ينبغي أن نُسمعها لمن يتجاسرون بجهل علي تهميش مأثورنا الشعبي، ويتعاملون معه بشكل متحفي أو اعتباره حلية أو توشية تؤكد صلتهم بالجدود، ينبغي أن نقولها لهم "عندما يموت معمر فكأنما احترقت مكتبة بها ألف كتاب"، فما بالنا بموت شاعر شعبي، وكم من مكتبات احترقت برحيل واحد من كبار شعراء الهلالية، إنه سيد الضوي سليل مربعات الهلالية التي ورثها عن أبيه الذي كان أحد رواة الهلالية. نحن إذن أمام فصيلة دم نادرة ونقية في آن واحد، فصيلة دم عتقتها المربعات بعتباتها وطرحها وشدِّها وصيدها، إنها اصطلاحات أجزاء المربع الذي كان يُحكمها الضوي قابضا عليه كأنه قد عثر علي ضالته في تجاويف ذاكرة حبلي بآلاف المربعات والمواويل والحكايات بداية من الميلاد؛ ميلاد الأبطال، مرورا بالريادة والتغريبة وليس انتهاء بالأيتام ، فضلا عن قصص الطريق، لو رأيت الحاج سيد الضوي شاعر الهلالية الكبير ستلمح بطلا خارجا لتوه من بطون الهلالية، بطلا هرم في نصوصها وشكلت ملامحه أصوات الربابات وهي تلهث وراءه حين يصور حربا بين الزناتي ودياب ابن غانم، هنا ستدخل إلي قلب المعركة لتسمع صليل السيوف وحمحمات الخيول ، وستغمر وجهك عفرة الرمح بين الكر والفر، كيف أوتي هذه القدرة ؟ وهل تؤتي إلا لشاعر استطاع تجسيد الحروف أو علي وجه أكثر دقة تحويل المفردات إلي أفعال علي الأرض لها قوة ساحرة، إنه الضوي يا ناس، حفيد الترانيم والمدائح والأغنيات الشعبية التي رويت من عذب ماء النيل. لم يكن الضوي رجلا عاديا، لكنه كان أحد الكنوز البشرية بحد وصف اليونيسكو لمن لا يملكون إلا قطرة من نهره ، فما بالنا بسيد الضوي الذي اكتنز الشخوص والأحداث والأماكن، وأدرك صياغاتها المتعددة من القول الحر الذي لا يلتزم بالتقاليد الصياغية والأدائية المتواترة، وهذه الطريقة تعتني بالسرد علي حساب النظم، أو لنقل علي حساب الشكل الذي يتعلق بنظام شعري يتمتع بالرسوخ ، كذلك الموال بأشكاله المتعددة بداية من الرباعي مرورا بالخماسي "الأعرج" والسباعي / الزهيري وانتهاء بأشكال موالية أخري ، كما تتنوع هذه المواويل بين مواويل واضحة في قوافيها لتؤدي غرضا توصيليا، وأخري "مزهرة" أو "مقفلة" تحتاج إلي فك شفرتها الصوتية وبالتالي المضمونية من خلال متلق لا يقبل إلا بقانون المشاركة في صناعة النص، ليس بفك غموضه وحسب، وإنما بإضافات عليه أو رد الشاعر إلي ما تغافل عنه قاصدا أو ناسيا، والموال إن أداء شاعرنا الشعبي الكبير سيد الضوي كان يتسع لكل هذه الأشكال دون تجنيب شكل وتقدير آخر، فالسيرة تتسع كمتن لحكايات ونصوص وطرائق متعددة تؤكد علي سماحة قالبها المرن الذي يتيح لكل الأشكال الوجود والفاعلية في بناء النص، وهذه السماحة لا تؤتي إلا للكبار. لقد عرك الضوي مواليد الأبطال، ففرح وحزن واشتاق وعاين تكوينهم وارتحالاتهم في البلاد، ورسم ملامحهم بشفتين معلقتين علي سبيب الرباب، أحب بسالة الرجال، وهم يعبرون من بلد لبلد عبر طريق الهلالية الذي لا يعد مجرد طريق من بلد لآخر ، لكنه طريق للمعرفة، للتنوع القبلي ، للزي وللغناء وللغات ، إنه طريق مر عليه الضوي قاطعا المسافات مع أبطاله، وعايش شخوص السيرة في كل لحظة ، إنه سيد الضوي الذي رسم ملامح نساء السيرة وحالات ظلمهن وعشقهن وقوتهن ، فكانت خضرة وسعيدة والجازية وناعسة الأجفان وعزيزة كان يدرك سيد