حاولت في العدد الماضي أن ألمس بعض ما تثيره الرواية الفذة والمجنونة "المعلم ومرجريتا "للكاتب الروسي ميخائيل بولجاكوف، وذكرت أن تلك الرواية التي مُنعت من النشر أكثر من عقدين، لو كانت قد نٌشرت في زمن كتابتها، لكان للأدب الروسي بل والعالمي شأن آخر. من جانب آخر لم يكتب بولجاكوف هذه الرواية وحدها، بل كتب أيضا عدة روايات ومجموعات قصصية ومسرحيات وإعداد لمسرحيات، كما اشتغل بالمسرح، لكن المعلم ومرجريتا هي آخر أعماله التي كتبها ثم أحرقها، وأعاد كتابتها مرة أخري وهو يعلم باستحالة نشرها .تأثر بشدة بعائلته، فوالده مؤرخ جاد للنظريات الدينية وأستاذ في الأكاديمية الدينية، أما جده لأمه فكان أحد الكهنة المرموقين في السلك البطريركي، وهو ما يمكن أن يلمسه القارئ بوضوح في الأجزاء التي كتبها في روايته عن محاكمة المسيح وصلبه وقتل يهوذا. لكن حظه العاثر جعله يتخرج في كلية الطب عام 1916، أي قبل الثورة بعام واحد، وظل يعمل طبيبا في المدينة التي ولد بها كييف حتي عام 1920 عندما انتقل إلي موسكو بسبب عشقه اللامحدود للمسرح، حيث أخفي شهادته كخريج لكلية الطب، وعمل ممثلا ومقدم برامج وحفلات ومحاضرا ومؤلفا للقواميس وكاتبا مسرحيا. كانت تلك الفترة هي أكثر الفترات قلقا وفوضي واحتداما بين من يدعون لكتابة أدب يدافع عن الطبقة العاملة، وبين نفر قليل من الكتاب يرون أن الأمر ليس بهذه البساطة والسطحية، وهي الفترة التي شهدت صعود وسيطرة أنصاف المواهب ومحتلي المناصب الرسمية الذين يتحكمون في كل شئ، وينتصرون بطبيعة الحال لمن يشبهونهم .وحسبما ورد في الدراسة التي قدّم بها المترجم عبد الله حبة مجلد الأعمال المختارة لبولجاكوف فإن ستالين كان من بين من أثرّوا بشدة علي الكاتب، وعلي الرغم من أنه كان يشجع احتدام الصراع السياسي في الأدب، إلا أنه وقف إلي جانب مايكتبه بولجاكوف، فقد كان حريصا علي سبيل المثال علي مشاهدة عروض مسرحيات الكاتب عدة مرات. وعندما بلغ الاضطهاد من جانب أنصاف الموهوبين المسيطرين ذروته، ومنعوا الكثير من مسرحياته كتب بولجاكوف عددا من الرسائل الموجهة للحكومة السوفيتية ولستالين شخصيا، يطلب فيها السماح له ولزوجته بالسفر للخارج، وذكر فيها أن جميع أعماله مُنعت، ومع ذلك لن ينفذ النصيحة التي تلقاها بضرورة تخليه عن افكاره التي أوردها في أعماله، وكتابة رسالة زائفة تصوّره كبهلوان سياسي ساذج، وأضاف "إنني حتي لم أحاول كتابة مسرحية شيوعية لأنني أعرف أنني لن أفلح في ذلك ..إنني أناشدكم باسم الروح الإنسانية للسلطة السوفيتية إطلاق حريتي، أنا الكاتب الذي لا يستطيع أن يكون نافعا في وطنه ". وفي إبريل 1930 تلقي اتصالا تليفونيا من ستالين .كانت مكالمة ودية انتهت بسؤال محدد من ستالين: أين تريد أن تعمل؟ في مسرح موسكو الفني؟ وكانت تلك هي رغبة بولجاكوف بالفعل، وطلب منه ستالين أن يقدم طلبا هناك وسوف يوافقون ..ومع ذلك تعرض لحملات تشهير في الصحافة وما لبثت أعماله ان تعرضت للمنع والحجب. وفي عام 1940 تدهورت صحته وشعر باقتراب الموت، فعكف علي إعادة كتابة المعلم ومرجريتا مرة ثانية، وأملي الأقسام الأخيرة منها علي زوجته وهو طريح الفراش وشبه أعمي .أما أعماله فقد واصلت السلطات منعها حتي عام 1961 عندما انبثقت فجأة "ظاهرة بولجاكوف" وذاع صيت الكاتب الذي كان قد فارق الحياة قبل ما يزيد عن عشرين عاما، وتوالي نشر أعماله التي كانت في حوزة زوجته، ولو لم تبذل تلك السيدة جهودا أسطورية لما رأت أعماله النور. علي أي حال اختفي أنصاف الموهوبين والمتنفذين، وبقي بولجاكوف وأعماله، وما زالت "المعلم ومرجريتا "يعاد طبعها حتي الآن.