في رسائلها إلي فرانز كافكا، كانت حبيبته ميلينا دائمة السؤال عن يهوديته -لا صهيونته- هي الصحفية التشيكية التي لم يمنعها فضولها في التطرق إلي أي أمر يخص كافكا. وكان يعتبر أسئلتها هذه مجرد مزحة. وكتب لها مرّة "هل تريدين معرفة إذا كنتُ أنتمي إلي اليهود القلقين؟ أرجوكِ، لا تكوني ساذجة". لكن ميلينا كعادتها أخذت رده علي محمل الجد. فما كان أمام كافكا سوي أن يصف كلامه بالفكاهة السخيفة، قائلاً لها "أردت فقط أن أضحكك!"، وسرد في رسالة مؤرخة بيوم 13 يونيو 1920، أي بعد ثلاث سنوات تقريباً من الإعلان عن إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، رأيه الحاسم في القضية: "أريد أن ألومك يا ميلينا، لأنكِ حسنة الظن باليهود، بما فيهم أنا، أحياناً أود لو أحشر اليهود كلهم، وأنا أيضاً معهم، في أحد الأدراج، وانتظر، ثم أسحب الدرج قليلاً كي أري إذا كانوا اختنقوا، وإذا لم يكن هذا قد حدث، أغلق الدرج، وأعيد العملية هكذا حتي النهاية". ربما كان يتنبأ كافكا حينها، بما سيفعله هؤلاء الحالمون بأرض الميعاد، ربما كان يدرك أنانيتهم، وخططهم في الاستيلاء علي أي شيء، حتي عليه هو نفسه، ربما لأجل ذلك بالتحديد طلب من صديقه المقرب ماكس برود - المؤيد للصهيونية - إحراق كل ما كتبه بعد وفاته. لكن برود تجاهل ذلك. واحتفظ بمخطوطات كافكا. وهرب بها من براغ إلي فلسطين عام 1939 ، كان من الممكن أن ندين بالامتنان إلي برود، إن لم يفعل خطوته الأخيرة، لكنه دعم إسرائيل وساندها ولم ينشر كل مخطوطات كافكا التي كانت بحوزته. وبعد وفاته عام 1968 ورثت سكرتيرته وحبيبته الإسرائيلية استير هوف المخطوطات. وظلت أعمال كافكا غير المنشورة بعيدة عن أعيننا طيلة نصف قرن، وغير معروف مكانها لأي شخص خارج أسرة استير. وفي عام 2007 ماتت حبيبة برود، تاركة لبناتها المخطوطات، وحين أعلنّ عن رغبتهن في بيعها، اشتعل النزاع بين ألمانيا وإسرائيل علي إرث كافكا. قبل أسبوعٍ، كان لا يزال هناك أمل، بألا تبقي المخطوطات في أرشيف تل أبيب، لكن المحكمة العليا في إسرائيل قضت بنقل إرث كافكا من أسرة استير هوف إلي المكتبة الوطنية في إسرائيل. ليبدأ الجدل حول "من يمتلك كافكا؟". وهو اسم المحاضرة التي ألقتها الأمريكية يوديت باتلر أستاذة الأدب المقارن في جامعة كولومبيا، إذ أعلنت فيها عن استيائها من الصورة التي ترسمها وتصدرها إسرائيل لليهود في العالم، بأنها تحافظ علي ثقافتهم. مستشهدة بما قاله ديفيد بلومبرج، رئيس مجلس إدارة المكتبة الوطنية، "المكتبة لا تنوي التخلي عن الأصول الثقافية للشعب اليهودي، لأنها ليست مؤسسة تجارية"، متسائلة: "كيف يمكن اعتبار كتابات كافكا من أصول الشعب اليهودي؟ كافكا نفسه لم يتحدث في أعماله كيهودي. لذلك علي إسرائيل أن تفرق بين اليهود الذين لا يؤيدونها ولا ينتمون إلي الصهيونية، وبين اليهود الذين يقطنون أرض فلسطين". هذه هي القضية، التي عبرت عنها ببساطة يوديت باتلر، أن إسرائيل ليس لها الحق في الاستيلاء علي إرث كافكا. وهنا في العالم العربي كان الجدال في قضية أخري؛ "هل كافكا صهيوني؟"، وهو السؤال الذي طالما تناولته الأقلام الثقافية، والذي لو وجهه أحدهم لكافكا، لاعتبره ساذجاً حقاً، أما إذا أعدنا صياغة السؤال إلي "هل كافكا إسرائيلي؟"، لكان الأمر محسوماً لنا، ولاعتقدنا أن لو كان كافكا حياً لوقتنا هذا، ربما أراد أن يحشر الإسرائيليين في درج، ويخنقهم جميعاً. لكن الحقيقة الأكيدة أن لا أحد استطاع أن يحسم صهيونية كاكفا ألم يقل في عبارة واحدة "أنا معجب بالصهيونية، ومشمئز منها"، أي أنه كان متشككاً في الحركة آنذاك، وهو الرأي الذي يميل إليه عاطف بطرس صاحب كتاب (كاتب يهودي من منظور عربي) الصادر باللغة الألمانية عن كافكا، والذي يعكف حالياً علي ترجمته إلي العربية. يقول عاطف بطرس: "علينا أن نفهم أن الصهيونية كانت حركة صغيرة، سخر الكثير منها، وتحمس لها البعض مع تزايد العداء ضد يهود أوروبا. وكان كافكا يعيش في براغ وسط دوائر المثقفين اليهود، الذين كان من بينهم المتحمسون للصهيونية. إذ كان المثقف اليهودي حينها أمام توجهين، إما أن يكون قومياً صهيونياً يمينياً ينادي بإقامة وطن لليهود، أو أن يتبني الحل اليساري الذي يميل إلي الشيوعية، ويندمج في المجتمعات حتي تتحقق العدالة الاجتماعية. وكان كافكا علي مسافة من الصهيونية. وهناك الكثير من نصوصه التي تكشف عن علاقته المضطربة باليهودية، منها: ما الذي يربطني أنا باليهود أو اليهودية". في كتاب (فهود في المعبد) للناقد الألماني ميشائيل مار. ترجمة أحمد فاروق. كانت هناك مقالة عن كافكا بعنوان (جرار القرابين من أجل الفهود)، والتي جاءت فيها عبارته الشهيرة "لا تقودني يد المسيحية المنكسة الثقيلة جداً عبر هذه الحياة كما يفعل كيركغارد، ولم أمسك بآخر ذيل تطاير من شال الصلاة اليهودي كما يفعل الصهاينة". وجاء أيضاً في المقالة: "لم يكن كافكا معزولاً فحسب لكونه يهودياً ألمانياً في براغ ذات الطابع المسيحي، التي كان عمالها يتحدثون التشيكية، بل كان معزولاً لكونه يهودياً لا أدرياً محاطاً بالتراث الديني اليهودي". في ذلك السياق يوضح المترجم أحمد فاروق: "المعروف أن ماكس برود هو من ورط كافكا في الصهيونية، وربط أعماله بالمسألة اليهودية، وبإسرائيل. وعلي أي حال، لن يمنعنا وجود المخطوطات في إسرائيل من الاستمتاع بأدب كافكا". وبخصوص ماكس برود، للشاعر محمد عيد إبراهيم رأي فيه: "كان برود شاعراً رديئاً، استغلّ صداقته مع كافكا وموته المفاجئ بمرض السلّ في سنّ صغيرة، وحاول صنع أسطورة من خياله هو عن كافكا، وزوّر وصيته بحرق ما تركه من إبداع، وأطلق شروحاته وتأويلاته لروايات وقصص كافكا. ثم احتضنت الصهيونية برود، وصار منافحاً عنها، مغتصباً أدب كافكا، محولاً إياه إلي