التفاح ب18 جنيها.. أسعار الفاكهة والخضراوات في سوق العبور اليوم الأربعاء    شهداء وجرحى في قصف إسرائيلي على خيام النازحين في المواصي شمال رفح    بلينكن: نحاول تضييق الفجوات في محادثات وقف إطلاق النار بغزة    المحافظ والقيادات التنفيذية يؤدون العزاء فى سكرتير عام كفر الشيخ    مصرع مشجعتين للنادي الأهلي عقب مباراة الاتحاد في الإسكندرية    الإعلان عن وفاة أكثر من 300 مصري خلال الحج    حسن الخاتمة.. وفاة الحاجّ ال 12من الفيوم خلال أداء مناسك الحج    وزيرة البيئة: إكمال عملية الدفن الآمن للحوت النافق بعد اتخاذ كافة الإجراءات المطلوبة    الأعلى للآثار يكشف عدد زائري المواقع الأثرية والمتاحف خلال العيد    جوميز يستقر على بديل «زيزو» في مباراة الزمالك وفاركو المقبلة    انفجارات ضخمة في العاصمة التشادية بعد حريق مستودع ذخيرة    ترامب: بايدن جعل أمريكا أضحوكة العالم    انفجار مستودع ذخيرة يثير الرعب في تشاد.. قتيل ومصابين بكارثة نجاميا (فيديو)    أسعار النفط تصل إلى أعلى مستوياتها في أكثر من شهر    انطلاق احتفالات دير المحرق.. بحضور 10 آلاف زائر يوميا    محمد رمضان يعلن غيابه عن دراما رمضان 2025    كريمة الحفناوي: الإخوان يستخدمون أسلوب الشائعات لمحاربة معارضيهم    هل الأموات يسمعون كلام الأحياء؟ دار الإفتاء المصرية تكشف مفاجأة    سورتان للمساعدة على التركيز والمذاكرة لطلاب الثانوية العامة    أجزاء في الخروف تسبب أضرارا صحية خطيرة للإنسان.. احذر الإفراط في تناولها    حزب الله : استهداف مقر قيادة كتيبة إسرائيلية بالصواريخ    «المركزى» يعلن ارتفاع الودائع ل10.6 تريليون جنيه    بعد 17 عامًا من طرحه.. عمرو عبدالعزيز يكشف عن مفاجأت من كواليس «مرجان أحمد مرجان»    عشرات الشهداء والجرحى في قصف إسرائيلي على خيام النازحين في المواصي    ريال مدريد ينهي الجدل بشأن انتقال مدافعه لميلان    موعد مبارة ألمانيا والمجر ضمن يورو 2024.. التشكيل المتوقع    القبض على السائق المتسبب في مصرع مشجعتي الأهلي أمام استاد برج العرب    تراجع سعر الذهب اليوم في السعودية وعيار 21 الآن الأربعاء 19 يونيو 2024    «ثورة أخيرة».. مدينة السلام (20)    مؤسسة علمية!    مستشار الشيبي القانوني: قرار كاس هو إيقاف لتنفيذ العقوبة الصادرة بحقه    ملف يلا كورة.. انتصار الأهلي.. جدول مباريات الليجا وبريميرليج.. وفوز تركيا والبرتغال في يورو 2024    الحكومة الجديدة والتزاماتها الدستورية    احتفالية العيد ال 11 لتأسيس ايبارشية هولندا    عودة محمد الشيبي.. بيراميدز يحشد القوة الضاربة لمواجهة بلدية المحلة    مصرع مسن واصابة اثنين في انقلاب سيارتين بالغربية    إجراء عاجل من السفارة المصرية بالسعودية للبحث عن الحجاج «المفقودين» وتأمين رحلات العودة (فيديو)    في ثالث ايام عيد الاضحى.. مصرع أب غرقًا في نهر النيل لينقذ ابنته    لبيك يا رب الحجيج .. شعر: أحمد بيضون    مصر للطيران تبدأ اليوم جسرها الجوي لعودة الحجاج إلى أرض الوطن    «بايدن» يستنجد ب«المستنجد»!    