محافظ المنوفية يقدم التهنئة لمدير أمن المنوفية الجديد.. صور    أوقاف شمال سيناء تشارك في ندوة توعوية بعنوان: "معًا بالوعي نحميها"    ميناء دمياط يعلن وصول سفينة القمح الكندية الضخمة    بتخفيضات 30%.. محافظ كفر الشيخ يتفقد سوق «اليوم الواحد» بمطوبس    محافظ المنيا: تخصيص أراضٍ لإنشاء 20 مدرسة جديدة بمختلف المراكز    «مدبولي» يلتقي رئيس شركة «شل العالمية لأنشطة الغاز المتكاملة» (تفاصيل)    إنفوجراف| كلمة الرئيس السيسي حول الأوضاع في غزة    في إطار التحالف الوطني للعمل الأهلي.. «مصر الخير» تستعد لإطلاق قافلة مساعدات غذائية وطبية إلى غزة    إسرائيل هيوم: تقديرات إسرائيلية بأن احتلال غزة بات قريبا    «القاهرة الإخبارية»: غزة تحت نيران القصف.. والمجاعة تحصد أرواح الأطفال    لا مزيد من المجانية| ترامب يفرض على أوروبا معادلة «الحماية مقابل الدفع»    لافروف: سنواصل تنفيذ العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا وسنمنع انضمام كييف للحلف    ماستانتونو يستعد للانضمام لمران ريال مدريد    مران خفيف للاعبي المصري غير المشاركين أمام الترجي.. وتأهيل واستشفاء للمجموعة الأساسية    تراوري ينضم لمعسكر الإسماعيلي اليوم في برج العرب    بعد ضم فيليكس.. لاعب جديد من تشيلسي على أعتاب النصر السعودي    نائب رئيس اتحاد الجوجيتسو ورئيس لجنة الMMA يشهدان بطولة العالم للفنون القتالية المختلطة بالإمارات    زد يعلن انتقال محمد إسماعيل للزمالك    تحرير 119 ألف مخالفة مرورية وإيجابية عينة المخدرات ل 266 سائقًا    اندلاع حريق فى أحد المطاعم بمنطقة المنتزه شرق الإسكندرية    بالأسماء والمجموع.. أوائل الثانوية العامة علمي رياضة في جنوب سيناء    مصرع شخص صدمته سيارة تقودها طفلة وشقيقتها بإمبابة    بعد وفاة مدير أمن الوادي الجديد قبل تسلمه عمله.. نقل جثمان شرطي توفي متأثرا بالإصابة في الحادث    بيروت توّدع زياد الرحباني.. فيروز أمام الوداع الأخير لابنها | فيديو وصور    رئيس حزب الاتحاد: كلمة الرئيس السيسى أكدت أن مصر لم ولن تتأخر عن دعم فلسطين    الأعلى للإعلام: حفظ شكوى نقابة المهن الموسيقية ضد طارق الشناوي وخالد أبو بكر ومفيدة شيحة وسهير جودة    هدى المفتي تكشف: شائعة «البخت» أزعجتني نفسيًا.. ولم أتلقَ عرض زواج حتى الآن    وحدة السكتة الدماغية بمجمع الإسماعيلية الطبي تحصل على اعتماد «WSO»    ضعف المياه بشرق وغرب بسوهاج غدا لأعمال الاحلال والتجديد بالمحطة السطحية    فريق جراحة الأورام بالسنبلاوين ينجح فى استئصال كيس ضخم من حوض مريضة    السيسي: قطاع غزة يحتاج من 600 إلى 700 شاحنة مساعدات في الإيام العادية    مهرجان الإسكندرية السينمائي يكرم فردوس عبد الحميد بدورته ال 41    التنظيم والإدارة يتيح الاستعلام عن نتيجة تظلمات