لا أجد مبرراً عقلانياً لموجة الفرح التي انتابت المصريين مع نتيجة الانتخابات الأمريكية وكأنهم هم الذين تسببوا في هزيمة هيلاري كلينتون وفوز ترامب. المبرر الوحيد عاطفي بالدرجة الأولي؛ إنه الشماتة في هيلاري وكراهية لها باعتبارها داعمة الإخوان في مصر وامتداداً للتوجه السياسي لأوباما. المصريون عواطفهم غلابة وتسبق تفكيرهم وتقديرهم لمصالحهم وهو ما يصيبهم في النهاية بخذلان دراماتيكي عنيف، حين تأتي النتائج بعكس المقدمات. تذكر معي صيحات التهليل والترحيب بتولي باراك »حسين» أوباما رئاسة أمريكا قبل ثماني سنوات والتخيل بأن وجود رئيس أمريكي له أصول أفريقية وإسلامية في آن واحد قد تجعله ينظر بعين العطف أو حتي الموضوعية للمصالح العربية. ويا سلام حين جاء أوباما إلي القاهرة وألقي خطاباً في جامعتها بدأه ب»السلام عليكم» فغزا قلوب المصريين بنفس السهولة التي غزا بها سوريا. مع أنه في إسرائيل بدأ خطابه أيضاً بتحيتهم باللغة العبرية. نفس العواطف الجياشة والفرح غير المبرر نستقبل به انتخاب دونالد ترامب شماتة في هيلاري كلينتون! ونطرب وتخفق قلوبنا حين يتحدث عن مصر بلهجة تبدو متعاطفة ودودة، وننسي أن سيرة بلدنا جاءت في معرض خطاب انتخابي له كان هدفه الرئيسي تحطيم قوة منافسته في حرب تكسير العظام الدائرة بينهما والتركيز علي أخطائها. كلام ترامب يدغدغ مشاعرنا حين يهاجم »داعش» ويري ضرورة محاربتها، وحين يقول إنه ليس من مهام أمريكا تغيير أنظمة الدول الأخري. وعندما يكره المسلمين بعنصريته المعروفة نتصور أنه يفرق تفريقاً عادلاً بين المسلمين المسالمين والآخرين المتشددين ونتمني في داخلنا أن ينتصر للفريق الأول. دائماً نجلس في انتظار ما لا يأتي، والآن نرسم حساباتنا علي أن صفحة جديدة في العلاقات ستنفتح مع ترامب، وهذا جيد لكننا ننسي أو نتناسي دائماً أنه أولاً: الرئيس الأمريكي لا يقوم بتوجيه دفة العلاقات الخارجية والتحالفات الاستراتيجية، إنما تصنعه مؤسسات وأجهزة بأكملها ولعشرات السنين القادمة وإلا لكنا رأينا اختلافاً جوهرياً - وضع خطاً تحت جوهرياً - في سياسة الولاياتالمتحدة كل أربع أو ثماني سنوات باختلاف شخص الرئيس الموجود في البيت الأبيض. قد تختلف القشرة الخارجية لكن العمود الفقري واحد. ونتناسي بالإضافة لذلك أن الرئيس - أي رئيس - في أمريكا محكوم بإطار توجهات الحزب الذي ينتمي له وأن الجمهوري ترامب يخرج من نفس الماعون الذي خرج منه جورج دبليو بوش الذي غزا العراق في مغامرة حربية مازالت المنطقة تعاني من آثارها حتي الآن. صحيح أن ترامب انتقد بشدة غزوات بوش الابن ولم يصوت الأخير له، لكن قرارات ترامب في النهاية باتت محصنة بعدما استحوذ الحزب الجمهوري الآن علي الكونجرس بمجلسيه، وبات التوجه العام في واشنطن جمهوري النزعة فلا مجال للتعويل علي وقوع خلافات أو انقسامات جذرية قد تغل يد الرئيس أو تكبح نزقه. دعونا نخمن.. هل يمكن أن يتجرأ ترامب وينقل السفارة الأمريكية لدي إسرائيل من تل أبيب إلي القدس مثلا حسبما نُسب إليه؟ هل يفعلها ويزيد من المعونات الأمريكية لإسرائيل حسبما نُقل عن حملته الانتخابية؟ طيب هل يمكن أن يساوي بين مصر وإسرائيل في المعونات؟ طيب.. هل يمكن أن نشهد مولد دولة فلسطينية في عهد ترامب؟ غالباً لن ترضينا إجابة أي من الأسئلة السابقة. في العموم قد نرتاح لتقارب أمريكي - روسي محتمل بما هو ملحوظ من تبادل الغزل بين ترامب وبوتين، وقد نطمئن لحدوث انفراجة في العلاقات مع مصر، يمكن ان نستبشر خيراً لكن دون أن ننخدع بشدة الغربال الجديد، فالرئيس الأمريكي الجديد حريص علي ألا يرث عداوات الإدارة السابقة لذلك يطلق مجاملاته التصالحية في كل اتجاه، وحريص علي تغيير صورة البلطجي الأحمق الجاهل التي احتلت أذهان العالم عنه. أما نحن فيتعين علينا أن نتعامل بمزيد من التعمق مع سياسة حزب لا سياسة شخص، وأن تتغلب مصالحنا علي عواطفنا.