لفّه الصّمت واحتار في المشهد قدّامه... قلّب النّظر في من حوله، ثمّ ارتقي عجينة التراب والحجارة والحديد وانتصب في الفناء العاري. أغمض عينيه فنجم في أعماقه صوتٌ. كان الصّوت أليفا واضحا والنّبرُ جريحا: "يا دارُ، أهلي تمادوا ما أطاعوني قلبي عليهم وهم جرحي وطاعوني أحدوالغيوم إلي رمضاء حقلهمُ والقلب طير إلي الأنواء يدعوني يا ويح أهلي أضاعوا العزّ في حجرٍ يا ويح أهلي من الإمعان في الدّونِ قلبي دليلي، وقلبي كان مذبحتي يا من يعزّي، ومن يتلو: " أضاعوني ". 5 عند "رأس العين" وقف الغريب. تنفّس بعمق نسيم الواحة البارد، ثمّ ارتقي الكدية... وصل لهاثا إلي قمّتها فتفجّرت في الأفق الحالك كوي وأضاءت وجوهٌ... وجه الرّضيع المبتسم في حضن الكهل المتربّع علي دكّانة السّقيفة الظّليلة.. وجه الصبيّ الرّاكض في الحوْش كفراشة أوطيْر... وجه الطّفل المتربّع عند ركبة الكهل، صباحا ومساء، يصغي إلي حديثه ويتلوالآيات ويردّد الأشعار.. نفس الوجه وقد سرقه النّعاس في حُضن كتاب... في الحلم كان يري نفسه وهويتهجّي سيرة السّلالة ويجترح مسيرة بلاد وحياة أمّة وروح وطن لا حدود له. وجه الشّاب النّاضج المترع بالأسي وبالأوجاع الكظيمة.. يقتفي أثر القلم الرّصاص يصهل علي بياض ورق الدّفتر ثمّ يركض عبر الغمامات حتّي يلامس الشّمس الغاربة ويختفي معها قبل أن يطلع ترنيمة ضوءٍ علي معراج قمريّ مزهر... تنطفئ الوجوه كلّها حين تنطمس الكُوي في الظلمة.. يُسمع صوت جرّافات تزأر... هناك ظلام يكرّ. من الظّلام يُسمع غناء كالبكاء: " قلبي وأنتم والوطن والفائت المنسيّ من غدنا الذّي ربّي الكلامْ قلبي سماء في مدار الوقت.. أغنيةٌ لكنّ موعدها ضرامْ الوقت كان شراعَنا.. كان الرّياحَ الذّارياتِ وبيتنا لكنّ حادينا ظلامْ مرّت حياة قرب خيمتنا القديمة نبَت الكلام علي جوانب صمتها هبّت وجوه كنتُ أنحت من ضيائها خطونا هبّت وهمّت بالطرّيق إلي يديّ ومعبدي لكنّها غارت بعيدا عندما رأتِ انطفاء حدائقي وخراب أعشاش الحمامْ ". 6 بكتْ في أعماقي، بلا دمع، روحي.. انتحب القلب وأجهش بالحنين إلي ما فات وامّحي.. جثوت علي ركبتيّ، وناديتُ بلا صوت الطّيف الواقف كالغيمة أوكالنّسر فوق الرّكام. هتف وجه وأضاء فأصغيت إلي وصيّته وهو ينأي: " أيّها الواقف علي أثري.. كفّ عن النّحيب.. لاتبكني.. فأنا لست هنا.. ليس في التّراب غير التّراب، وما في الطّين غير الطّين الذي فتّته الزّمان وذرته ريح الدّهر.. أنا لم أغب، ما زلت حيّا في اللاّمكان وفي اللاّزمان وفي المدي.. الرّيح الصّاهلة في الفضاء بيتي.. والشّمس وهي تطهّر الكون بدمها الذّهبيّ مصباحي... النّجوم الضّاحكة إخوتي والقمر الذي يناجي الغابة بصوته الفضيّ شقيقي... أمّا المطر وهو يمشّط الأشجار ويغازل الحقول ويلاعب السّنابل فقيثارتي ونشيدي... يا أيّها الواقف علي أثري تحرّك.. ارفع جناحك، صوب اللاّمكان، اللاّزمان... ستراني." 