وزير التعليم العالي: الجامعات الأهلية تمتلك زخمًا من الخبرات الأكاديمية    رئيس جامعة طنطا يتفقد الامتحانات بمركز الاختبارات الإلكترونية بالمجمع الطبي    برلماني: موازنة 2025 الأضخم في تاريخ الدولة المصرية    تباين أسعار العملات الأجنبية في بداية تعاملات 3 يونيو    رئيس النواب يفتتح أعمال الجلسة العامة لاستكمال مناقشة مشروع الموازنة    بقيمة 7 مليارات جنيه.. صرف مستحقات المصدرين المستفيدين من الشريحة الأولى    ارتفاع طفيف للمؤشر الرئيسي للبورصة مع بداية تعاملات اليوم الاثنين    رئيس هيئة الاستثمار: تنوع الاقتصاد والأنظمة الاستثمارية يحمى مصر من مخاطر الاقتصاد العالمي الحالية    مصدر رفيع المستوى ينفي مزاعم إسرائيلية حول اعتزام مصر بناء حاجز جديد على الحدود مع غزة    شكري: الحرب على غزة تعرض المنطقة للفوضى    الأونروا: التهجير القسرى دفع نحو مليون شخص للفرار من رفح الفلسطينية    فرق الإنقاذ الألمانية تواصل البحث عن رجل إطفاء في عداد المفقودين في الفيضانات    كوريا الجنوبية تعلق اتفاقية خفض التوتر مع نظيرتها الشمالية    الرئيس الأوكراني يوجه الشكر للفلبين لدعم قمة سلام مقبلة في سويسرا    المؤتمر: الأمن القومي المصري خط أحمر ودعم القضية الفلسطينية رسائل الحوار الوطني    الغزالة رايقة.. محمد صلاح ينشر صوره في تدريبات المنتخب قبل مواجهة بوركينا فاسو    التشكيل المتوقع لودية ألمانيا وأوكرانيا ضمن استعدادات يورو 2024    إصابة شخصين إثر انقلاب دراجة نارية في مدينة 6 أكتوبر    الحماية المدنية تنقذ مركز شباب المنيب من حريق ضخم    محافظ جنوب سيناء يعتمد نتيجة الشهادة الإعدادية لعام 2024    تعليم القاهرة: التظلمات على نتيجة الشهادة الإعدادية مستمرة 15 يوما    لماذا رفض الروائى العالمى ماركيز تقديم انتوني كوين لشخصية الكولونيل أورليانو في رواية "100 عام من العزلة"؟ اعرف القصة    صديق سمير صبري: سميرة أحمد كانت تزوره يوميا والراحل كان كريماً للغاية ويفعل الخير بشكل مستمر    بسبب وفاة والدة محمود الليثي.. مطربون أجلوا طرح أغانيهم    وزير الصحة يستقبل مدير المركز الأفريقي لمكافحة الأمراض    علقت نفسها في المروحة.. سيدة تتخلص من حياتها بسوهاج    الاثنين 3 يونيو 2024.. أسعار الحديد والأسمنت بالمصانع المحلية اليوم    الجيش الإسرائيلي: اعتراض صاروخ أرض-أرض تم إطلاقه من منطقة البحر الأحمر    النقل تناشد المواطنين المشاركة في التوعية من مخاطر ظاهرة رشق الأطفال للقطارات بالحجارة    عاجل.. «9 أيام إجازة».. قرار هام من الحكومة خلال ساعات بشأن عيد الأضحى    رئيس البعثة الطبية للحج: جاهزون لاستقبال الحجاج وفيديوهات إرشادية للتوعية    