عندما تضيق مساحة الوطن وينبض القلب بهدوء وتنكسر في النفس اشياء يبحث الانسان عن مساحة من الهواء والارض ومكان اخر يصبح بعد فترة وطناً يعيش فيه ويظل يتعلق بالحياة في وطنه الاصلي وقد يصنع لنفسه مساحة يولد فيها إبداعه ويتقبله الآخر فيصبح وطنه ووطن ابنائه ويدافع عنه وإن كانت جذوره ممتدة في ارض اخري .. الآرمني صاروخان صاحب مدرسة الكاريكاتير المصري ومدرسها الاول وصانع الاجيال .. عاشت اسرة الكسندر هاكوب صاروخان المولود في 1 اكتوبر 1898 ببلدة صغيرة ضمن مقاطعة باطلوم التابعة لاقليم القوقاز التابع للامبراطورية الروسية .. اسرة صغيرة يعمل الوالد في تجارة الاقمشة ويسعي الابن الاوسط صاروخان وشقيقه الي مساعدة الوالد في بعض الاعمال ويختلس صاروخان الوقت ليرسم والاب يفرح ويشجعه كثيرا ويلحق الاب صاروخان بإحدي المدارس الروسية بالمدينة الكبيرة وفيها يلتقي صاروخان بمعلمه الاول مدرس رسم روسي استطاع ان يخرج المارد الفني داخله واخرج طاقته التشكيلية لم يكن عرف المبالغة في الرسم ولكنه مهد له الطريق للدراسة التشكيلية وفن التشريح . ومن السعي إلي الافضل يفكر الوالد في تغيير تجارته الي النفط القوقازي وينتقل بالاسرة الي اسطنبول 1909 وهناك يتعرف صاروخان علي واقع فني آخر ويشغل نفسه كثيرا بالدراسة التشكيلية للناس والمناظر الخلابة ويحاول ان يرسم الاسكتش بأقلام الفحم النباتي محاولا الوصول الي صيغة خاصة حتي يلتحق مع شقيقه الاصغر بمدرسة الآباء المخيطاريين بأسطنبول ويبدأ صاروخان المحاولة الاولي بعمل مجلة اسرية تهتم بشئون الاسرة يرسمها ويحررها شقيقة الاصغر وقراء المجلة خمسة أفراد فقط (الاب والام وشقيقاته الثلاثة) وبانتقال الاسرة إلي »باطولم» لتعثر تجارة الاب تفقد المجلة القراء وتتوقف عن الصدور بعد استمرارها عامين .. تسافر الاسرة ويبقي صاروخان وشقيقه داخل المدرسة التي ترفع العلم النمساوي وتحقق النجاة لصاروخان وشقيقه من مذبحة الارمن الشهيرة اثناء الحرب العالمية الثانية فكان رفع العلم علي المدرسة بمثابة الحماية لابناء الارمن داخلها باعتبار الامبراطورية النمساوية المجرية كانت الحليف للدولة العثمانية . يظل الشقيقان حبيسي الأسر الاختياري داخل اسوار المدرسة حتي انتهاء الحرب العالمية يخرج الاكبر صاروخان الي العمل ليصرف علي شقيقه فيعمل مترجم وموظفا صغيرا وعلي مكتبه يرسم ويظل يتحرك داخله الرفض الوظيفي فيترك العمل ويبقي بلا عمل فقط يراسل المجلات الارمنية كرسام هاو حتي كان الحدث الاهم عندما يبدأ ينشر أعماله في أهم المطبوعات الساخرة جريدة (جافروش ) الساخرة الفكاهية ويبدأ صاروخان حالة من الانتعاش الفني بفضل صاحبها طولايان المكتشف الاول والحقيقي لصاروخان رائد الكاريكاتير وباسلوب فني خاص يحاول الفتي ان يجد لنفسه اسلوبا خاصا يميزه عن الاعمال الارمنية الفنية المرسومة يرسم البورتريه والموتيفة الصغيرة ويبدأ مرحلة من العمل الكاريكاتيري المتكامل يشجعه طولايان صاحب المجلة ويقدم الفتي صاروخان اروع الاعمال في المجلة الاكثر شعبية ولكن تتغير الاحوال السياسية ويدخل اتاتورك بقواته وترتكب الجرائم ضد الارمن واليونانيين ويسافر الآخوان صاروخان عام 1922 إلي ومنها الي بيت عمهما ( اراكيل ) في بروكسل . عرف العم بموهبة صاروخان الفنية وقدرته علي نشر اعماله في بعض المجلات والجرائد الارمنية فاقترح عليه استكمال دراسته الفنية بمعهد الفنون الجرافيكية بالنمسا ابتسم الفتي صاروخان وفي دقائق كان في القطار يرسم علي الورق ويكتب التاريخ الجديد ديسمبر 1922 اول يوم له بالمعهد وهناك تخلص كثيرا من الدراسة الاكاديمية وترك لقلمه حرية التشكيل والمبالغة المدروسة بخلفية اكادمية انجز اكثر من 125 عملا