المنع قرار سهل سريع، لا يحتاج إلا لجرة قلم، وسلطة إصدار القرار، أما المنح، فيحتاج إلي دراسات، وحسابات، ورؤية... والأهم أنه يحتاج إلي ثقة وجرأة، ورؤية مستقبلية واضحة ومحددة، لا تخضع للأهواء الشخصية، أو الذعر تجاه مشكلات طارئة استحدثت... ومن المؤسف أن نقوم بثورتين علي نظم فشلت في إخراج مصر من أزماتها لأكثر من نصف قرن، لكي ينتهي بنا الحال إلي السير علي نفس نهج تلك النظم المتعاقبة، التي فشلت عبر العقود، وكأن مافشل بالأمس، يمكن أن ينجح اليوم، لمجرد أنه هناك نظام حكم جديد!!.. المشكلة هي أننا لا نتعلم أبداً ممن سبقونا، ولا نقرأ التاريخ، ولا نستوعبه، أو نحاول الإفادة من دروسه، كما وأن كل مسئول يصدر قراراً، وهو خلف مكتبه، نادراً ما يكون علي دراية بكيفية تنفيذ القرار، من قبل كل المستويات التي تليه، فالقرار قد يبدو سليماً علي الورق، ولكنه يتعارض تماماً مع ابجديات التطبيق علي أرض الواقع، وربما يعود هذا إلي سياسة عجيبة، سارت علي نهجها كل النظم المتعاقبة،فعندما يتعلق الأمر بوزارة من وزارات السيادة، تختار النظم دوماً وزيراً من داخل المنظومة؛ ثقة منها في أنه الأقدر علي فهمها، وإدراك طبيعتها، ومشكلاتها الفعلية ... والأهم سبل حلها علي أرض الواقع، أما حينما يتعلق الأمر بالوزارات الأخري، فكل النظم تتجاهل هذه القاعدة تماماً، فتتجاهل أصحاب الخبرات الطويلة والكبيرة داخل المنظومات، وتلجأ إلي أساتذة الجامعات، أو أصحاب الألقاب الرنانة، والذين، ومع احترامي الشديد لهم، وتقديري الكبير لمكانتهم، ومعلوماتهم العلمية القيمة، لا يدرون أو يمتلكون أية خبرات في المنظومة التي يرأسونها، سوي خبرات نظرية، مستقاة في الغالب من نظريات تخص شعوباً أخري، تختلف معنا في منظومتها الاجتماعية والعملية، ولهذا تأتي قراراتهم أنيقة في صيغتها، جذابة في منطوقها، وفاشلة تماماً في التطبيق العملي، علي أرض الواقع، وبالطبع، وعلي الرغم من أنهم يبذلون قصاري جهدهم، إلا أنهم لا يحققون أي نجاح؛ بسبب جهلهم التام بأبجديات التطبيق الفعلية، علي أرض الواقع، الذي يختلف كثيراً عما أتت به نظرياتهم، مما يدفعهم دفعاً في النهاية، نحو القرار الأسهل والأفشل؛ لحسم المشكلات عسيرة الحل... المنع ... ولقد خاضت دول أخري التجربة قبلنا، واستخدمت سياسة المنع، فكانت النتائج كارثية، ثم عادت إلي سياسة المنح، فاعتدل ميزان الأمور... في الولاياتالمتحدةالأمريكية في مطلع القرن العشرين، صدر قرار من الكونجرس، بمنع تداول الخمور، وفرح به المحافظون، وتصوَّروا أنهم بهذا قد منعوا مشكلة اجتماعية مؤرقة، ولكنهم بقرار المنع هذا خلقوا مشكلة كبري، روَّعت أمريكا لسنوات طوال، إذ أدي قرار منع تداول الخمور إلي ظهور عصابات تهريب كبري، عملت علي تهريب الخمور، عبر الحدود الكندية، وأنشأت مصانع سرية لتقطير وصنع الخمور، بل وملاه سرية، تسيل فيها الخمور أنهاراً، ولما كانت أرباح تلك التجارة غير الشرعية هائلة، فقد لجأت تلك العصابات المتنافسة إلي حمل السلاح، وتكوين ميليشيات مسلحة؛ لحماية استثماراتها، والتخلَّص من كل من يحاول التصدي لنشاطاتها، فساد الخوف المجتمع، ولم يعد هناك أحد آمن، حتي في منزله، وانتشر الفساد والرشوة بين رجال الشرطة، والمسئولين، وحتي وكلاء النيابة والقضاة وأعضاء الكونجرس، إما برغبة في نيل جزء من كعكة الفساد، أو خوفاً علي حياتهم من رجال العصابات، الذين يقتلون ويريقون الدماء، دون وازع من ضمير أو أخلاق، وعندما بلغت المصيبة أوجها، وجد عقلاء الكونجرس أن الخلاص الوحيد من تلك الأزمة، هو إلغاء قانون منع تداول الخمور، وما إن فعلوا هذا، حتي انتهت تلك العصابات، في غضون عام واحد... تجربة واقعية، أثبتت فشل سياسة المنع، ونجاح سياسة المنح... أزمة الدولار في مصر، تخضع لقوانين متعجلة، تدور كلها حول سياسة المنع، علي نحو عشوائي عصبي غير عملي... البنك المركزي يصدر قرارات عجيبة، للحد من استخدام بطاقات الائتمان خارج الحدود، وذلك حفاظاً علي العملة الصعبة، وحبسها داخل البلاد، مع العلم بأنه بعد الحادي عشر من سبتمبر، لم يعد هناك من يقبل التعامل بالنقد المباشر، في أوروبا أو الولاياتالمتحدةالأمريكية، فما بالك برجل أعمال، يرغب في حجز فندق يليق بمظهره، أمام من يأمل في عقد صفقة تجارية معهم، أو دعوة مستثمرين إلي عشاء في مطعم فاخر مثلاً... أما قرار إغلاق مكاتب الصرافة، فهو دليل قوي، علي سياسة المنع الفاشلة، فتجار العملة حققوا مكاسب خرافية، من قبل حتي أن تكون هناك شركات صرافة ... هذا ما أدركه رئيس الوزراء الأسبق الراحل عاطف صدقي، عندما مرت مصر بأزمة مماثلة، في أوائل الثمانينيات، فاستخدم سياسة المنح وليس المنع، ورفع سعر الدولار، وصار متوافراً في البنوك، مع انشاء شركات الصرافة... وبسياسة المنح آنذاك، خرجت مصر من أزمتها، وصار لديها أكبر احتياطي نقدي في تاريخها... الذي لا يتعلم منه أحد للأسف.