بالصور.. رئيس جامعة القاهرة يطمئن على سير أعمال الامتحانات بالكليات    ليكيب: ريال مدريد سيعلن عن التعاقد مع مبابي اليوم الإثنين    شوبير عبر برنامجه : عبد المنعم رفض مد تعاقده مع الأهلي .. وصراع الوكلاء يهدد صفقة عطية الله .. والوكرة القطري لم يقدم عرضاً لضم أليو ديانج    باحثة ل"إكسترا نيوز": مصر لديها موقف صارم تجاه مخططات إسرائيل ضد غزة    فيلم «التابعي.. أمير الصحافة» على شاشة قناة الوثائقية قريبًا    هل يجوز ذبح الأضحية ثاني يوم العيد؟.. «الإفتاء» توضح المواقيت الصحيحة    شوبير يكشف مصير ديانج وكريستو فى الانتقالات الصيفية    تأييد الحكم بحبس مدير حملة أحمد طنطاوي    الكشف الطبي بالمجان على 1160 مواطنا في قافلة طبية بدمياط    وزير الصحة: نفذنا 1214 مشروعا قوميا بتكلفة تقترب من 145 مليار جنيه    وزير الإسكان يوجّه بتسليم الوحدات للمقبولين بإعلانات «الاجتماعي» في الموعد المحدد    أول تعليق من التعليم على زيادة مصروفات المدارس الخاصة بنسبة 100 ٪    تحرك من الزمالك للمطالبة بحق رعاية إمام عاشور من الأهلي    محمد الشناوي يحرس عرين منتخب مصر أمام بوركينا فاسو في تصفيات المونديال    شرف عظيم إني شاركت في مسلسل رأفت الهجان..أبرز تصريحات أحمد ماهر في برنامج "واحد من الناس"    بالفيديو.. أول تعليق من شقيق المفقود السعودي في القاهرة على آخر صور التقطت لشقيقه    كيفية حصول نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 بني سويف    أحداث شهدها الوسط الفني خلال ال24 ساعة الماضية.. شائعة مرض وحريق وحادث    متحدث الوزراء: الاستعانة ب 50 ألف معلم سنويا لسد العجز    فضل صيام العشر الأوائل من ذي الحجة وفقا لما جاء في الكتاب والسنة النبوية    «رئاسة الحرمين» توضح أهم الأعمال المستحبة للحجاج عند دخول المسجد الحرام    محمد الباز ل«بين السطور»: «المتحدة» لديها مهمة في عمق الأمن القومي المصري    وزير الصحة: تكليف مباشر من الرئيس السيسي لعلاج الأشقاء الفلسطينيين    أفشة: كولر خالف وعده لي.. وفايلر أفضل مدرب رأيته في الأهلي    دعاء في جوف الليل: اللهم افتح علينا من خزائن فضلك ورحمتك ما تثبت به الإيمان في قلوبنا    مصرع 5 أشخاص وإصابة 14 آخرين في حادث تصادم سيارتين بقنا    الإفتاء تكشف عن تحذير النبي من استباحة أعراض الناس: من أشنع الذنوب إثمًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أدباء وكتاب أسقطهم التاريخ الأدبي 13
بدر الديب‮.. ‬غياب واقع‮ ‬واضح وحضور فني عميق
نشر في أخبار الحوادث يوم 29 - 10 - 2016