مسابقة ألف إمام وخطيب    لمواجهة الكثافة الطلابية.. فصل تعليمي مبتكر لرياض الأطفال بالمنوفية (صور)    حملات الدائري الإقليمي تضبط 18 سائقا متعاطيا للمخدرات و1000 مخالفة مرورية    ينطلق غدا.. تفاصيل الملتقى 22 لشباب المحافظات الحدودية ضمن مشروع "أهل مصر"    وزير الأوقاف: وثِّقوا علاقتكم بأهل الصدق فى المعاملة مع الله    الفنان محمد رياض يودع السودانيين فى محطة مصر قبل عودتهم للسودان    ديمقراطية العصابة..انتخابات مجلس شيوخ السيسي المقاعد موزعة قبل التصويت وأحزاب المعارضة تشارك فى التمثيلية    وزير الصحة: مصر الأولى عالميا في الحصول على التصنيف الذهبي بالقضاء على فيروس سي    كريم رمزي: فيريرا استقر على هذا الثلاثي في تشكيل الزمالك بالموسم الجديد    الشرطة التايلاندية: 4 قتلى في إطلاق نار عشوائي بالعاصمة بانكوك    فرقة الآلات الشعبية وكورال السويس يتألقان في رابع أيام "صيف السويس"    إسرائيل تقرر تجميد خطة "المدينة الإنسانية" في رفح    السّم في العسل.. أمين الفتوى يحذر من "تطبيقات المواعدة" ولو بهدف الحصول على زواج    حكم استمرار الورثة في دفع ثمن شقة بالتقسيط بعد وفاة صاحبها.. المفتي يوضح    مدبولي يستعرض استجابات منظومة الشكاوى الحكومية لعدد من الحالات بقطاعات مختلفة    محافظ المنيا: إزالة 744 حالة تعدٍ على الأراضي الزراعية وأملاك الدولة    الزمالك يدرس التعاقد مع صفقة رومانية.. وعائق وحيد يمنع حسمها    «الصحة» تحذر من الإجهاد الحراري وضربات الشمس وتوجه نصائح وقائية    إطلاق حملة لتعقيم وتطعيم الكلاب الضالة بمدينة العاشر من رمضان (صور)    أمين الفتوى: الصلاة بالبنطلون أو "الفانلة الداخلية" صحيحة بشرط ستر العورة    متحدثة الهلال الأحمر الفلسطيني: 133 ضحية للمجاعة فى غزة بينهم 87 طفلًا    في مستهل زيارته لنيويورك.. وزير الخارجية يلتقي بالجالية المصرية    رئيس جامعة القاهرة يشهد تخريج الدفعة 97 من الطلاب الوافدين بكلية طب الأسنان    توفير السيولة وخلق كوادر شابة مفتاح نهوض شركات المقاولات التابعة للقابضة للتشييد    أحمد الرخ: تغييب العقل بالمخدرات والمسكرات جريمة شرعية ومفتاح لكل الشرور    «تغير المناخ» بالزراعة يزف بشرى سارة بشأن موعد انكسار القبة الحرارية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أدباء وكتاب أسقطهم التاريخ الأدبي 11
سيد خميس الناقد الذي باع ميراثه في سبيل الثقافة
نشر في أخبار الحوادث يوم 08 - 10 - 2016