مكتب الصحة بسويسرا: نهاية إتاحة لقاح كورونا مجانا بدءا من يوليو    بعد آخر ارتفاع.. سعر الدولار أمام الجنيه المصري اليوم الأربعاء 19 يونيو 2024    أشرف غريب: عادل إمام طول الوقت وسط الناس    غزارة تهديفية بالجولة الأولى تنذر ببطولة قياسية في يورو 2024    بعد نجاح تجارب زراعته.. تعرف على موطن زراعة "الكاسافا" بديل القمح وأبرز مميزاته    المراجعة النهائية لمادة اللغة العربية لطلاب الصف الثالث الثانوي.. نحو pdf    ماذا حققت محطة تحيا مصر متعددة الأغراض بعد عام من افتتاحها؟    ليلى علوي تهنىء أبطال فيلم "ولاد رزق "    حظك اليوم.. توقعات برج العذراء 19 يونيو 2024    علامتان محتملتان للإصابة بالسرطان في يديك لا تتجاهلهما أبدًا (صور)    أسقف نجع حمادي يقدم التهنئة للقيادات التنفيذية بمناسبة عيد الأضحى    بطريرك السريان الكاثوليك يزور بازيليك Notre-Dame de la Garde بمرسيليا    بعد وفاة العشرات خلال الحج بسببها.. كيف يمكن أن تكون ضربة الشمس قاتلة؟    بدائل الثانوية الأزهرية| معهد تمريض مستشفى باب الشعرية - الشروط وتفاصيل التقديم    الصحة: ترشيح 8 آلاف و481 عضو مهن طبية للدراسات العليا بالجامعات    هل يؤاخذ الإنسان على الأفكار والهواجس السلبية التي تخطر بباله؟    دار الإفتاء: ترك مخلفات الذبح في الشوارع حرام شرعًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بهاء طاهر‮..‬ الكاتب والفنان والضمير‮ ‬
نشر في أخبار الحوادث يوم 06 - 08 - 2016

عندما صدرت رواية‮ "‬الحب في المنفي‮" ‬للكاتب والمبدع الكبير بهاء طاهر في‮ ‬يوليو عام‮ ‬1995‮ ‬عن سلسلة روايات الهلال،‮ ‬أحدثت دويّا وجدلا كبيرين،‮ ‬وكتب عنها الدكتور علي الراعي مقالا في جريدة الأهرام عنوانه‮ "‬رواية كاملة الأوصاف‮"‬،‮ ‬وكتب الدكتور شكري عياد مقالا في مجلة الهلال عنوانه‮ :"‬نموذج جديد للرواية الواقعية‮"‬،‮ ‬وكتب الدكتور جابر عصفور في جريدة الحياة مقالا عنوانه‮ "‬رواية كتبها مؤلفها باقتدار كبير‮"‬،‮ ‬أما الناقد فاروق عبد القادر فكتب في روز اليوسف مقالا‮ ‬يقول فيه‮ :"‬كأني بهذا المبدع الكبير‮ ‬يريد أن‮ ‬يحفر في وجدان قارئه ما حدث‮..‬حتي لا‮ ‬ينساه أحد‮"‬،‮ ‬وكتب علاء الديب في مجلة صباح الخير‮ ‬يقول‮ :"‬بهاء طاهر كاتب واضح مسيطر علي مادته وأدواته،‮ ‬جديد في رؤيته،‮ ‬ومتفرد في نوع أدائه،‮ ‬الصدق هو النبرة الأولي التي تصادفك في سطوره،‮ ‬والتوازن الموضوعي هو العلامة الواضحة التي‮ ‬يقيم عليها بناء نصوصه‮"‬،‮ ‬هذا‮ ‬غيض من فيض ظل‮ ‬يمطر الحياة الثقافية والأدبية طوال العام كله،‮ ‬وكان بهاء طاهر المبدع الكبير،‮ ‬قد أنهي رحلة عمله‮ ‬الاضطرارية في المنفي بالتقاعد،‮ ‬وذلك في شهر مايو الذي سبق صدور الرواية بشهرين‮.‬