دائما ما تحضرني جملة عابرة أرسلها الشاعر العراقي الكبير سعدي‮ ‬يوسف في حوار أجرته معه مجلة الكرمل منذ ثلاثة عقود علي وجه التقريب،‮ ‬ويقول فيها سعدي متأثرا بحال الثقافة العربية الذي لا‮ ‬يسرّ‮ ‬أحدا‮ :"..‬أعيش في الظل،‮ ‬ولكنني أكتب في المواجهة‮.."‬،‮ ‬وفي ذلك الحوار أيضا،قال عن نفسه بأن تطوره بطيئا،‮ ‬ويصف سعدي‮ ‬_بخجل معهود لديه_ هذا التطور بالعمق،‮ ‬ويضيف بأنه ليس صاحب انقلابات مفاجئة في الشعر العربي،‮ ‬لأنه ابن تلك البيئة التي تتأثر بما تتلقاه علي مهل‮.‬
تلك الجمل المقتطفة من سياقها،تنطبق علي فريق من كتّابنا العرب،‮ ‬ذلك الفريق الذي آثر أن‮ ‬يكتب من بعيد،دون أن‮ ‬يشارك بأن‮ ‬يكون موجودا بجسده_دائما_ في قلب الأحداث،‮ ‬وحاضرا في كل مناسبة،‮ ‬ومشاركا في كل فاعلية هنا أو هناك،‮ ‬ومحاضرا في كل المؤتمرات والمنتديات علي حد سواء،‮ ‬إن هؤلاء الكتّاب الذين‮ ‬يملأون الدنيا صياحا ووجودا جسديا،‮ ‬ربما لا توجد مقابل كل هذا جملة واحدة مفيدة أو مؤثرة أو فاعلة،‮ ‬وتلك افتراضات جزئية،‮ ‬فليس كل مشارك ونشيط بغزارة،‮ ‬ليس فعّالا وليس مؤثرا،‮ ‬وفي المقابل ليس كل مبتعد وناء عن المشاركات،‮ ‬يصبح مؤثرا وطليعيا‮.‬
لكنني أسوق تلك المقدمة التي طالت نسبيا،‮ ‬لكي أتحدث عن كاتب،‮ ‬يكاد المثقفون‮ ‬يعرفون اسمه بصعوبة،‮ ‬وإن عرفوا اسمه،‮ ‬فربما لم‮ ‬يهتدوا إلي كتاباته التي تنوعت بين شعر وقصص قصيرة وروايات وكتابات نقدية وترجمة ونقد في الفن التشكيلي وغيره،أقصد الكاتب والشاعر بدر الديب،‮ ‬ذلك الرجل الذي ذهب إلي جميع أقطار الأرض،‮ ‬واشتغل بتدريس تاريخ المسرح والنقد المسرحي‮ ‬_حسب ادوار الخراط_ واشتغل بالتوثيق والبيبلوجرافيا في جامعة كولومبيا،واليونيسكو،وفي معهد الفنون المسرحية بالقاهرة،وكان المستشار الثقافي لجريدة الجمهورية المصرية،‮ ‬ورأس تحرير جريدة المساء،وألّف وكتب في البيبلوجرافيا والفهرسة والتصنيف وتاريخ الأدب وتاريخ التعليم والنقد الأدبي،والنقد المسرحي،وتاريخ علم الجمال،وكتب دراسات عن الصهيونية،‮ ‬وترجم عن شيكسبير ووليم سارويان وتشيكوف وكوفمان وغيرهم،وأشرف علي تحقيق‮ ‬كتب من أمهات التراث العربي هي طبقات ابن سعد،ورحلة ابن جبير وخطط المقريزي‮.‬
ويعتبر بدر الديب هو أحد المجددين في الشعر بامتياز،‮ ‬فقد كتب قصيدة النثر في عقد الأربعينيات،‮ ‬ويذهب الشاعر كريم عبد السلام إلي أن بدر الديب هو الرائد والمجدد الحقيقي لقصيدة النثر بين أربعة شعراء ومبدعين كتبوها،‮ ‬وهم لويس عوض وابراهيم شكرالله ومحمد منير رمزي،‮ ‬واعتبره عبد السلام بأنه أكثرهم مصداقية وغزارة وفاعلية،‮ ‬ثم طرح كريم عبد السلام سؤالا افتراضيا،‮ ‬وهو‮ "‬ماذا لو كان بدر الديب نشر أشعاره في زمن كتابتها؟،‮ ‬هل كانت ستترك أثرا علي الحركة الشعرية المصرية والعربية ؟،‮ ‬ويجيب كريم‮ :"..