في عام‮ ‬1960،‮ ‬صدرت مجموعة قصصية مشتركة‮ ‬،‮ ‬تحت عنوان‮ "‬عيش وملح‮"‬،‮ ‬وشارك في تلك المجموعة ست كتّاب شباب‮ ‬،‮ ‬كلهم في العشرينيات من أعمارهم‮ ‬،‮ ‬وهم‮ :‬السيد خميس شاهين‮ ‬،‮ ‬وعباس محمد عباس‮ ‬،ومحمد جاد‮ ‬،والدسوقي مهني‮ ‬،‮ ‬ومحمد حافظ رجب‮ ‬،‮ ‬وعز الدين نجيب‮ ‬،‮ ‬وكتب مقدمة نقدية أو احتفالية الناقد والكاتب الكبير يحيي حقي‮ ‬،‮ ‬وكم نعدّد من أفضال هذا الرجل علي الثقافة والمثقفين‮ ‬،‮ ‬وجاء ذلك التقديم في ظل حرب ضروس كان يقودها الكتّاب الراسخون‮ ‬،‮ ‬في مواجهة الأدباء الشباب‮ ‬،‮ ‬ولم تكن المؤسسات الثقافية الرسمية تعبأ بنشر إبداعات الشباب الجديد‮ ‬،‮ ‬ذلك الشباب الذي لا يندرج تحت أي مصنفات سياسية في ذلك الوقت‮ ‬،‮ ‬كتب يحيي حقي مرحبا ومحتفيا ومحتفلا‮ :"‬هذه المجموعة ما أحبها إلي‮ ‬ّ،‮ ‬إنها تنطق بمعان حلوة جمة‮ ‬،‮ ‬عطر الربيع‮ ‬،‮ ‬وندي الزهر وهبة النسيم تنشط له النفس‮ ‬،‮ ‬يبدد خمولها ويجدد الأحلام‮ ‬،‮ ‬لم تستأثر بها أنانية فرد‮ ‬،‮ ‬يظل يصحبنا‮ ‬_ارتفع أو هبط_من أولها لآخرها‮ ‬،إنما هي عمل جماعي متساند‮ ‬،‮ ‬تعاون عليه ستة من الأدباء في زهرة العمر‮ ‬،منحها كل منهم خير ماعنده وإن قل‮.."‬،‮ ‬وراح حقي يقرّظ من كتابة هؤلاء الشباب،‮ ‬ويكتشف السمات المشتركة التي تجمع بينهم،‮ ‬وتجعلهم في الوقت ذاته مختلفين مع الأجيال السابقة التي تطغي علي الحياة الثقافية،‮ ‬وتمسك ناصيتها‮ ‬،‮ ‬كانت كلمة يحيي حقي بمثابة نفخ عظيم في روح كتابات هؤلاء الشباب‮ ‬،‮ ‬وقد أطلق عليهم بأنهم يشكلّون مدرسة‮ ‬،هي مدرسة‮ "‬عيش وملح‮"‬،‮ ‬وبالفعل انطلق هؤلاء الشباب‮ ‬_بعد ذلك_ ليشكلّوا النواة الأولي‮ ‬،أو الدفعة الطليعية البكر لجيل الستينيات‮ ‬،‮ ‬ذلك الجيل الذي ملأ فضاء عقد الستينيات إبداعا ونقدا ورسما وترجمة وثقافة وصخبا‮.‬
ولم يكتف هؤلاء الكتّاب الشباب بتقديم يحيي حقي الجماعي‮ ‬،‮ ‬بل راح كل منهم يقدم زميلا له‮ ‬،‮ ‬قبل أن يتابع القارئ قصص أي كاتب منهم‮ ‬،‮ ‬وكان أول من قدمتهم الكتاب‮ ‬،‮ ‬كان الكاتب الشاب‮ "‬السيد خميس شاهين‮"‬،‮ ‬والذي اشتهر بعد ذلك باسم‮ "‬سيد خميس‮"‬،‮ ‬وكتب التقديم لقصتيه‮ "‬عبد العزيز عبد الفتاح محمود‮"‬،‮ ‬وهو كاتب مجهول بالنسبة لي‮ ‬،‮ ‬وقال في تقديمه‮ :"‬في هذه المجموعة التي تضم نماذج بشرية من قطاعات شعبنا‮ ‬،والتي تقدم في نفس الوقت ستة من الكتّاب الجدد الذين نود أن يسهموا في إثراء أدبنا الجديد‮ ‬،أقدّم بإعزاز الكاتب الشاب السيد خميس شاهين‮ ‬،‮ ‬والسيد خميس ولد في قرية بالجيزة تسمي‮ (‬برقاش‮) ‬سنة‮ ‬1937‮ ‬،‮ ‬وليس في حياته أكثر من التجارب التي عاشها في القرية‮ ‬،ومن خلال ثقافته ومعاشرته للفلاحين‮ ‬،استطاع أن يرصد سلوك هذه النماذج‮ ‬،‮ ‬ويعايش تجاربها‮ ‬،‮ ‬مما أعطاه إمكانية التعبير عنها‮.."‬،‮ ‬وراح الكاتب في تكثيف شديد يرصد الملامح الفنية التي جاءت في قصتيّ‮ ‬سيد خميس الآتي من بيوت الفلاحين الفقراء‮ ‬،‮ ‬وطالب بأن لابد أن يجد هؤلاء الكتاب الشباب فرصهم في النشر والانطلاق كما نادي يحيي حقي ومحمد مندور مرارا وتكرارا‮.‬