الضوي سحر المربع وجمال أدائه ، ويعرف مدي غرام أهل الجنوب المصري بهذا الفن الذي وسع الهلالية ، وعمق مجراها حتي كادت رواية الهلالية أن تبتلع كل ما صادفها من مربعات: صلاة النبي تغني عن القوت وتمنع البلا والمراضي قال له الإله اندفن فوق قال أمتي في الأراضي دنيا علينا تربت أنظر بعينك راعيها شوف العنز لما تربت ما نطحت إلا راعيها يجلس الضوي علي "الدكة" التي يقال لها المنبر- بوصفها مكان القول الحكيم، والصلاة علي النبي، ومداوة المرضي بحلو الكلام في باب الطبيب، والانتصار للأبطال، واكتناز الأمثال والعادات والتقاليد حاملا كل أزمنة السيرة وشخوصها ، وحين تتأمل وجهها ستتكشف لك كل شخصية حين يلفظها ، إنه بأدائه لم يكن مجرد ممثل فرد يؤدي سيرة ، لكنه كان مجمعا لشخوص السيرة ونصوصها المتعددة التي رسمت علي وجهه خطوطا كأنها خزانات القول الذي عبر القرون ليستقر في هذه الملامح. لقد كان سيد الضوي أحد كبار الشعراء الشعبيين، فالضوي ليس راويا كما يتردد، لكنه رغم ميراثه آلاف المربعات والمواويل والحكايات من أبيه ومن مراجع السيرة الكبار إلا أنه لم يستسلم لما ورثه ، لكنه كان يقدم إضافاته الصياغية والأدائية، وجعل السيرة موطنا لنصوص جدوده فدمجها بحرفية ليدخل فيها المدائح والحكايات ليجعل منها بدنا متسعا بنصوص متعددة ولفها مع قريناتها في هذا البدن الكبير الضوي لم يعش 83 عاما فقط ، لكنه عاش أزمنة وقرونا هي عمر أبطاله، فكان شاهدا علي الدماء التي سالت تحت وقع السيوف وسنابك الخيول وجوع الترحال من نجد مرورا بالعراق وبلاد الشام ومصر وتونس، فكان رحالة بالحروف وفيها يقابل السلاطين والملوك والشخصيات التاريخية، ويواصل ارتباطه بفترات وأماكن تاريخية، وما يستتبع ذلك من عادات وتقاليد، وطريقة في الكلام والمأكل والمشرب والزي، والأسواق وما يجري فيها، الأمر الذي يمكن الباحثين من استكمال الشواغر التاريخية التي سكت عنها التاريخ الرسمي فيما يتعلق بالحياة الاجتماعية التي رسمها الضوي تمدنا النصوص بكثير من العناصر الفلكلورية والإشارات التاريخية وما يتعالق بها من أدوات وسلوك وقيم ومعتقدات وعادات وتقاليد وأمثال... إلخ، فالجماعة الشعبية تسكن ثقافتها في نص الهلالية، وتقنعها بتاريخها الذي لم يحفل به المؤرخون الرسميون، فهل كان قناع التاريخ هو الآخر مركبا وضعت فيه حمولتها الثقافية ومنظومة قيمها لتتخذ منه رمزا يؤرخ لها، و هنا سنري الضوي من التاريخ إلي التأريخ، بمعني أنه حمال معاني الجماعة، وناقل تراثها من جيل لجيل، في هذا السياق فإن الضوي وهو يؤدي لا يرتبط بتاريخ بعينه من الوجهة الفنية، لكنه يتحول لشخصية عابرة للتاريخ، أو علي وجه أكثر دقة هو جماع لتواريخ متعددة بتعدد الأزمنة التي عاشها والأماكن التي استقر فيها والنصوص التي حفظ من خلالها منظومة القيم والعادات والمفردات الدالة التي تصلح مفاتيح للإشارة إلي زمن بعينه أو إلي مكان بذاته، أو إلي ثقافة متواترة في زمان أو مكان ما. رحل سيد الضوي بعد رحلة عطاء دعم بقاءها الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، لكن ما دعمها بعمق هو إيمان الجماعة الشعبية بسيد الضوي وفرادته في أداء الهلالية، ذلك الكنز الكبير الذي لا يمسك بتفاصيله إلا شاعر كبير مثل الضوي الذي سيظل اسمه خالدا بين أعلام مصر الكبار .