‬إن حرف الحاء‮ ‬_وهو أحد دواوين بدرالديب المكتوب في الأربعينيات_ لو قيض له التلقي الإيجابي والفهم النقدي الواعي بعد نشره في زمن كتابته أي في نهاية الأربعينيات،‮ ‬لتغير مسار الشعر المصري،ولما أصبحنا الآن علي تلك الصورة الكاريكاتورية‮..".‬،ربما‮ ‬يكون ذلك الرأي إفراطا من كريم عبد السلام في التفاؤل،‮ ‬وعلي أي حال هو محق في أهمية ماكتبه الديب في تلك المرحلة المبكرة من تاريخ قصيدة النثر،‮ ‬وليس بالضرورة أن‮ ‬يجد طريقه إلي التأثير،‮ ‬لأن قضية التأثير والتأثر تلزمها عوامل متعددة،‮ ‬ليس شرطها الوحيد نشر المادة الفنية،‮ ‬ولكن هناك العوامل الأخري التي تحيط بالقارئ،‮ ‬وقدرته علي التلقي والفهم والإدراك والتفاعل‮.‬
ورغم أن بدر الديب بدأ شاعرا ومجددا واسع المعرفة،وذا موهبة طازجة ولافتة للنظر،إلا أنه أبدع‮ ‬_ كذلك في القصة والرواية والنقد الأدبي،‮ ‬وقد اقترن اسمه بأهم مقدمة نقدية في الشعر العربي الحديث،‮ ‬وهي مقدمة ديوان‮ "‬الناس في بلادي"الذي صدر عن دار الآداب عام‮ ‬1957،‮ ‬وتعدّ‮ ‬تلك المقدمة النقدية الرصينة والمغامرة بمفاهيم جديدة في الوقت نفسه،إحدي الأيقونات الفكرية التي دفعت عجلة الشعر الحرّ‮ ‬أو الحديث إلي الأمام،‮ ‬والتي كتب بعدها رجاء النقاش مقدمته الشهيرة لديوان‮ "‬مدينة بلاقلب‮" ‬للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي عام‮ ‬1959،‮ ‬ورغم أن المقدمات لم تكن جديدة علي الحياة الثقافية في مصر أو في العالم العربي،‮ ‬ولكن مقدمة بدر الديب للناس في بلادي،‮ ‬وبعدها مقدمة رجاء النقاش لمدينة بلا قلب،‮ ‬أعطيتا تميزا خاصا للمقدمات النقدية،‮ ‬ولم تصبح‮ ‬_كما كانت من قبل_ عبئا‮ ‬يوضع قبل أن‮ ‬يقرأ القارئ الديوان،‮ ‬فهناك قبل ذلك بعض دواوين صدرت من قبل،‮ ‬وكتبت لها مقدمات،‮ ‬ولكنها لم تترك الأثر البالغ‮ ‬الذي لعبته مقدمة بدر الديب للناس في بلادي،‮ ‬وهذا‮ ‬يعود لارتباط بدر بحركة التجديد الشعري والإبداعي بشكل عام‮.‬
وبعد أن ذاع اسم بدر الديب بعد صدور ديوان صلاح عبد الصبور عام‮ ‬1957،‮ ‬راح بدر الديب‮ ‬يجوب العالم منذ عام‮ ‬1951،‮ ‬وكان بدر حسب أصدقائه د شكري عياد وادوار الخراط ومحمود أمين العالم قارئا موسوعيا،‮ ‬وله علاقة وطيدة بالكتب،‮ ‬علاقة قرائية فريدة،‮ ‬وعلاقة تبويب وتصنيف وجدولة،‮ ‬كان خبير مكتبات بامتياز،‮ ‬واستعانت به معظم الهيئات والمؤسسات الكبري،‮ ‬وعلي رأسها منظمة اليونسكو في تصنيف وتبويب وجدولة الكتب،‮ ‬وكذلك عمل في مكتبات الرياض وبعض الدول العربية الأخري لأزمنة طويلة‮.‬