وكانت قصتّا سيد خميس‮ "‬الوظيفة والفأس الجديدة‮"‬،‮ ‬تعبران عن روح الشباب الجديدة التي انتابت جيل مابعد يوسف ادريس‮ ‬،‮ ‬وقد تخلص خميس من المجازات اللغوية التي تنتاب كتابة أي مبدع مبتدئ‮ ‬،‮ ‬وكأنه تجاوز مرحلة النشء التي يعاني منهاأي كاتب شاب،‮ ‬وعبّر خميس عن هواجس اجتماعية وطبقية‮ ‬،أكثر من هواجسه الفنية‮ ‬،‮ ‬حيث أن الكاتب الشاب كان‮ ‬_مايزال_ يتلمس ثقافة جديدة‮ ‬،‮ ‬ومختلفة نسبيا عن الأجيال السابقة‮ ‬،‮ ‬ثقافة تنهل من التراث العالمي‮ ‬،‮ ‬وفي الوقت ذاته تبحث عن ملامح مصرية أصيلة‮ ‬،‮ ‬وربما فاقعة‮ ‬،‮ ‬لذلك سنجد في قصة‮ "‬الوظيفة‮" ‬محاولة إبراز ذلك البعد المحلي عند المصريين‮ ‬،‮ ‬وهو التحلّي بالصبر والجلد والانتظار السلبي‮ ‬_كان_أو إيجابيا‮ ‬،‮ ‬إذ انتظر المواطن القروي‮ "‬شعبان عبد الموجود‮" ‬أن تحلّ‮ ‬الحكومة مشكلة ابنه المتعلم مسألة استوظافه‮ ‬،‮ ‬وصبره علي تلك الحكومة‮ ‬،‮ ‬رغم نصائح الفلاحين‮ ‬،‮ ‬ومواطني شعبان بأن يتخلي عن ذلك الصبر‮ ‬،‮ ‬ومحاولة إلحاق إبنه بأي عمل‮ ‬،‮ ‬وعلي مدي القصة كلها يدور بين شعبان ومواطنيه شد وجذب وتأنيب وغمز ولمز‮ ‬،استطاع خميس أن يبدع في ذلك جيدا‮ ‬،‮ ‬حتي جاء إليه بمن يبشّره بأن الحكومة قد رضت عنه وعن ابنه‮ ‬،‮ ‬فأرسلت إليه بخبر وظيفة‮ "‬مدرس‮"‬،‮ ‬مما دفع‮ "‬شعبان‮" ‬للرقص والطرب والفرح بشكل مبالغ‮ ‬فيه‮.‬
أما القصة الثانية‮ ‬،‮ ‬وهي‮ "‬الفأس الجديدة‮"‬،‮ ‬فيعرض فيها خميس للاضطهاد الذي يقع علي الفلاحين الفقراء‮ ‬،‮ ‬وملاحقة‮ "‬الخولي‮"‬،و"ناظر العزبة‮" ‬لهؤلاء البؤساء،‮ ‬وخاصة ذلك الشخص الذي هلكت فأسه‮ ‬،‮ ‬وتآكلت ذراع فأسه‮ ‬،‮ ‬لدرجة أن تلك الفأس لم تعد تصلح للعمل مرة أخري،‮ ‬ولكن ذلك الفلاح الأجير لا يستطيع أن يشتري فأسا ب‮" ‬ريال‮"‬،وكانت تلك العملة توازي عشرين قرشا‮ ‬،‮ ‬حيث أن أجرته في اليوم الكامل‮ "‬بريزة‮"‬،‮ ‬أي مايساوي‮ "‬عشرة قروش‮"‬،‮ ‬وتدور ديالوجات بين‮ "‬برعي‮" ‬والخولي وزملائه حول‮ ‬غلاء كل شئ‮ ‬،‮ ‬بما فيها الفأس المطلوبة‮ ‬،‮ ‬ولكنه‮ "‬الشحط‮" ‬سعره يقل يوما بعد يوم‮ ‬،‮ ‬وتستمر القصة في ذلك الجدل الاجتماعي والعاطفي بين برعي ونفسه مرة‮ ‬،‮ ‬وبين برعي وزملائه الكادحين مرة أخري‮ ‬،‮ ‬ومرة ثالثة بين برعي والذين يسوسونه ويقودونه ويتحكمون في حركته ومصيره،‮ ‬وبذلك تنجح القصة في رسم واقع خام وطازج لمجتمع الفلاحين‮.‬
ورغم براعة سيد خميس في قصتيه،واحتفاء الوسط الأدبي بالمجموعة القصصية المشتركة‮ ‬،‮ ‬وعلي رأسهم الناقد فؤاد دوارة‮ ‬،‮ ‬الذي كتب مقالا نقديا طويلا احتفالا بالكتّاب الجدد‮ ‬،إلا أنه سرعان ما تخلّي عن الكتابة القصصية‮ ‬،‮ ‬واتجه إلي كتابة النقد الأدبي‮ ‬،‮ ‬ويبدو أنه وجد نفسه أقرب إلي ذلك المجال‮ ‬،‮ ‬لأنه تخصّص فيما لم يبدع فيه نقاد قبله أو بعده،‮ ‬وهو القراءات النقدية