صدرت الرواية،‮ ‬وجاء علي‮ ‬غلافها كلمة لمكرم محمد أحمد‮ -‬رئيس مجلس إدارة دار الهلال آنذاك‮- ‬يقول في مطلعها‮ :"‬بهاء طاهر،‮ ‬روائي مصري لا تعنيه الشهرة كثيرا ولا‮ ‬يعنيه الوجود المستمر علي الساحة الأدبية بأعمال متتابعة هدفها إثبات الوجود أو ملاحقة‮ (‬الموضات‮) ‬الأدبية الرائجة،‮ ‬لا‮ ‬يكتب بهاء طاهر إلا إذا شعر أن لديه شيئا جديدا‮ ‬يريد أن‮ ‬يقوله،‮ ‬وفي رائعته‮ -‬الحب في المنفي‮- ‬يقول لنا بهاء طاهر أشياء كثيرة وجديدة،‮ ‬تتدفق صدقا وألما وعذوبة وهي ترسم أزمة جيل تغيرت من حوله الظروف والقيم والأفكار وطحنته التجارب في عالم‮ ‬غريب‮ ‬يعيش فيه الصدق مخنوقا مطاردا،‮ ‬لكنه‮ ‬ينبض‮ -‬رغم عمق المأساة‮- ‬بالحياة،‮ ‬يفعل المستحيل كي لا نستسلم للضياع‮...".‬
ورغم أن كاتب كلمة الغلاف ليس ناقدا أدبيا ولا مبدعا روائيا،‮ ‬ولكنه كاتب صحفي متمرس علي قراءة الأدب،‮ ‬وجاء من‮ ‬غرف الأحزاب الشيوعية القديمة المثقفة،‮ ‬وخرج منها في منتصف الستينيات عند أول قارعة حب طرأت في حياته،‮ ‬والتحق بجريدة الأهرام محررا بها،‮ ‬أقول رغم أن مكرم محمد أحمد بعيد عن النقد والإبداع الروائي،‮ ‬إلا أن كلماته استطاعت أن تكشف بعضا من خصائص بهاء طاهر الأصيلة والعميقة،‮ ‬تلك الخصائص التي كانت تضبط إيقاع إنتاج إبداع بهاء طاهر النقدي والفكري والروائي والإنساني،‮ ‬منذ أن تخرّج من كلية الآداب‮ -‬قسم التاريخ‮- ‬جامعة القاهرة عام‮ ‬1956،‮ ‬ثم حصل علي دبلوم دراسات عليا من الجامعة نفسها في التاريخ الحديث،‮ ‬ثم التحق بالإذاعة المصرية،‮ ‬وبالبرنامج الثاني‮ -‬البرنامج الثقافي الآن‮- ‬ليعمل مخرجا للدراما ومذيعا قديرا،‮ ‬وقادرا علي جذب مستمعيه إليه بيسر،‮ ‬وذلك‮ ‬يعود إلي ثقافة بهاء طاهر الموسوعية منذ بداياته،‮ ‬تلك الثقافة التي ستلعب دورا كبيرا في إبداعه العظيم الذي أنشأه فيما بعد،‮ ‬وتصدر كافة الإبداعات المجايلة له،‮ ‬وذلك منذ صدور مجموعته الأولي‮ "‬الخطوبة‮" ‬عام‮ ‬1972.‬