ولا أعتقد أن انشغال بدر بتلك الوظائف،‮ ‬هو الذي منعه عن نشر أعماله في حينها،‮ ‬ولكنه كان كمن‮ ‬يكتب لمتعته الخاصة،‮ ‬وكذلك كان لديه شكوك واسعة حول أثر الشعر في الذائقات المعاصرة للكتابة الطليعية،‮ ‬ومن‮ ‬يتأمل ما كتبه في مقدمة ديوانه‮ "‬تلال من‮ ‬غروب‮.. ‬مقطوعات في الدين والحب والسياسة‮"‬،‮ ‬سوف‮ ‬يدرك ذلك الأمر،‮ ‬إذ إنه‮ ‬يقول‮ :"..‬إنني لا أعتقد أن الشعر العربي الحديث قد حقق فعلا حريته واكتسب قدرة علي التعبير عن مشاعر وأحاسيس ومعرفة القرن الذي نعيش فيه،إنه_ في نظري_ في الطريق إلي ذلك ولم‮ ‬يحقق إلي الآن إلا التخلص من بعض القيود الغربية عن اللحظة الحاضرة‮.."‬،‮ ‬وربما‮ ‬يزداد لدينا الاقتناع بأن بدر الديب كان قلقا تجاه مايكتب،‮ ‬وتجتاحه أسئلة عن نوعية مايكتب،‮ ‬ولكنه عندما قرر النشر بعد أربعين عاما،‮ ‬ونشر‮ "‬حرف الحاء،‮ ‬والسين والطلسم،‮ ‬والمستحيل والقيمة،‮ ‬وتلال من غروب‮ "‬،‮ ‬كتب‮ ‬يقول‮ :"..‬وأخير ا،‮ ‬ليس من المهم ماذا‮ ‬يطلق علي هذه المقطوعات أو إلي‮ ‬‮ ‬ماذا تنتسب،‮ ‬إن النسبة إلي شكل أو أسلوب أو مدرسة هي دور منطقي فيه قدر كبير من العقم،والقصة أو القصيدة أو المقال،‮ ‬أو‮..‬أو‮..‬أو،‮ ‬كلها صور فنية ذات تاريخ وقواعد‮ ‬يصنعها التاريخ الأدبي،‮ ‬وإن استخرجت من التعبير الفني وصناعة التعبير‮..".‬
وأنا شخصيا‮ ‬لا‮ ‬يهمني كذلك ما‮ ‬يكتبه بدر الديب من تخوفات،‮ ‬ولكنني موقن أن ما أتي به،‮ ‬ينتمي إلي الفنّ‮ ‬في معناه الواسع،‮ ‬وعلي المتلقي أو القارئ أو الباحث أن‮ ‬يصنّف علي مهل،‮ ‬وها هو ادوار الخراط‮ ‬يقول عن ذلك الجنس الأدبي بأنه‮ ‬ينتمي إلي كتابة‮ "‬عبر النوعية‮"‬،‮ ‬ولكن كريم عبد السلام‮ ‬يقطع بأن ذلك شعر،‮ ‬أما شكري عياد فيحتار في تصنيف تلك الكتابة،‮ ‬ويكتب الفنان التشكيلي الكبير عدلي رزق الله قائلا‮ :"‬كتاب حرف الحاء عمل فريد،‮ ‬متميز،‮ ‬لم أقرأ مثيلا أوقرينا له،‮ ‬لا‮ ‬يندرج تحت أي تصنيف مما عرفناه من شعر أو أدب سابق عليه،‮ ‬يمكنك تصفح الأوراق في نصف ساعة لا‮ ‬غير،‮ ‬لكن قراءتها شئ آخر،‮ ‬تقرأ النص فيمسك بتلابيبك لا‮ ‬يفارقك،‮ ‬ولا تقدر علي مفارقته،‮ ‬ينفرد بك ويحيلك إلي جنة الإبداع الحق‮.."‬،‮ ‬وفي استطراد كلام أو كتابة عدلي رزق الله الذوّاقة،‮ ‬والعارف بروح الفنون عموما،‮ ‬سندرك أن عدلي نفسه محتار أمام ذلك الجنس الأدبي‮ ‬غير الشائع،‮ ‬ولكنه‮ ‬ينطوي علي تلك القيمة الإبداعية النادرة والناصعة والتي تعطي شرعية كبيرة لانتماء تلك الكتابة إلي الفنون من باب واسع‮.‬