لشعر العامية المصرية‮ ‬،‮ ‬وربط نفسه بأبناء جيله الشاب‮ ‬،‮ ‬وأعطي نفسه بشكل مفرط لقضية هذا الجيل‮ ‬،‮ ‬للدرجة التي جعلته يبيع ميراثه من أرض زراعية‮ ‬،‮ ‬وينشئ دارا للنشر‮ ‬،‮ ‬أسماها‮ "‬دار بن عروس‮"‬،‮ ‬تلك الدار التي نشرت ديوان‮ "‬الأرض والعيال‮" ‬لعبد الرحمن الأبنودي عام‮ ‬1964،‮ ‬وكذلك نشرت الديوان الأول‮ "‬صيّاد وجنيّة‮" ‬للشاعر سيد حجاب‮ ‬،‮ ‬وكتب خميس دراسة نقدية مهمة جدا لديوان‮ "‬الأرض والعيال‮"‬،‮ ‬تلك الدراسة التي ظلّت من أهم ماكتب عن الديوان حتي الآن‮ ‬،‮ ‬وكانت الأفكار والتوجهات التي وردت في تلك الدراسة جديدة‮ ‬_فعلا_ علي الحياة النقدية المصرية،‮ ‬وأستطيع في هذا السياق التأكيد علي أن ذلك النقد الجذري كان مؤثرا إلي حد بعيد في كل من تناولوا شعر العامية المصرية بعد ذلك‮ ‬،‮ ‬رغم أن سيد خميس ظلّ‮ ‬إخلاصه المبدأي‮ ‬وغرامه الأول‮ ‬_دون كل النقاد_ لشعر العامية المصرية‮ ‬،‮ ‬ولذلك سنجد أن كتاباته عن بيرم التونسي وبديع خيري صلاح جاهين وفؤاد حداد وسيد حجاب وعبد الرحمن الأبنودي وغيرهم‮ ‬،‮ ‬هي الكتابات الأكثر لماحية واكتشافا لعبقرية المفردات والتراكيب للعامية‮ ‬،‮ ‬وكذلك جمالياتها المتجددة والمتنوعة والمكثفة‮.‬
ولم تكن تنقص سيد خميس الشجاعة ليقرن الأبنودي‮ "‬الشاب‮"‬_آنذاك_ بالراسخين من الكتّاب الكبار‮ ‬،‮ ‬وكان رهانه في محلّه‮ ‬،‮ ‬وأثبت المستقبل المديد صحّة توقعه‮ ‬،‮ ‬إذ كتب في مستهل دراسته المصاحبة لديوان الأبنودي الأول يقول‮ :(‬صعيدية الشاعر هي السمة التي تطلّ‮ ‬علينا‮ ‬،‮ ‬وتفرض نفسها منذ أن تعانق عيوننا شعر الأبنودي‮ ‬،‮ ‬حتي تنتهي رحلتنا في هذا الديوان البكر‮ ‬،‮ ‬إنه أول شاعر صعيدي في تاريخ أدبنا الحديث‮ ‬،وإذا كان كاتبنا العظيم نجيب محفوظ قد استطاع أن يستجيب لقضايا العالم والواقع والعصر‮ ‬،‮ ‬في أعماله الرائدة‮ ‬،واستطاع أن يتناول هذه القضايا من خلال تجربة القاهرة‮ ‬،‮ ‬بل من خلال تجربة الأحياء الوطنية فحسب‮ ‬،‮ ‬فإن الشاعر الموهوب وزميله‮ ‬_يقصد سيد حجاب_ يحاولان أن يصنعا بشعرهما ما صنعه الكاتب الأب برواياته‮ ‬،‮ ‬رغم فارق العمر والثقافة والجنس الأدبي‮).‬
كان ذلك المدخل لقراءة أشعار الأبنودي لافتا وذكيا للغاية‮ ‬،‮ ‬إذ سمح لخميس أن يبدع في قراءة المفردة والجملة والرؤية الجديدة في تلك الأشعار الطازجة‮ ‬،‮ ‬الأشعار التي تجاوزت فكرة‮ "‬التجريب‮" ‬،‮ ‬لتستقر في وجدان الناس‮ ‬،‮ ‬ورغم أن سيد خميس هو صاحب مقولة‮ "‬احنا جيل من‮ ‬غير أساتذة‮"‬ الأصلي‮ ‬،‮ ‬وليس محمد حافظ رجب كما كتب ابراهيم أصلان في كتابه‮ "‬خلوة الغلبان‮"‬،‮ ‬إلا أنه جعل الأبنودي وأشعاره‮ "‬الابن‮"‬،‮ ‬امتدادا لنجيب محفوظ ورواياته‮ ‬،‮ ‬وكان سيد‮ ‬يصرّ‮ ‬طوال مطولاته النقدية مدي عمره الثقافي والأدبي والفكري كله‮ ‬،‮ ‬علي اكتشاف الجذور التي أنبتت تلك النباتات الوارفة والتي مدّت ظلالها علي مدي عقود كاملة‮.‬