استغرقت بهاء طاهر مهنته الإذاعية بجدارة،‮ ‬واستطاع أن‮ ‬يقدّم فيها تجربة مميزة للغاية،‮ ‬ومازلنا حتي الآن نستعيد بعضا منها علي‮ "‬اليوتيوب‮"‬،‮ ‬مسرحيات عالمية كان‮ ‬يتقن إخراجها،‮ ‬وحوارات تنم عن إدراك كبير بالشخصية المتحاور معها،‮ ‬وأريد أن ألفت انتباه القارئ الكريم لحوار ممتع للغاية مع الدكتور عبد القادر القط،‮ ‬أستعيده طوال الوقت للتزوّد من خبرة وإتقان بهاء لمهنته التي استغرقته طويلا،‮ ‬وفي تلك الفترة الأولي ترجم بهاء عدة مسرحيات قصيرة،‮ ‬ونشرها في الدوريات،‮ ‬منها مسرحية‮ "‬قبل الإفطار‮" ‬ليوجين أونيل،‮ ‬ونشرها في مجلة‮ "‬المجلة‮" ‬في عدد مايو‮ ‬1959،‮ ‬وكان بهاء في الرابعة والعشرين من عمره آنذاك،‮ ‬وكانت مجلة المجلة تحتفي بإنتاج صفوة المجتمع الفكري والثقافي آنذاك مثل د‮. ‬علي الراعي وفتحي رضوان وبدر الدين أبوغازي ود محمد مندور وغيرهم،‮ ‬وأعتقد أن تلك المسرحية المترجمة هي أول ما نشر لبهاء علي وجه الحصر،‮ ‬إلا إذا أشار إلينا باحث بما‮ ‬ينفي ذلك،‮ ‬وقدّم بها تلك المسرحية بكلمة قصيرة قال فيها‮ :"‬يوجين جلادستون أونيل كاتب مسرحي أمريكي‮ ...‬قضي عاما في جامعة برنستون،‮ ‬ثم قام برحلة بحرية،‮ ‬واشتغل بعد ذلك بالتمثيل ثم بالصحافة،‮ ‬أصيب بالسل وقضي في مستشفي للأمراض الصدرية فترة من الزمن‮ ...‬تتميز مسرحياته بالطابع الذي‮ ‬يميّز المسرحيات الكلاسيكية العريقة وهو طابع الغموض‮..".‬
هذه كانت البادرة الأولي التي أطلّ‮ ‬بها بهاء علي القرّاء،‮ ‬ثم ألحقها ببضع مواد تحريرية ومترجمة أخري،‮ ‬حتي إن نشر مسرحيته الوحيدة‮ "‬كان‮" ‬في العدد التاسع من مجلة الآداب اللبنانية والطليعية عام‮ ‬1961‮ ‬،‮ ‬تلك المسرحية التي سيجدها القارئ منشورة هنا علي صفحات‮ "‬أخبار الأدب‮"‬،‮ ‬وهي لم تنشر في أي كتاب لبهاء،‮ ‬ولم تنشر مرة أخري في أي دورية ثقافية،‮ ‬رغم أنها تشير إلي تأثر بهاء بالثقافة الوجودية ذات البعد الاجتماعي الواضح،‮ ‬وربما تكون أفكار تلك المسرحية ترددت في بعض قصص بهاء فيما بعد،‮ ‬خاصة في قصة‮ "‬فنجان قهوة‮" ‬المنشورة في مجموعته القصصية‮ "‬بالأمس حلمت بك‮"‬،‮ ‬ويبدو ذلك التشابه بين القصتين في موت الأب في القصتين،‮ ‬ثم وجود عنصر محرّض علي زواج أفراد الأسرة،‮ ‬ففي مسرحية‮ "‬كان‮" ‬تظهر الخالة وهي تحرّض الأم علي الزواج من أحد الفلاحين الأثرياء،‮ ‬وفي قصة‮ "‬فنجان قهوة‮" ‬يظهر العم الذي‮ ‬يزور بيت أخيه وهو سكران،‮ ‬ويعرض علي الأم أن تقبل بتزويج ابنتها لأحد زملاء الأب في العمل،‮ ‬ودون الخوض في أحداث النصين،‮ ‬هناك ثمة تشابك عميق بينهما،‮ ‬ذلك التشابك الذي‮ ‬يشي بأن بهاء طاهر كان وظل ومازال مشغولا بقضية العدل الاجتماعي علي المستوي الفكري،‮ ‬وربما كانت تلك القضية هي التي تشغله دوما في نصوصه،‮ ‬مع عدم الإخلال بالارتقاء الفني،‮ ‬ذلك الارتقاء الذي‮ ‬يشكّل عمود أي نص قصصي أو روائي أبدعه بهاء طاهر،‮ ‬ولكن تظل الفكرة الاجتماعية قائمة طوال الوقت في كل نصوصه،‮ ‬وكأنه‮ ‬يؤدي رسالة مهمة،‮ ‬وهو لا‮ ‬ينفي ذلك علي وجه الإطلاق،‮ ‬بل‮ ‬يؤكده في كل ما‮ ‬يكتبه من مقالات نقدية،‮ ‬وكذلك‮ ‬يتبدي في كل نصوصه،‮ ‬فهو‮ ‬يكتب في تعليق نقدي علي العدد الخاص بفن القصة القصيرة،‮ ‬والتي أصدرته مجلة‮ "‬إبداع‮" ‬عام‮ ‬1984،‮ ‬وجاء مقال بهاء في العدد الصادر في أول نوفمبر‮ ‬1984،‮ ‬وكان عنوانه‮ :"‬خواطر مغترب عن عدد القصة القصيرة‮"‬،‮ ‬وجاء في المقال‮ :"..