ورغم أن كل النصوص الشعرية والمسرحية التي كتبها بدر الديب،‮ ‬بدأ في كتابتها من منتصف الأربعينيات،‮ ‬إلا أنه لم‮ ‬ينشرها إلا في الثمانينيات،‮ ‬بعد أن حقق شهرته كناقد وكمترجم وكخبير دولي في تصنيفات وفهرسة الكتب،‮ ‬ونشر أول كتب له مؤلفة عام‮ ‬1982،‮ ‬أي بعدما تجاوز الخمسين من عمره بست سنوات،‮ ‬فنشرت له الهيئة المصرية العامة للكتاب‮ "‬حديث شخصي‮"‬،‮ ‬ذلك الكتاب الأول الذي‮ ‬ينطوي علي ثلاث قصص قصيرة هي‮ "‬رشدي حمامو،وترتيب الغرف،‮ ‬ومقابلة صحفية‮"‬،‮ ‬وكذلك رواية فريدة من نوعها،‮ ‬وهي رواية‮ "‬أوراق زمردة أيوب‮"‬،‮ ‬وكتب د شكري عياد تذييلا نقديا للكتاب جاء فيه‮ :"‬بدر الديب في‮ ‬غير حاجة إلي تقديم،‮ ‬الذين‮ ‬يعرفونه‮ ‬يعرفون وجها من الوجوه المشرقة في أمتنا العربية القليلة الحظ من كل خير،‮ ‬وإذا جهله الكثيرون فليس هذا ذنبه بل ذنب حياتنا الثقافية التي تسلمها المهرجون،‮ ‬فبدر الديب لم‮ ‬يكف عن الكتابة منذ أكثر من ثلاثين سنة،‮ ‬وإن لم‮ ‬ينشر من كتاباته إلا أقلها كمّا وشأنا،‮ ‬ومن صنع الله للثقافة العربية أنه وأمثاله لم‮ ‬يفقدوا رشدهم ولا إيمانهم،‮ ‬بل صمموا علي مواصلة السير في الطريق الذي اختاروه منذ مطلع شبابهم مع علمهم بصعوبته‮...".‬
وشكري عيّاد محق في بعض ماذهب،‮ ‬أي أن الحياة الثقافية كانت ومازالت تعاني من تلك الفوضي العارمة،‮ ‬ومن ذلك الاعوجاج الخلقي بكسر الخاء وضمها،‮ ‬لأنها ترفع من تصفّق له،‮ ‬وتهبط من لا تفهمه،‮ ‬أو من لا‮ ‬يلائم مصالحها وأذواقها المتنافرة،‮ ‬ولكن في حياتنا الثقافية،‮ ‬أصبحت ضرورة امتلاك أي كاتب لمواهب أخري‮ ‬غير موهبة الكتابة،‮ ‬هي السلاح الأمضي لمروره وشهرته ورواجه،‮ ‬تلك المواهب وهي إدارة شئون التسويق التي تفترض ضمنا،‮ ‬أن‮ ‬يريق الكاتب الموهوب ماء وجهه،‮ ‬ويذهب إلي ذلك الناقد المتغطرس حتي‮ ‬يكتب عنه،‮ ‬وهو ما لم‮ ‬يكن‮ ‬يمتلكه بدر الديب،‮ ‬كما كان شقيقه الكاتب الكبير علاء الديب‮.‬
لذلك كان بدر الديب‮ ‬غريبا في‮ ‬غابة المبدعين،‮ ‬رغم أن إبداعاته الشعرية والروائية‮ ‬بدأت تتواتر،‮ ‬وتعرف طريقها إلي القارئ والناقد علي حد سواء،‮ ‬فنشرت أعماله منفردة أولا،‮ ‬ثم نشر المجلس الأعلي للثقافة مجلدين كبيرين،‮ ‬الأول للشعر،‮ ‬وضم دواوين‮ "‬كتاب حرف الحاء،‮ ‬وتلال من‮ ‬غروب،‮ ‬والسين والطلسم،وأقسام وعزائم،‮ ‬والمستحيل والقيمة‮ " ‬عام‮ ‬2009،‮ ‬والمجلد الثاني للروايات،‮ ‬وضم‮ "‬إجازة تفرغ،وأوراق زمردة أيوب،‮ ‬وعادة حكاية حاسب كريم الدين‮"‬،‮ ‬ولكن هناك كتابات كثيرة جدا في النقد لم تأخذ حقها في الخروج بعد،‮ ‬بالإضافة إلي مسرحيتين كان قد كتبهما في الأربعينيات،‮ ‬ونشر إحداهما وهي‮ "‬الأصل والفراق‮" ‬في مجلة الآداب الصادرة في‮ ‬يناير‮ ‬1977.‬
