علي مدي العقود الأربعة الماضية قرأت رواية بولجاكوف المعلم ومرجريتا عدة مرات، وإذا كنت معتادا علي نسيان النصوص القصصية والروائية، إلا أن المعلم ومرجريتا، في كل مرة كانت تصد مني بشدة ،فهي عمل انقلابي بالغ النزق والجنون المتواصل، ولايبقي منها في الذاكرة إلا ذلك القط الشرس المجرم الذي يسير علي قدمين اثنتين وقد تأنق في البدل الرسمية والقبعات! وعندما رأيتها في إحدي المكتبات أخيرا ،وكنت قد فقدتها بطبيعة الحال، اشتريتها ومعه كتاب آخر يضم عددا من الأعمال القصصية والروائية فضلا عن مقدمة، أو بالأحري دراسة عن الكاتب وأعماله المختلفة.. هذا وذاك جعلني للمرة الأولي أعيش مع بولجاكوف، وأدرك لماذا فتنني الكاتب، ولماذا قرأت عمله المجنون عدة مرات بنفس الافتتان ومن دون ملل. أعتمد هنا علي ترجمة يوسف حلاق الصادرة عن دار المدي، وأبادر إلي القول أن الخيال المتوحش المنطلق للكاتب، ربما كان الدافع للجوئه إليه هوحياته المضطربة وماتعرض له أثناء الفترة الستالينيه. الكاتب من مواليد 1891، ورحل عاد 1940 ،قبل أن تري روايته النور بعدة عقود، ولم تنشر كاملة ،كما رُفض نشرها في كتاب أول الأمر، ونشرت في مجلة، لتخفيف شرور روايته علي القراء ! غني عن القول أنه من المستحيل تلخيص عمل روائي، وأي محاولة لذلك تنتقص من العمل ،وعندما يكون العمل علي هذا القدر من الجنون، فإن محاولة التلخيص تصبح ضربا من العبث .هناك أكثر من خيط .خيط إلقاء القبض علي المسيح وصلبه ثم قتل يهوذا، وهو خيط يمتد بمقاطع وفصول خاصة خارج المتن الروائي، بل يكاد يشكل عملا داخل العمل، وهو مع هذا وثيق الصلة بالعمل الأساسي، الذي يتجاوز حجمه خمسمائة صفحة ببنط صغير . ربما انتمت المعلم ومرجريتا لأشد أنواع الكوميديا سوادا ونزقا واجتراحا وتطاولا علي كل مايجري في الحياة الواقعية التي عرفها الكاتب جيدا ،وطالما أهانته بل وأذلته .الكاتب يعيث فسادا في موسكو بكاملها، بعد أن يهبط الشيطان ذات صباح علي موسكو مدعيا أنه بروفسير ألماني متخصص في العلوم. ومنذ هذه اللحظة لاتتوقف جرائم "فولند " البروفسير ومساعداه وأحدهما قط متأنق. يقيم حفلات مسرحية في أضخم مسارح موسكو، ويدفع آلاف النساء والرجال لخلع ملابسهم ليحصلوا فورا علي ملابس جديدة، وعندما يخرجون من المسرح يفاجأوا بعريهم المفضوح. يسرق البروفسير ومساعداه ويزني ويفسق ويقتل ويضرم النار في شقق وأبنية، حتي مستشفيات الأمراض النفسية وإدارات المسارح والموظفين والمخرجين والممثلين ومسئولي الأبنية الحكومية ..لم يسلم أحد من الغارات التي شنها البروفسير ومساعداه علي كل موسكو .لاهدف واضحا للبروفسير ومساعداه إلا الإفساد المجاني الإجرامي والهمجية ،وكشف دناءة كل هؤلاء الرسميين حتي لو كان بعضهم مجرد مسئول صغير . الخيط الثالث هو خيط الروائي الذي يحب مرجريتا ،وهو نزيل أحد مستشفيات الأمراض النفسية ،ويكتب رواية عمره ُثم يقوم بحرقها، إلا أن مرجريتا تتمكن من إنقاذ القليل جدا من أوراقها، وهذا الخيط مستمد أغلبه من سيرة حياته الشخصية، فنص الرواية كان بولجاكوف قد كتبه فعلا ثم حرقه وأنقذت زوجته بضع صفحات، وأعاد بولجاكوف كتابة الرواية الضخمة مرة أخري. اعتمد الكاتب علي الخيوط الثلاثة، مطلقا لخياله العنان ليقدم عملا مجنونا ومتحررا من كل ماكان يعوق الأدب السوفييتي آنذاك.. بولجاكوف لايهمه الزمان والمكان والحبكة والتتابع والنقلات المنضبطة واالبناء الكلاسيكي.استغني عن كل ذلك متعمدا، وغلّف روايته بأشد أنواع السخرية مرارة وصفاقة. أظن أن نشر المعلم ومرجريتا لو كان قد جري في زمن كتابتها لكان للأدب السوفييتي في العالم شأن آخر .. لكن هذه قصة أخري كما يقال ،والحديث موصول إذا امتد الأجل ..