‬أعتذر لأنني لم أتخلص بعد من بعض العادات السيئة والقديمة،‮ ‬فمازلت أري أن للكتابة رسالة ودورا،‮ ‬ولم أستطع أن أتحضّر لدرجة تذوّق الأدب بعيدا عن هذه الرسالة‮ -‬علي اعتبار أنه‮ ‬يعني ما‮ ‬يعنيه،‮ ‬ولاشيء خارجه إلخ‮-.."‬،‮ ‬ويتساءل في المقال‮ :"‬وما ذنبي في حقيقة الأمر إذا كنت أري هذه الرسالة ساطعة كالشمس حتي في أكثر الأعمال تبتلا لربّة الجمال ولآلهة التجرد عن كل ما هو دنيوي؟‮"‬،‮ ‬ويستطرد قائلا‮ :"‬سيغفر لي الجماليون هذا الضعف‮"‬،‮ ‬وجاءت هذه الكلمات التي تشبه الاعترافات في سياق نقده لإحدي قصص الكاتب الكبير محمد المنسي قنديل،‮ ‬ولأن بهاء‮ ‬يتمتع بروح عروبي عميق،‮ ‬وبحسّ‮ ‬تكونت أركانه في الفترة الناصرية،‮ ‬فهو‮ ‬يري أن العروبة كانت ومازالت فكرة قابلة لإصلاح الحاضر والمستقبل معا،‮ ‬ولأن المنسي قنديل كان‮ ‬يشكك في ذلك الأمر في قصته‮ "‬الفتاة ذات الوجه الصبوح‮"‬،‮ ‬وضرب متون تلك الفكرة عرض الحائط،‮ ‬وذلك لما‮ ‬يتعرض له المصريون في بلاد الخليج،‮ ‬لذلك كانت رؤية بهاء طاهر تختلف مع ذلك المنحي الذي ظهر في قصة المنسي قنديل،‮ ‬ومع كافة السرديات التي تنحو هذا النحو‮.‬
وبعيدا عن المضمون الفكري الذي تنطلق منه كتابات بهاء طاهر عموما،‮ ‬فهو كان متأثرا جدا بالمسرح،‮ ‬وعنصر الحوار عند بهاء طاهر،‮ ‬هو العمود الفقري في كل إبداعاته،‮ ‬ولذلك وجدنا أن فكرة مسرحية‮ "‬كان‮"‬،‮ ‬من الممكن أن تنتقل إلي‮ "‬قصة‮" ‬بيسر وتمكن،‮ ‬ولكن هذا لا‮ ‬يدعنا نقول مثلما ذهب الكاتب الراحل الكبير ادوار الخرّاط ليصف قصص بهاء بأنها قصص مسرحية،‮ ‬فهو‮ ‬يقول‮ -‬بعد استطراد‮- ‬في مقدمة الطبعة الثانية لمجموعة‮ "‬الخطوبة‮" ‬القصصية التي صدرت عن دار شهدي عام‮ ‬1984‮:"..‬وبهذه القراءة‮ ‬يصبح نص بهاء طاهر كله حوارا متصلا،‮ ‬متعدد المستويات‮..‬وبهذه القراءة‮ ‬يصبح من الضروري أن نسلّم بأن قصص بهاء طاهر هي في النهاية قصص مسرحية‮ .."‬،‮ ‬ويشدّد الخراط منبّها‮ :"‬أقول قصصا مسرحية ولا أقول مسرحيات‮"!!.‬
وبالطبع فنحن لا نتفق مع هذا المنحي الذي ذهب إليه الخرّاط،‮ ‬مع احترام رؤيته وقراءته الخاصة لبهاء طاهر وليحيي الطاهر عبدالله ولغالب هلسا ولسليمان فيّاض،‮ ‬ولكنّ‮ ‬الخراط‮ ‬