7 النّاس صنفان: من ينفق الحياة في بناء قبر الحياة. ومن يقضي الحياة وهو ينحت هيكلا للذات. الأوّل غافل جبانٌ.. والآخر عاقل فنّانٌ. والمفارقة أنّ أحفاد الأوّل يتكاثرون كالدّود إلي درجة الغثيان، وأحفاد الآخر سادرون في ضباب النّسيان. الشّعراء يكرهون بيوت الطّين والحجارة ويأبون الإقامة فيها، ويختارون أبيات الخيال والعبارة، يشيّدونها علي امتداد رحلتهم في الحياة ولا يكفّون عن توسيعها بما ملكوا من أدوات البناء: ضوء المحبّة وماء الخير وبرْد الحقّ ونسيم الجمال... بيت الشّاعر الوحيد هوقصيدته التي بناها في قلبه وأقام فيها ودعا إليها كلّ قلوب النّاس وأغراهم بها... ليس للشّاعر بيت من حجارة تأتي عليه الجرّافات، بل له أبيات من عبارة عابرة للزّمان باقية رغم جحود ذوي القربي وكيد الكائدين من ذوي السّلطان وأصحاب المال... بيت الشّاعر قصائده.. صُدود ورُدود مشيّدة من نور لا تبدّد وحشته اللّيالي ولا تأكله رحي الزّمان التي تدور وترحي كلّ شيء باستثناء ما نحتته الرّوح ونقشته علي جدار الوقت شاهدا علي جوهر الوجود الحقّ وصورة عن الكيان الصّادق والباقي علي الدّهر... 8 في غمرة الجدل الصّاخب العقيم حول قضيّة بيت الشّابي وإرثه ووارثيه، يطلع علي الجموع المختصمين شيخٌ.. يعبر الضّجيج حتّي يخنقه.. يتفرّس في الوجوه ويعلو صوته فيصمت كلّ من حوله.. طالت خطبته، وضاق من حضر بالكلام فسها بعضهم وشرد البعض الآخر وزفر قوم وامتعضوا وتململ آخرون، ثمّ شرعوا يتناقصون حتّي خلا المكان إلاّ من صوت الشّيخ المنهك.. تفرّقوا في الشّوارع فابتلعتهم الأزقّة والبيوت والمقاهي والخمّارات والمساجد والمكاتب ذات الكراسي المريحة والهواء المكيّف علي مقاس الوقت وصنّاعه.. وحده الشّيخ شقّ بخطواته الواهنة الدّرب إلي الواحة وفي قلبه صوت ينوح: "سئمتُ القصور..." 9 هذا نصّ مجهول للشّابي... عُثر عليه في حطام الدّار المُكتسحة مؤخّرا. من عثر عليه حَجبَه عن الورثة الشّرعيين أيّاما... ثمّ أظهره. صار هوأيضا وريثا.. وأصرّ علي نصيبه من قيمة اللّقيا... أغراه بعضهم بالنّشر فقبل، غير أنّ الورثة اعترضوا.. القضيّة تعد بصخب إعلاميّ كبير وضجّة قد تنتهي إلي المحاكم.. هذا مقطع من النصّ. حصلنا إليه بتقدير من الوارث الجديد حسبَ المبلغ الذي دفعناه إليه. ليس للنصّ عنوان ولا تاريخ.. ولكنّ الورق أصفر والخطّ خطّ الشّاعر بلا أدني شكّ، غفر الله له وأحسن إليه: تموت البلاد، بأنقاض بيتي.. تموتْ يموت الكلام علي شفتيها وتهجر أحلامُها ليلَها... يغور سناها ويربوعلي عينها العنكبوتْ يموت