لذلك لم‮ ‬يقصر خميس دراساته علي كتابات أبناء جيله فقط‮ ‬،‮ ‬ولا علي الشعراء السابقين عليهم فحسب‮ ‬،‮ ‬بل عاد إلي الخلف كثيرا‮ ‬،‮ ‬بداية من إطلاق اسم‮ "‬ابن عروس‮" ‬علي‮ "‬جماعة أشعار بالعامية المصرية‮"‬،‮ ‬والتي أصدرت ديواني الأبنودي وحجاب،‮ ‬وكتب علي‮ ‬غلاف ديوان الأبنودي‮ ‬يقول‮ :(‬من اسم ابن عروس الشاعر الفارس‮ ..‬تستمد حركتنا الشعرية الكثير من القيم والتقاليد‮ ..‬فقد ربط ابن عروس‮ ‬،‮ ‬الشعر بالشرف‮ ..‬بالناس‮ ‬،‮ ‬وعلي هذا الدرب سار الكثيرون من الشعراء الشرفاء‮ ‬،‮ ‬الذين تحتفظ بهم ذاكرة شعبنا‮ ‬،‮ ‬مشي في نفس الطريق‮ .. ‬النديم‮ ‬،‮ ‬بيرم‮ ‬،‮ ‬فؤاد حداد‮ ‬،‮ ‬وعندما اختار صلاح جاهين شعار‮ "‬أشعار بالعامية المصرية‮" ‬لديوانه‮ "‬عن القمر والطين‮" ‬كان‮ ‬يكمل طريق الرواد العظام‮ ‬،‮ ‬وكان‮ ‬يضع في الوقت نفسه الشعار المناسب لهذا الشعر‮..).‬
وكذلك لم‮ ‬يتوقف عند ربط حركة أشعار بالعامية المصرية بابن عروس فحسب‮ ‬،‮ ‬بل راح‮ ‬يبحث في الأصول‮ ‬،‮ ‬فكتب عن‮ "‬ابن سناء الملك‮" ‬،‮ ‬وعن‮ "‬ابن قزمان‮"‬،‮ ‬ثم أعدّ‮ ‬دراسة في‮ ‬غاية الأهمية عن الكتاب الأهم‮ "‬العاطل الحالي والمرخص الغالي‮" ‬لصفيّ‮ ‬الدين الحلّي‮ ‬،‮ ‬وضمّن كل ذلك في كتابه‮ "‬الشعر العامي في مصر‮"‬،‮ ‬واستفاض في دراسة الأزجال والمواليا والكان كان والقوما‮ ‬،‮ ‬وقدّم نصوصا قديمة في الكتاب‮ ‬،‮ ‬وكانت تلك النصوص القديمة‮ ‬،‮ ‬جديدة علي الحياة الثقافية المصرية‮ ‬،‮ ‬رغم أن كتابين مهمين قد صدرا من قبل‮ ‬،‮ ‬ودرسا تلك الأشكال القديمة‮ ‬،‮ ‬الكتاب الأول وهو‮ " ‬تاريخ أدب الشعب‮" ‬،والذي صدر عام‮ ‬1936،‮ ‬لحسين مظلوم‮ ‬،‮ ‬وتحدث عن تلك الأشكال من القول الشعري‮ ‬،‮ ‬ثم كتاب‮ "‬فنون الأدب الشعبي‮" ‬لأحمد رشدي صالح‮ ‬،‮ ‬والصادر عام‮ ‬1955‮ ‬،‮ ‬ربما تكون هناك دراسات أخري لشوقي عبد الحكيم وعبد الحميد‮ ‬يونس‮ ‬،‮ ‬ولكن كل الكتابات كانت تنطلق من وجهة نظر تاريخية خالصة‮ ‬،‮ ‬وما أتي به سيد خميس‮ ‬،‮ ‬هو القراءة الاجتماعية التي انبثقت من خلالها تلك الفنون‮ ‬،‮ ‬ثم ربطها بكل ماهو جديد وحديث‮ ‬،‮ ‬الجديد علي المستوي الزمني‮ ‬،‮ ‬والحديث علي مستوي الرؤية‮ ‬،‮ ‬وربما تكون تلك الإضافة التي وضعها سيد خميس في كتابه‮ "‬الشعر العامي في مصر‮"‬،‮ ‬هي الفائدة الأكمل والأهم في استدعاء تلك الفنون القديمة،‮ ‬وكأنها القول الفصل والحاسم في تاريخية واجتماعية تلك الفنون‮.‬