وأعتقد أن كتابة بدر الديب لم تستقبل بالحفاوة اللائقة بها،‮ ‬رغم كتابة مجايليه إدوار الخراط ومحمود أمين العالم وشكري عياد،‮ ‬وأستثني احتفاء كريم عبد السلام المحدود،‮ ‬رغم عرامة الكتابة التي قدّم بها أعماله الشعرية،‮ ‬ولم تلتفت إليه الذائقة الأدبية المصرية والعربية،‮ ‬ولا أزعم بأن عدم الالتفات هذا‮ ‬يعود إلي تنكيل أو استبعاد لكتابات بدر الديب،‮ ‬ولكن المسئول الأول عن ذلك‮ ‬يتلخص في هؤلاء النقاد الذين لم‮ ‬يكرسوا مبدعا نوعيا كبيرا،‮ ‬ذلك المبدع الذي أتي متأخرا عن موعده،‮ ‬ولم‮ ‬يستطع أن‮ ‬يمارس ذلك الدور المصاحب للكتابة،‮ ‬وهو الدور الذي‮ ‬يقع علي عاتق المؤسسات الثقافية الخاصة والرسمية،‮ ‬ومن الأمانة أن أذكر أن موقع الكلمة التي كان‮ ‬يترأس تحريره الدكتور صبري حافظ أعدّ‮ ‬ملفا عن بدر الديب،‮ ‬وذلك بعد رحيله،‮ ‬ولكن ذلك الملف الإجرائي،‮ ‬لم‮ ‬يأخذ طريقه إلي القارئ حتي‮ ‬يتعرف علي ذلك المبدع الاستثنائي،‮ ‬والذي‮ ‬يحتاج إلي احتفاء نقدي واسع،‮ ‬وتقام حول إبداعاته مؤتمرات وندوات وحلقات نقاش واسعة‮.‬
وأعتقد أن كتاباته تحتاج إلي ذلك التأمل النقدي الواسع والعميق،‮ ‬ولا أستطيع أن أذهب مثلما ذهب شكري عياد فيما‮ ‬_في مجلة الهلال عام‮ ‬1990_،‮ ‬وقال بأن شخصيات‮ ‬بدر الديب تحمل قدرا كبيرا منه،‮ ‬وخصّ‮ ‬بالذكر رواية‮ "‬أوراق زمردة أيوب‮"‬،‮ ‬وفيها شخصية سيدة تتحدث عن أزمنة الناصرية والساداتية بسلبية واسعة،‮ ‬واسترسل عيّاد في دراسته تلك إلي أن الديب لم‮ ‬يكن خبيرا سياسيا،‮ ‬أو عميقا في فهم شئون السياسة،‮ ‬وهو الذي كان‮ ‬يحيا بعض أمجاده في كنف النظام الناصري،‮ ‬ولم‮ ‬يحتج ولم‮ ‬يعترض إلا بعد حين،‮ ‬وذلك الاحتجاج ورد علي لسان شخصيات تلك الرواية البديعة،‮ ‬وذلك التفسير أغضب بدر الديب فيما بعد،‮ ‬مما اضطره للرد علي‮ "‬صديقه‮" ‬شكري عياد في العدد التالي من المجلة‮.‬
ويذهب شكري عياد إلي ما ذهب،‮ ‬حيث إنهما‮ ‬_بدر وشكري_ تزاملا معا في الرياض،‮ ‬وكان سكنهما قريبا،‮ ‬مما فرض عليهما زمالة وصداقة،‮ ‬سمحت لشكري عيّاد معرفة الديبلا،‮ ‬والاطلاع علي بعض خصوصياته،‮ ‬تلك الخصوصيات التي أفشاها شكري عياد في مقاله بمجلة الهلال،‮ ‬وزعم‮ ‬_حسب بدر_ بأنه عرف بدرا جيدا،‮ ‬وقال عنه بأن بدرا‮ ‬يحب الملذات والكتب والابتعاد عن الحياة الصاخبة،‮ ‬وهذا ما جعل بدرا بعيدا عن الحياة العامة،‮ ‬إنه متأمل أكثر منه‮ ‬يشارك في الحياة العامة‮.‬
ومهما ذهب القارئ والباحث والناقد والمؤرخ في محاولة معرفة ذلك الاستبعاد لتلك العبقرية الفنية عن الحياة الثقافية العامة،‮ ‬فلن‮ ‬يستطيع إدراك ذلك التجاهل المفرط من قبل نقاد‮ ‬يعرفون ويدركون قيمة بدر الديب،‮ ‬ولكنهم‮ ‬_دوما_ مشغولون بالعادي والسائد،‮ ‬ويساهمون في تكريس ما لا‮ ‬يصحّ،‮ ‬واستبعاد مالا‮ ‬يستبعد،‮ ‬وهنا أوجّه لومي للنقاد وللمؤسسات التي لم تستطع بتكريس تلك القيمة العظيمة التي‮ ‬نفتقدها في حياتنا الثقافية والإبداعية‮.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.