كان‮ ‬يحاول بقدر ما‮ ‬يستطيع،‮ ‬وبكل ما‮ ‬يملك من ثقافة موسوعية متعددة أن‮ ‬يعمل علي تأويل النصوص تأويلات خاصة وضيّقة،‮ ‬وذلك لخدمة الرؤية الجمالية التي كان ادوار‮ ‬يؤسس لها،‮ ‬وفيما‮ ‬يخصّ‮ ‬نصوص بهاء طاهر،‮ ‬فهي كانت ذمجرد‮- ‬متأثرة بالمسرح إلي حد بعيد،‮ ‬وهي تتمتع بحرفية الحوارات الذكية والمكثفة،‮ ‬وقصة‮ "‬بالأمس حلمت بك‮" ‬تعتبر-من وجهة نظري المتواضعة‮- ‬أعلي ما وصلت إليه خبرة نصوص بهاء في براعة الحوار،‮ ‬لأن الحوار هنا مكثف،‮ ‬وليس مفرودا مثلما‮ ‬يأتي في المسرح،‮ ‬فحوار المسرح‮ ‬يحتاج إلي مساحات إيضاحية واسعة،‮ ‬وشارحة،‮ ‬ومستفيضة،‮ ‬وكذلك الحوار في قصة‮ "‬بالأمس حلمت بك‮" ‬يدور بين أطراف عديدة،‮ ‬وبين أطراف مختلفين،‮ ‬ومن المستحيل أن‮ ‬يصلح ذلك الحوار المكثف والمقتضب والموحي أن‮ ‬يدور علي خشبة مسرح،‮ ‬كذلك الحوارات التي كانت تدور بين شخصية‮ "‬ضحي‮" ‬في رواية‮ "‬قالت ضحي‮"‬،‮ ‬وبين بطل الرواية المحبط والمهزوم والمكافح في وقت واحد،‮ ‬لا‮ ‬يمكن أن تدار علي خشبة مسرح،‮ ‬ويبدو أن انشغالات بهاء طاهر بالمسرح ترجمة وإخراجا ونقدا،‮ ‬أعطي بعض الإيحاءات بتلك الرؤية التي قال بها أستاذنا ادوار الخراط‮.‬
وهذا‮ ‬يجعلنا نعود مرة أخري إلي البدايات القصصية الأولي لبهاء طاهر،‮ ‬إذ نشر أول قصة له‮ -‬حسب‮ ‬معرفتي الخاصة‮- ‬في مارس‮ ‬1964،‮ ‬وذلك بمجلة‮ "‬الكاتب‮" ‬المصرية،‮ ‬وكان عنوان القصة‮ "‬المظاهرة‮"‬،‮ ‬رغم أن التاريخ الذي زيلّت به في الطبعة المذكورة سابقا هو‮ ‬1966،‮ ‬وهذا‮ ‬غير الحقيقة،‮ ‬المهم كتب‮ ‬يوسف إدريس مقدمة رصينة ومحبة بشكل كبير،‮ ‬كتب إدريس قائلا‮ :"‬هذه قصة جديدة لقصاص جديد،‮ ‬وإذا كان الناس قد عرفوا بهاء طاهر مخرجا دقيقا ممتازا في البرنامج الثاني للإذاعة ومسرحياته،‮ ‬فبهاء طاهر هنا إنسان مختلف،‮ ‬استطاع أن‮ ‬يدلف إلي قصر القصة المسحور،‮ ‬وأن‮ ‬يعثر في سراديبه المظلمة علي الخيط الأساسي لصناعة القصة،‮ ‬وهي مسألة مهمة وخطيرة،‮ ‬فالإنسان لا‮ ‬يعثر علي الخيط الأساسي لقصته هكذا بسهولة ومن أول ضربة أو قصة،‮ ‬إن ما أعجبني في هذا العمل أنه بهائي طاهري إلي درجة كبيرة،‮ ‬وإذا استطاع الإنسان أن‮ ‬يكون نفسه الحقيقية تماما في أي عمل‮ ‬يزاوله فإنه بهذه الاستطاعة‮ ‬يكون قد وصل إلي مرتبة الفن،‮ ‬وأصبح كل ما‮ ‬يلمسه ويكتبه‮ -‬كالأسطورة الإغريقية المشهورة‮- ‬ذهبا فنيا‮ .." ‬،‮ ‬هكذا كتب‮ ‬يوسف إدريس عن أولي خطوات بهاء طاهر،‮ ‬وأعتقد أن أهم ما قاله بأن قصة بهاء تتميز بأنها بهائية طاهرية،‮ ‬وأن بهاء قادر علي الإمساك بخصوصيته،‮ ‬دون التماهي مع آخرين،‮ ‬وهذه هي عبقرية بهاء طاهر في كل ما كتب من نصوص‮.‬