لم تكن قراءة سيد خميس العامة والشاملة والاجتماعية تنطلق من فراغ‮ ‬سديمي‮ ‬،‮ ‬بل كانت تعود إلي عدة عوامل مكثفة‮ ‬،‮ ‬العامل الأول هو انتماؤه العميق والحاد إلي أهله‮ "‬الفلاحين‮" ‬الفقراء‮ ‬،‮ ‬هؤلاء الفلاحون الذين لهم صوت ورأي وتوجه ومناخ وسيكولوجيات تخصّهم دون‮ ‬غيرهم من الطبقات أو الفئات الأخري‮ ‬،‮ ‬أما العامل الثاني‮ ‬،‮ ‬هو نهم خميس نحو المعرفة بكافة أنواعها الأدبية والفلسفية والسياسية‮ ‬،‮ ‬وتبعا لهذين العاملين ارتبط سيد بجماعة‮ "‬اليسار الجديد‮" ‬في مصر‮ ‬،‮ ‬وخاصة جماعة‮ "‬واو شين‮" ‬،أو‮ "‬وش‮" ‬،‮ ‬أو‮ "‬وحدة الشيوعيين‮"‬،‮ ‬وذلك ردّا علي الأشكال الشيوعية القديمة التي كانت تتخفي تحت عناوين لا تعطيها خصوصيتها مثل‮ "‬حدتو‮"‬،‮ ‬وهي اختصار ل‮ "‬الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني‮"‬،أو‮ "‬دال شين‮"‬،‮ ‬وهي اختصار لاسم منظمة‮ "‬الديمقراطية الشعبية‮"‬،‮ ‬ورأي قياديو‮ "‬وش‮" ‬أن تلك العناوين القديمة كانت لا تؤدي إلا لشعارات حزب الوفد القديم‮ ‬،‮ ‬ولذلك أسموا أنفسهم‮ "‬وحدة الشيوعيين‮"‬،‮ ‬ولأن ذلك الوقت كانت الصين الشعبية اخترعت لنفسها ماركسية علي مقاسها‮ ‬،ونظّر ماوتسي تونج لتلك الماركسية الجديدة‮ ‬،‮ ‬وكذلك أنشأ السوفيتيون ماركسية تخصّهم‮ ‬،‮ ‬وحولوا تعميمها في أوروبا الاشتراكية‮ ‬،‮ ‬والعالم الثالث الذي تنتمي له مصر‮ ‬،‮ ‬تمرد قياديو‮ "‬وش‮"‬،‮ ‬فحاولوا الإفراط في إنشاء ماركسية مصرية تخصّهم وحدهم‮ ‬،‮ ‬بعيدا عن خطّي السوفييت والماويين‮ ‬،‮ ‬وكان سيد خميس‮ ‬يقوم بتلك الماركسية المصرية لأبناء جيله‮ ‬،‮ ‬ويقول ابراهيم أصلان عنه في كتابه‮ "‬خلوة الغلبان‮" ‬بأن سيد خميس كان‮ ‬يقرأ بعينه اليمني‮ ‬،‮ ‬أما عينه اليسري كان‮ ‬يعلمنا بها الماركسية‮ ‬،‮ ‬وربما ذلك الإفراط في تمصير الماركسية‮ ‬،‮ ‬جعله‮ ‬يعتقد‮ ‬_علي سبيل المثال_ أن اللغة‮ "‬الأدبية‮" ‬تتغير بشكل جذري لدي الطبقات الاجتماعية‮ ‬،‮ ‬فلغة العمال ومفرداتهم وتراكيبهم،‮ ‬تختلف تماما عن لغة الطبقة البورجوازية‮ ‬،‮ ‬وكان خميس‮ ‬يعتقد أن تلك مقولات الزعيم السوفيتي‮ "‬جوزيف ستالين‮"‬،‮ ‬وهكذا أصبح سيد خميس أحد صنّاع‮ "‬الفهم الخاص المصري‮" ‬للنظرية الماركسية‮ ‬،‮ ‬وظل طوال حياته الثقافية والفكرية‮ ‬،‮ ‬يبدع ويمتع بتخريجاته الفكرية والنظرية والتطبيقية الخاصة‮ ‬،‮ ‬كان ذلك صحيحا‮ ‬،‮ ‬أو عليه مؤاخذات من آخرين‮.‬
ولمّا تجلّت حركة سيد خميس ورفاقه بشكل بارز وواضح‮ ‬،‮ ‬صدر أمر باعتقال تلك المجموعة في‮ ‬9‮ ‬أكتوبر عام‮ ‬1966،‮ ‬وضمت قائمة الاعتقال بالإضافة إلي سيد خميس كلا من‮: "‬عبد الرحمن الأبنودي‮ ‬،‮ ‬وسيد حجاب‮ ‬،‮ ‬وصلاح عيسي‮ ‬،‮ ‬ومحمد عبد الرسول‮ ‬،وغالب هلسا‮ ‬،‮ ‬وصبري حافظ‮ ‬،‮ ‬وكمال عطية‮ ‬،‮ ‬وجمال الغيطاني‮ ‬،‮ ‬وجلال السيد‮ ‬،‮ ‬وعلي الشوباشي‮ ‬،‮ ‬والدكتور رؤوف نظمي‮ ‬_الذي انتمي فيما بعد لمنظمة التحرير الفلسطينية وصار‮ ‬يكتب باسم‮ "‬محجوب عمر‮"‬_،‮ ‬وأحمد ومحمد العزبي،‮ ‬وغيرهم،‮ ‬وكان قد سبقهم المعتقل الدائم