ماذا لو التزم ماكس برود بوصية فرانز كافكا وأحرق أعمال الأخير بعد وفاته؟! لم يكن معظمنا ليسمع باسم كافكا، ولبقي لسنوات قليلة في ذاكرة من عرفوه باعتباره مواطناً صالحاً رحل مبكراً، لا أكثر ولا أقل. لحسن الحظ، خان برود وصية صديقه، واحتفظ بأعماله وإن حاول أن يفرض تأويله الخاص لها علي ما عداه من تفسيرات وتأويلات. غير أن أعمالاً كثيرة لم تصادف هذا الحظ الحسن، إذ أُحرقت أو ضاعت أو غيبها النسيان، وغيَّب مؤلفيها بالتبعية. البولندي برونو شولتز مثلاً ضاعت معظم مسوداته ورسوماته، بعد أن قتله أحد ضبّاط الجستابو أثناء الحرب العالمية الثانية، وظلت الأقاويل المتداولة عن مخطوط روايته المفقودة "المسيح" في منطقة وسط بين النفي والإثبات. شولتز نفسه بقي في الظل لعقود بعد قتله، حتي أعاده فيليب روث لمركز الضوء في العالم الناطق بالإنجليزية، ليتزايد بعدها الاهتمام به وبتأثيره الأدبي علي عدد لا يستهان به من الكتاب المعروفين. لكن لا يمكن مقارنة حالتي كافكا المحظوظ وشولتز الأقل حظاً، بكُتّاب تلاشوا تماماً، ولم يعد لهم ذكر، وبأعمال صارت هي والعدم سواء. تلك الأعمال التي التهمتها النيران في حريق مكتبة الأسكندرية القديمة علي سبيل المثال، أو المخطوطات والمؤلفات التي غرقت في مياه دجلة (إن كان لنا أن نصدق تلك التفصيلة التاريخية) حين غزا المغول بغداد. أو كتب حضارة المايا الحافظة لقرون من الذاكرة الجمعية التي أحرقها راهب فرانسيسكاني متعصب رأي فيها مدونات شيطانية لشعب وثني. قبل عشر سنوات تقريباً صدر "كتاب الكتب الضائعة" لستيوارت كيللي، الذي توقف فيه أمام كتب ضاعت إما بالحريق، أو التجاهل، أو القمع والمصادرة، أو بعدم الاكتمال، أو حتي بعدم البدء في كتابتها. في كتابه هذا، يري كيللي، محقاً، أن ضياع الكتب ليس استثناءً ولا حالة شاذة ولا انحرافاً عن قاعدة، بل هو القاعدة ذاتها. فقد وصلتنا 7 مسرحيات فقط من بين أكثر من ثمانين مسرحية كتبها إسخيلوس، و7 مسرحيات من بين مئة وعشرين مسرحية ألفها سوفوكليس، و18 مسرحية من بين تسعين ليوربيدوس! وقبل أقل من شهر صدر كتاب جديد لسكوت إسبوزيتو بعنوان "الكتب المفقودة"، يقدم من خلاله قائمة بأهم الكتب المفقودة مقسماً إياها إلي أربعة أقسام هي: كتب لم تُنشَر بعد (بعضها لن يُنشَر إلّا بعد قرابة مئة عام)، كتب موجودة بين ثنايا كتب أخري (وهو أطرف الأقسام)، كتب ضائعة، كتب أعيد اكتشافها. هذان الكتابان المتشابهان في الموضوع، يحفزان علي التفكير في الكتب المفقودة علي امتداد الثقافة العربية والإسلامية. كم من كاتب عربي أحرق أعماله! وكم من كاتب أُحرِقت أعماله أو غُيبَّت، وكم من أفكار ظلت مقبورة في عقول كتابها المحتملين لأنهم خافوا تدوينها وإخراجها إلي حيز العلن. كل هذا يدفعنا إلي المجازفة بقول إن تاريخ الكتب المفقودة ربما يفوق، من حيث الحجم، ذلك الخاص بالكتب الناجية. فهناك الكثير من العناوين المكتوبة بلغة الصمت، والكثير من العناوين التي غرقت في الصمت وأُحيطت به من كل جانب. م. ع