ورغم أن بهاء طاهر لم‮ ‬يتخلّ‮ ‬عن تواصله مع المسرح نقدا وإخراجا،‮ ‬إلا أنه ظلّ‮ ‬يعمل علي تطوير كتابته للقصة القصيرة،‮ ‬حتي أصبح واحدا من ظاهرة ما أطلق عليه‮ "‬جيل الستينيات‮ "‬،‮ ‬أو جيل الشباب في ذلك الوقت،‮ ‬ولا‮ ‬يمكن رؤية ذلك الجيل دون أن‮ ‬يكون بهاء واحدا من أبرزهم،‮ ‬وذلك قبل أن‮ ‬ينشر مجموعته الأولي عام‮ ‬1972،‮ ‬وكانت قصصه المنشورة في الصحف والمجلات تلقي اهتمام النقاد والمتابعين المرموقين في ذلك الوقت،‮ ‬ووصل هذا الاهتمام ذروته في مجلة‮ "‬جاليري‮ ‬68‮" ‬الطليعية،‮ ‬وكانت المجلة قد أعدّت ملفا واسعا ومهمّا عن القصة القصيرة،‮ ‬نشر فيه إبراهيم أصلان وإبراهيم عبد العاطي وإبراهيم منصور وأحمد هاشم الشريف وادوار الخراط وجمال الغيطاني وجميل عطية إبراهيم وخليل كلفت وسليمان فياض ومحمد البساطي ومحمد ابراهيم مبروك،‮ ‬ونشرت لبهاء قصته‮ "‬الخطوبة‮"‬،‮ ‬وذلك في العدد الصادر في ابريل‮ ‬1969،‮ ‬وكتب الناقدان‮ ‬غالب هلسا وإبراهيم فتحي تعقيبين نقديين علي الملف،‮ ‬وكتب‮ ‬غالب تعليقا مطولا عن قصة الخطوبة،‮ ‬ووصف جوّ‮ ‬القصة بالكابوسي‮ "..‬إن هذه القصة تحتوي علي جميع سمات الاغتراب في الأدب المصري الحديث‮ ...‬والقصة تحمل أعنف وأقسي احتجاج علي وضع انساني‮ ‬يحدد دور الإنسان كذرة تائهة في كون لا متناه‮ ..." ‬،‮ ‬بينما كتب خليل كلفت علي القصة نفسها‮ :"..‬إنه اغتراب أفراد متهمين بلا سبب في عالم‮ ‬غريب،‮ ‬إنها تذكرنا بجوزيف ذك‮- ‬في قضية كافكا‮.."‬،‮ ‬أما صبري حافظ فقد كتب في عدد جاليري الصادر في أكتوبر‮ ‬1969‮ ‬يقول‮ :"..‬ومن أبرز هذه الأعمال في اعتقادي قصة‮ ‬ الخطوبة‮- ‬لبهاء طاهر،‮ ‬والتي نجد فيها بناء فنيا معجزا،‮ ‬شديد البراعة والعمق لموضوع مليء بالشاعرية والتركيز،‮ ‬موضوع‮ ‬يبدو للوهلة الأولي شديد البساطة ولكنه ما‮ ‬يلبث أن‮ ‬يتكشف بليونة ويسر عن مغامرة مرعبة في الأعماق البشرية‮ .."‬،‮ ‬وكتب في العدد ذاته شفيق مقار مقالا طويلا عن القصة نفسها،‮ ‬وأشاد بها أيما شهادة،‮ ‬أما بعد صدور المجموعة،‮ ‬فتطاير الاهتمام بشكل واسع في الصحف والمجلات عبر تغطيات خبرية ونقدية لافتة‮.‬
كل هذا وبهاء طاهر لم‮ ‬يشعر أبدا بذلك‮ ‬الغرور الطاووسي الذي‮ ‬ينتاب كثيرين،‮ ‬ولكنه كان مؤمنا جدا بقضية جيله،‮ ‬وعارفا بأن ذلك الجيل قادر علي تقديم ما لم تقدمه الأجيال السابقة،‮ ‬ففي العدد الذي أصدرته مجلة‮ "‬الهلال‮" ‬عن القصة القصيرة،‮ ‬والصادر في أغسطس عام‮ ‬1970،‮ ‬كتب بهاء شهادة مدهشة،‮ ‬واعتبر أنه ليس من جيل الشباب تماما‮ "‬فالخامسة والثلاثون ليست بالضبط شرخ الشباب ولكنها بالأحري صدعه وبدء وداعه‮ .."‬،‮ ‬وهذا‮ ‬يؤكد علي أن بهاء طاهر تكونّت موهبته علي مدي سنوات بعيدة،‮ ‬واستطاع أن‮ ‬يبدأ كتاباته وهو في نضوج شبه مكتمل،‮ ‬ولكنه كان‮ ‬ينتصر لجيله بعمق‮ ..‬ويدافع عن قضيته بصدق كامل‮ .."‬ففي الصراع الدائر الآن بين الشباب والكبار فإنني أقف بكل وضوح مع الشباب،‮ ‬وبقدر ما أعلم فليست هناك خصومة أدبية حول قضية أو قضايا محددة،‮ ‬وإذا استثنينا موقف الإنسان والفنان العظيم نجيب محفوظ الذي أحب الشباب وأحبوه فقد بدأ الأمر بموقف الرفض والتعالي وصل إلي حد البغض الصريح،‮ ‬ووصف أدب الشباب بأنه فتنة‮- .."..‬وراح بهاء في ذلك المقال‮- ‬الشهادة،‮ ‬يردّ‮ ‬علي كل من‮ ‬يسفهّون كتابة الشباب علي المستوي الفكري والجمالي‮.‬