النّشيد، وما يشتهي القلب من أغنيات تموت النوارس من وحشة في الدّروب فتغفورياح وتنأي شطوطْ تموت البلاد وتمسي ركامْ وقفرا يجافيه سجْع اليمامْ تموت المنازل والذّكريات وكلّ الذي كان فيها ومنها وكلّ الذي ضاء فيها وغامْ تموت الدّيار ومن في الدّيار ولكنّ بيتا بنتْه ليَ الأمّ عطرا وضوْءا يظلّ علي الدّهر حيّا جديدا يناوئ بلدوزر الوقت صلدا ويحيا ولا يتعريه السّكوتْ تموت الحياة، العباد، الغزاة، الطّغاة، الجناةُ تموتْ تموت الأيادي، الأعادي، النّوادي، البوادي تموتْ تموت الدّيار، المباني، المغاني وحتّي القصور تموتُ وتُنسي الأيادي التي شيّدتها ولكنّ بيتي الذي شادني واحتواني سيبقي علي الدّهر صوتا دويّا يغنّي، ولا يخفتُ أويموت. ملحق علي سبيل الأُفُق: صباح يوم 9 أكتوبر 2016، حين كنّا في روضة الشّابي، مجموعة من الشعراء المقبلين علي إحياء الذّكري الثانية والثمانين لوفاة الشّاعر، مرّ موكب وزير الثّقافة دون أن يلتفت إلي ما يدور داخل القاعة.. تعلّل بعدم التسبّب في اضطراب فعاليات النّدوة ليتفادي الدّخول ربّما في جدل عقيم، مع الشّعراء القاصرين، في نظره وفي نظر من قدّر، عن فهم دواليب السّياسة والإدارة، وإدارة ماكينة الحكم التي لم تتّجه يوما إلي مناطق الحكمة ومنبعها... حسنا فعل، تهامسنا، إذ تفادانا.. لقد وقف طويلا علي الجوقة التي أزعجت منام الشّاعر في روضته بما كانت تردّد من صخب كصخب حفلات الأعراس التّونسيّة في الزّمن التّونسيّ المصاب في بصره وفي بصيرته ( ميّزتُ ممّا كانت تردّده هذا التوسّل: " ابعث لي جواب وطمّنّي "... يا لفداحة المفارقة.. ) فلعلّه قرأ علي باب الهيكل وصيّة الشّاعر: من لم يكن شاعرا فلا يدخلنّ علينا. وهل يُتوقّع ممّن لم يكن شاعرا أن يسعي إلي ما يحاول الشّعراء وأن يري ما يرون؟؟ بعد انقضاء النّدوة وافتراق الجموع، كان ضجيج كبير يصلها من ناحية ما من المدينة التي لم يتوقّف العمال فيها عن التّنظيف والصّيانة استعدادا لاستقبال معاليه.. تخيّلت الفولكلور الذي سيقدّم في السّاحات، والتّصفيق الذي سيحظي به الكلام الغثّ والمعلّب.. تخيّلت كلّ الفرح الاصطناعيّ الذي سيتراكم في السّاحة، فعجّلت بوداع من أحترم من الشّعراء وبي صوت يتردّد واضحا كالمطر: " وخبيث يعيش كالفأس هدّاما ليُعلي بين الخراب بناءه وقميء يطاول الجبل العالي فللّه ما أشدّ غباءه ودنيء تاريخه في سجلّ الشّر إفك وقحة ودناءة ". ( ألقي هذا النصّ في روضة أبي القاسم الشّابي بمدينة توزر في الذّكري الثانية والثّمانين لوفاة الشّاعر ضمن برنامج أعدّته المندوبيّة الجهويّة للشؤون الثقافيّة بالتّعاون مع جمعيّة أبي القاسم الشّابي للتّنمية الثقافيّة والاجتماعيّة، والرّابطة العربيّة للفنون والإبداع).