التاريخ.. ليس مجرد كلمات أو اشعار أو صفحات تسرد الأحداث التاريخ.. هو هوية الأوطان.. فوطن لا هوية يصبح بلا تاريخ .. وهوية الاوطان تنشأ مع وجود الانسان، بأحداث الترف والاعتزاز والانتصار.. وايضًا الهزيمة والانكسار .. ومصر الكنانة كانت ومازالت هى اصل التاريخ والهوية التى سطرها اجدادنا المصريين قبل سبعة آلاف عام من الحضارة والانتصارات وصناعة المعجزات، والتى مازالت تذهل كافة الحضارات، وتدهش الإنسان ايًا كان لونه او عرقه او مكان نشأته، لكن ماذا لو تم اغتيال هذه الحضارة؟، ماذا لو اختفت آثارنا وهويتنا المصرية بأيدى السلف والاحفاد؟، ماذا لو ضاع التاريخ واصبح الماضى فى خبر كان؟. سوريا الحضارة والتاريخ تغتال الآن بأيدى عصابة داعش القذرة، والتى تستهدف ليس فقط اغتيال المواطنين او هدم البنايات، وإنما اغتيال وهدم كل ما هو أثري ويدل على معجزات الاجداد، وحضارة دولة هزمت الأعادي على مر تاريخها من اجل البقاء.. والمثير أن مصر اصبحت ليست بعيدة عن هذا المنال القذر، فالخطة الشيطانية تنفذها عصابات تسير على نهج داعش، لكن بصورة غير الصورة، وملابس غير الملابس، وطريقة اخطر واقذر مما ينتهجها التنظيم الإرهابى الواضح فى مخططه، فداعش التى ترتدي الثوب المصرى بدأت مخططاتها قبل عشرات السنين، وتتجلى الآن فى العديد من المناطق الحضارية والأثرية، ولتبقى منطقة حدائق القبة التى تعود نشأتها مع عام 872 هجرية، فى عهد السلطان المملوكى الاشرف قايتباى مثالاً وعبرة لمن لا يعتبر. منطقة تعود نشأتها الى عام 872 هجرية، الى عهد السلطان المملوكي الأشرف قايتباي، اما طبيعتها فهى كما كتب عنها التاريخ أحد أرقى أحياء مدينة القاهرة العاصمة المصرية، وكانت من الأحياء التي يسكنها أثرياء مصر ووجهاؤها، ولما لا وهى كانت مقصد سكن الباشوات واثرياء مصر والاجانب ورجال الحكم، ففيها عاش الملك فاروق، الرئيس محمد نجيب، الرئيس انور السادات – فترة الخمسينات- القارئ الشيخ محمد المنشاوى، المجاهد الجزائرى العظيم عبد القادر، الداعية الجليل عبد الحميد كشك، برهان الدين ربانى، اول رئيس افغانى بعد رحيل السوفيت، محمد عبد الفتاح ابراهيم، رئيس وزراء مصر الاسبق، انيس عبيد اشهر واول من ادخل صناعة ترجمة الافلام كتابة على الفيلم، حافظ باشا عفيفى، رئيس الديوان الملكى، د. مفيدة عبد الرحمن، اول محامية فى مصر، الشاعر الكبير محمد مصطفى الماحى، الفريق مصطفى محمد الماحى ( ياور رئيس الجمهورية)، اللواء ابراهيم باشا الحسينى، حكمدار بوليس الإسكندرية فى عهد الملك فاروق، جمعة الشوان، فريد الاطرش، اسماعيل ياسين، اسمهان، شكوكو، انور وجدى وغيرهم من المشاهير والاسماء اللامعه التى اثرت وحفرت اسمائها فى تاريخ مصر. أنقاض التاريخ ومع نشاة منطقة حدائق القبة كان ما يميزيها معمار قصورها التى اصبحت تاريخية واثرية وكثافة اشجارها، لكن كل هذا اغتيل على ايدى تنظيم الفاسدين الذى اصبح اخطر من تنظيم داعش الإرهابى، القصور الفخمة الاثرية تحولت الى عمارات شاهقة اغلبها مخالف للقوانين واللوائح الخاصة بالأحياء، على جوانب الطرق محلات تجارية بأصوات صاخبة كان ممنوع ومحذور طبقاً للقوانين المنظمة حينها، آثار هدمت، وجرائم ارتكبت، وما تبقى قليل بالنسبة لما تم هدمه خلال العقود الماضية، ولكن هل توقفت عمليات الهدم والاغتيال هذه، هل ينقذ وزير الآثار المنطقة التى زحفت فيها العشوائيات واغتالت معالمها؟، هل يتحرك وزيرا الآثار والثقافة للتأكيد على هويتنا المصرية؟، هل يتوقف نزيف التحاليل على القانون؟