وبعد صدور مجموعته‮ "‬الخطوبة‮"‬،‮ ‬أصبح بهاء أحد المتون الكبيرة في شجرة الثقافة المصرية والعربية،‮ ‬وأصدر عددا من المجموعات القصصية المهمة والاستثنائية في تاريخ القصّ‮ ‬العربي مثل‮ "‬بالأمس حلمت بك‮" ‬،و‮ "‬أنا الملك جئت‮" ‬،‮ ‬ثم جاءت روايته العبقرية‮ "‬قالت ضحي‮"‬،‮ ‬والتي اعتبرها كثيرون بأنها لم تكن نقلة نوعية في تاريخ الكتابة عند بهاء طاهر،‮ ‬ولكنها صارت علامة كبري في تاريخ الرواية المصرية والعربية علي السواء،‮ ‬وتوالت إبداعات بهاء طاهر تتوالي كما‮ ‬يعرف المتابعون والقرّاء والباحثون،‮ ‬وتمدنا كتابات بهاء طاهر‮ -‬رغم فضحها الفريد لقبح الواقع الإقليمي والكوني‮- ‬بالتفاؤل والأمل في تلك الحياة المحيرة‮.‬
لم‮ ‬يكتف بهاء طاهر بالكتابة الإبداعية فقط،‮ ‬بل كان‮ ‬يشارك طوال الوقت في متابع أعمال الروائيين والقاصين الشباب،‮ ‬ويذهب لمناقشاتهم في المنتديات الثقافية،‮ ‬مؤمنا في ذلك بأن اهتمامه الشخصي بالكتابة الجيدة من وجهة نظره،‮ ‬يدفع الحركة الأدبية للأمام،‮ ‬من هنا جاء كتابه‮ "‬في مديح الرواية‮" ‬والذي كتب فيه عن روايات هليوبلس لمي التلمساني،‮ ‬وعمارة‮ ‬يعقوبيان لعلاء الأسواني‮ -‬رغم تضارب الآراء في الرواية،‮ ‬ولكن بهاء طاهر‮ ‬يكتب بحسّه الخاص الذي أشار إليه‮ ‬يوسف إدريس في البداية،‮ ‬إنه‮ ‬يكتب كتابة بهائية طاهرية،‮ ‬ولا‮ ‬يريد الانجذاب إلي أي تشويشات خارجية،‮ ‬حتي في العمل السياسي فهو دائما كان مشاركا بقوة،‮ ‬وكنت أشاهده‮ ‬في الأحداث الأولي لثورة‮ ‬25‮ ‬يناير وهو‮ ‬يتوكأ علي عصاه معنا في ميدان التحرير،‮ ‬مستنشقا روائح الغاز الكريهة التي كانت تهاجمنا من كل صوب،‮ ‬وهو‮ ‬ينظر إلي مصر وهي تتفتح وتنبض بقوة،‮ ‬وكان معنا في كذلك في اعتصام وزارة الثقافة،‮ ‬بل كان في الدفعة الأولي التي اقتحمت مبني الوزارة في‮ ‬4‮ ‬يونيو‮ ‬2013‮ ‬،‮ ‬ضد حكم الإخوان،‮ ‬والتي بدأت بالاحتجاج علي قرارات وزير الثقافة الفاشي الذي راح‮ ‬يطيح بجنون بكل ما تطول‮ ‬يداه‮ ...‬
بهاء طاهر لا تكفيه تلك الكلمات السريعة،‮ ‬ولا تفيه بعضا مما قدمه لنا وللحياة الثقافية والأدبية المصرية‮ ..‬ألف مليون سلامة‮ ‬ياعم بها،‮ ‬ونحن ننتظر عودتك‮ -‬من جينيف‮- ‬سالما دائما أيها الكاتب والفنان والضمير العظيم‮.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.