رديف لنظرية متعصّبة عدوانية".. أما عن صهيونية كافكا يري أنها أكذوبة سخيفة إذ "لم يُعرف عنه أنه قد ساند الصهيونية في شيء خلال الفترة القصيرة التي عاشها وكتب فيها مآثره، حتي النقّاد الذين نظروا في مقالته (الحزن في فلسطين)، واستنبطوا منها صهيونيته، يمكن النظر فيها من ناحية أخري، واستنباط لامبالاته بالصهيونية. فلم توجد لديه شخوص يهودية، ولا مشاهد تدلّ علي اهتمامه باليهودية من أيّ نوع". لماذا تسعي إذن إسرائيل إلي السيطرة والهيمنة علي تراث أي يهودي؟ خصوصاً لو كان في حجم كافكا. تري المترجمة عن الألمانية هبة شريف أن إسرائيل تحاول بناء قاعدة شرعية استناداً علي الدين، من خلال بحثها عن مشاهير اليهود من المفكرين والمثقفين، وضمهم إلي دولتها المزعومة. وأضافت: "لم يكن كافكا متحيزاً لوجود وطن لليهود، ولم ينادي بما نادي به تيودور هيرتزل، رغم معاصرته لسنوات اضطهاد اليهود، حتي أن الصهيونية حينها كانت حركة مثالية، وكان اليساريون الغربيون يتسابقون علي العمل في الكيبوتس، لكونه يعطيهم حقوقهم ويساوي فيما بينهم، أما الصهيونية الموجودة حالياً فهي تطور سلبي للحركة". يبدو أن كافكا كان يتوقع ما ستصل إليه الصهيونية الآن. ما جعل موقفه متناقضاً منذ البداية. والذي أثر بالتبعية علي موقف المفكرين من صهيونيته، خصوصاً العرب، وقد تناول ذلك يانس هانسن، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في جامعة تورنتو بكندا، في مقاله (كافكا والعرب)، والذي ترجمه المفكر اللبناني وهيب معلوف، إذ جاء فيه: "مقارنة أعمال كافكا، بما فيها مذكراته ومراسلاته، مع ما كانت تصدره الصحافة الألمانية الصهيونية أثناء الحرب العالمية الأولي، تكشف أن موقفه من الصهيونية كان يكتنفه الغموض وحتي السخرية. ويبدو أنه كان يعي أن اللحظة التي تحط الصهيونية فيها رحالها في فلسطين، لن تبقي حركة تحررية قومية يهودية في أوروبا، وستصبح حركة استيطانية كولونيالية". علي أي حال، لقد استولت إسرائيل علي الأرض، واستولت علي مخطوطات كافكا، لكنها لم تستطع أن تقنع باقي يهود العالم بالمشاركة في الاستعمار، ولم تستطع التفرقة بين كافكا وبين محبيه من العرب، ولن تستطيع حتي أن تضعنا في مأزق التطبيع، حسب شريف بكر مدير دار العربي التي أعادت ترجمة الكثير من أعمال كافكا. فمخطوطات كافكا غير المنشورة، التي ضمتها المكتبة الوطنية في إسرائيل إلي حوزتها، أصبحت وفق حقوق الملكية الفكرية مشاعاً عاماً، يمكن التعامل معها بعد ترجمتها دون التعامل المباشر مع المكتبة، ففي حالة صدور أي مخطوط باللغة العبرية، وتم ترجمته إلي العربية، لا يعني ذلك تطبيعاً، لأن كافكا مر علي وفاته أكثر من 90 عاماً، وأعمال الأدباء تصبح مشاعاً بعد مرور 50 عاماً علي وفاتهم "المشكلة إن حاولت إسرائيل العبث في مخطوطات كافكا، بالحذف أو بالإضافة، حينها سيملأ الشك قلوبنا".