الكاتب والناقد والمترجم ابراهيم فتحي‮ ‬،‮ ‬وكذلك المحامي عادل أمين‮ ‬،‮ ‬والعامل القيادي منصور زكي‮ ‬،‮ ‬ووجهت إلي كل هؤلاء الاتهام الجاهز أبدا والأكليشيه‮ "‬إنشاء منظمة خارجة علي القانون لقلب نظام الحكم‮"‬،‮ ‬وبعد تدخلات خارجية وداخلية،‮ ‬خرج هؤلاءالشباب المعتقلون في مارس‮ ‬1967،‮ ‬وكان علي رأس من تدخلوا المفكر والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر‮ ‬،‮ ‬الذي كان مدعوا من جريدة الأهرام في ذلك الوقت‮ ‬،‮ ‬ولكنه اشترط قبل حضوره إلي القاهرة‮ ‬،‮ ‬أن‮ ‬يخرج كل المعتقلين دون قيد أو شرط‮.‬
خرج المعتقلون‮ ‬،‮ ‬وخرج سيد خميس ليمارس دوره الثقافي والتثقيفي‮ ‬،‮ ‬وكتب عددا هائلا من الدراسات النقدية المهمة واللافتة في مجلتي‮ "‬المجلة والهلال‮" ‬،‮ ‬وفي عقد السبعينيات سافر إلي دمشق‮ ‬،‮ ‬ليعمل في الصحافة السورية والفلسطينية‮ ‬،‮ ‬ولكنه كان‮ ‬يتابع ويكتب عن الحياة المصرية الثقافية والسياسية والإبداعية‮ ‬،‮ ‬وفي عام‮ ‬1985‮ ‬كتب مقدمة ودراسة مهمة وشاملة لديوان‮ "‬أهيم شوقا‮" ‬للشاعر أحمد فؤاد نجم‮ ‬،‮ ‬ذلك الديوان الذي صدر عن دار النديم‮ ‬،‮ ‬والتي أسسها الشاعر عبد الرحمن الخميسي‮ ‬،‮ ‬وأدارها باقتدار المثقف المصري إلهامي المليجي‮ ‬،وأصدرت تلك الدار مجموعة كتب مهمة في الخارج‮ ‬،‮ ‬ثم انتقلت بعد ذلك إلي القاهرة‮ ‬،‮ ‬ويعود سيد خميس إلي القاهرة لمواصلة دوره الذي لم‮ ‬ينقطع‮ ‬،‮ ‬ولكن ماحدث أن عناوين الانطلاق تتغير‮.‬
وفي حقبة التسعينات تأسست جريدة‮ "‬القاهرة‮" ‬برئاسة تحرير الكاتب والمؤرخ صلاح عيسي‮ ‬،‮ ‬ويصبح سيد خميس أحد أعمدتها الرئيسية،‮ ‬ومن خلال الجريدة راح خميس‮ ‬يبدع ويفنّد الحياة الثقافية علي أكمل وجوهها الفكرية والسياسية‮ ‬،‮ ‬ودخل معارك ضارية‮ ‬،‮ ‬بعضها كان موفقا في خوضها‮ ‬،‮ ‬وبعضها الآخر كان‮ ‬يشبه حالات الترصد‮ ‬،‮ ‬فكان هجومه الدائم علي جمال الغيطاني مثيرا للغاية‮ ‬،‮ ‬خاصة أن الغيطاني كان في ذلك الوقت علي خصومة حادة مع وزير الثقافة فاروق حسني‮ ‬،‮ ‬وكان خميس لا‮ ‬يكلّ‮ ‬ولا‮ ‬يملّ‮ ‬من مديح أنشطة وزارة الثقافة ومهرجاناتها العديدة‮ ‬،‮ ‬ولحسن الحظ‮ ‬،‮ ‬أن سيد خميس جمع بعض تلك المقالات ونشرتها دار ميريت في كتاب‮ "‬وجوه وأقفية‮"‬،‮ ‬ذلك الكتاب المهم والفريد‮ ‬،‮ ‬إلي جانب كتابه الآخر‮ "‬ثمانية عشر رجلا وامرأة واحدة‮"‬،‮ ‬وبالإضافة لذلك كتب كتابا فريدا عن‮ "‬القصص‮ ‬الديني بين التراث والتاريخ‮"‬،‮ ‬تلك الكتب التي لم تنشر مرة أخري‮ ‬،‮ ‬رغم أهميتها‮ ‬،‮ ‬وتاهت في الغيبوبة التي انتابت الثقافة والمثقفين‮ ‬،‮ ‬كما تاه سيد خميس نفسه في تلك الغيبوبة التي لا نعرف متي تنتهي‮ ‬،‮ ‬ومتي تتوقف‮ ‬،‮ ‬لكي نستعيد ذلك‮ ‬المثقف الاستثنائي‮.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.