، الإجابة للأسف مؤسفة ومحزنة. فيلا احمد رامى إذا أردت أن تشم رائحة عبق التاريخ فعليك بالذهاب الى هذا المكان، فبرغم عمليات الهدم المستمرة لتراثنا الحضارى، إلا أن مازالت هناك اثارًا وحضارة تشهد بعظمة الاجداد، وجرائم الاجداد، وامام الفيلا رقم 4 بشارع محمد نبيل السباعى المتفرح من شارع مصر والسودان، الملقب قديماً بشارع ملك مصر والسودان، كان يعيش المبدع الرائع احمد رامى، والذى كتب بداخله عشرات الاشعار التى تغنت بها السيدة الراحلة ام كلثوم. هنا كان الموهوب احمد رامى يلتقى بأسطورة الغناء كوكب الشرق، هنا كان يجلسان فى الشرفة التى باتت محطمة، ويدندنان معًا بأعذب الاشعار وسط اللفحات الشتوية الباردة، ونسيم الزهور واشجار الفاكهة، هنا كتب احمد رامى اروع قصائده فى قصره الملهم، وهنا كان التحضير لحفلات ام كلثوم التى تحول صوتها إلى رمز للفن المصرى القديم. حافظ الرائع الموهوب احمد رامى على مكانة التاريخ طوال سنوات عمره، وبعد مماته اصبح القصر معمارًا شاهدًا على عظمة المهندس المصرى الذى شيده مع عشرات القصور الاخرى، لكن لان الفساد لا يعترف بالازمان او التواريخ، طالته الايادى الخبيثة، بواقعة غريبة ومؤسفة بدت انها تحايل على القانون من اجل إسقاط الفيلا التى تزيد مساحتها عن سبعمائة متر، لتشتعل النيران فى الفيلا بأيدى مجهولة، ولتشير تحريات الشرطة الى انفجار انبوب بوتوجاز داخل الفيلا، ويبدو ان الفاعل كان يريد هدم سقف القصر، حتى يكون حجة وسندًا لإخراجه من إطار المبانى الاثرية وليتم الموافقة على هدمه، لكن ابى القصر ان يسقط، ليظل شامخًا بجدرانه، بينما اختفت من بين جدرانه كافة ممتلكات احمد رامى ومن بينها البيانو الخاص به والذى قدره البعض بأن الاموال تستعصى على تقديره بثمن. محاولة جديدة لكن هل انتهى الامر الى هذا الحد؟، الواقع يؤكد أن الاجابة بلا، خاصة عندما استيقظ سكان المنطقة على انهيار جزء من القصر، وليكون هو بداية للتحايل على القانون وحجه لهدمه لتشييد عقار سكنى فيما بعد، وهو نفس السيناريو الذى تكرر لعشرات المرات، لينتهى الامر بأن تتحول المنطقة الاثرية الى منطقة شبه عشوائيه تتخللها فقط بعض الفيلل والقصور التى تئن من الإهمال، وفى محاولة من سكانها واحفاد الاجداد – الورقة- للحفاظ عليها دون أى تدخل من الدولة لإعادة ترميمها، او الحفاظ على ما بداخل جدرانها، او حتى محاولة إيقاف نزيف هدمها. الواقع يؤكد ان فيلا الفنان احمد رامى ليست هى الحالة الوحيدة التى يتم هدمها بنفس السلوك والتحايل على القانون، عشرات القصور تم هدمها فعلاً، والبقية الباقية تنتظر دورها فى السقوط بسيناريوهات مشابهة، ومن يتجول فى المنطقة الاثرية بحكم القانون واللوائح سيجد عشرات الاعتداءات الصارخة التى تؤكد ان المؤامرة مازالت قائمة. ما تبقى سيظل شاهدًا على جريمة ترتكب فى وقتنا الحالى، سيبقى مسجد "عين الحياة" الذى شيدته الاميرة عين الحياة والذى حفر فى رؤوس المصريين وقلوبهم وخلدت ذكراه عالميًا بمسمى الشيخ كشك نسبة الى العالم الداعية الراحل الشيخ عبد الحميد كشك شاهدًا على ما يحدث، سيظل اقدم استديوهات التصوير السينمائى "استديو جلال" الذى صورت فيه معظم افلام الثلاثينات والاربعينات مثل فيلم وداعًا بونابارت شاهدًا على جريمة اغتيال حضارتنا بأيدينا، ستظل ايضًا مدارس محمود باشا فهمى النقراشى النموذجية الابتدائية والإعدادية والثانوية ومدرسة أحمد بك ماهر التعليمية التي تحولت إلى إدارة تعليمية لمنطقة الحدائق كاملة والزيتون التعليمية شاهدين على التحايل على القانون ومن ثم ترك المتحايلين على القانون من اجل هدم آثارنا وحضارتنا لكسب اموالاً تتخم بها جيوبهم بغض النظر على اثرية تلك الاماكن التى لا تقدر بثمن. وتبقى تلك السطور مجرد إثبات موقف على ما يحدث حاليًا تجاه آثارنا المصرية وحضارتنا التى تغتال امام اعيننا، لكن هل سيتحرك المسئولون لاتخاذ موقف عملى؟، هل سيأتى اليوم الذى يصدر فيه وزير الآثار ووزير الثقافة قرارات تتصدى للتحايل على القانون، او تكون هناك حملات توعية بأهمية تلك المبانى الاثرية وكيفية الحفاظ عليها، نتمنى هذا فى القريب العاجل، قبل أن تزحف العشوائيات وتلتهم ماضينا الجميل.