بعيدا عن المبالغة الكاريكاتيرية ولكنها محاولة منه لدراسة الجسم العاري والحركة وزاوية العمل وتوزيع الظل والضوء داخل اللوحة وخلال دراسته الاكاديمية استطاع صاروخان ان يجد لنفسه شكلا للتعبير الفني يستطيع ان يرسم ويبالغ بسهولة لذلك بعد سنتين من الدراسة تجده يجلس في فناء المعهد يرسم الاصدقاء والدارسين ويبالغ بشكل كاريكاتيرية فيتميز جدا بأسلوبه الخاص واصبح رسام الكاريكاتير داخل المعهد فمهد له الطريق للتعرف علي الشاب المصري عبد القادر الشناوي الذي يدرس فنون الطباعة فهو من اسرة ثرية من المنصورة يريد ان يصدر مجلة ومطبعة فكان اللقاء بين شاب يريد ان يصدر مجلة ساخرة وفنان اصبح داخله طائر فني يكسر اسوار سجنه ويريد ان يحلق علي صفحات مجلة ساخرة . عرض عبد القادر الشناوي عليه الحضور الي مصر وبالفعل سافر صاروخان علي ظهر الباخرة المتجهة الي الاسكندرية ويحلم بالعمل في ام الدنيا يحمل هموم وطنه وقلم رصاص واقلام الفحم النباتي وورقا يدون فيه التاريخ الجديد يوليو 1924 يحضر الي الاسكندرية وبمساعدة بعض الارمن يتجه الي عبد القادر في المنصورة ويصدر معه عددين فقط من المجلة نظرا للظروف المادية لعبد القادر ومشاكله الاسرية .. لم يفكر صاروخان في العودة الي النمسا ولكنه احب الحواري والشوارع المصرية ورسم الناس والبيوت واستطاع انجاز الاعمال الفنية التي ساعدته علي الالتحاق كمدرس رسم بمدرسة كالوسديان الارمنية 1925 وفي المدرسة الارمنية تعرف اكثر علي عالم الآرمن الجميل بمصر تعرف علي اهم واشهر صانع ( كليشيهات ) في مصر بربريان الذي تصنع عنده معظم الصحف والمجلات والتي وعد صاروخان بإلحاقه بأهم المجلات في مصر .. وتعرف علي صاحب مجلة السينما الآرمنية واصدر معه العدد الاول في يناير 1925 ورسم مجموعة من الرسوم الكاريكاتيرية والتي وصل فيها اسلوب صاروخان الي مرحلة النضج الفني وهي المرحلة الثانية لاسلوب صاروخان الذي مر بثلاث مراحل الاولي في فيينا والثانية بمجلة السينما الآرمنية والثالثة علي صفحات روزاليوسف ومجلة اخر ساعة .. استمر صاروخان بالعمل في مجلة السينما الآرمنية حتي اختلف مع صاحبها وتوقف عن العمل بها وفي نفس الوقت فقد وظيفة مدرس الرسم ففكر في العمل كموظف في احد البنوك ولكنه تراجع عن الفكرة وأقام في تلك الفترة معارض فنية استطاع ان يكسب منها بعض الاموال وهو ماشجعه علي العمل المستمر في الفن بشكل اكبر وتأكدت موهبته الفنية خاصة في رسم البورتريه الكاريكاتيري للزعماء وللشخصيات السياسية في ذلك الوقت .. وكما وعده بربريان وداخل ورشته تعرف علي محمد التابعي الذي انبهر بأعماله الكاريكاتيرية ذات الطابع الخاص ومدرسته التي تصنع حالة مختلفة عن السائد ووجد التابعي في صاروخان مايتمناه فقد ظل يبحث عن ريشة خاصة للمجلة بعيداً عن الازدواجية الفنية لريشة سانتيس ذات التوجه المناقض لسياسة مجلة روزاليوسف فقد كان سانتيس يرسم منتقدا سياسة الوفد علي صفحات مجلة الكشكول ويرسم علي صفحات روزاليوسف يشيد بسياسة الوفد لذلك اعتبر التابعي ان صاروخان هو الحالة الفنية التي تخرج المجلة من تلك الازدواجية وعلي صفحات العدد 118 يظهر العمل الاول لصاروخان ( الثلاثاء 3 مارس 1928 ) وصورة كاريكاتيرية ساخرة ليست ذات طابع سياسي ومع العدد 120 استمر في العمل بشكل اسبوعي علي صفحات المجلة الاكثر انتشارا واستطاع صاروخان في تلك الفترة التأكيد علي اسلوبة الخاص والمميز يقول بيكار ( كانت رسوم صاروخان اقرب الي الرسوم المتحركة التي ابتدعتها سينما القرن العشرين .. وكانت الديناميكية العارمه تحرك كل خط يرسمه وتحيله الي نبض متفجر وحركة صاخبة لا تعرف الاستقرار ) . وعلي صفحات روزاليوسف ظهرت شخصية المصري افندي من ابداع صاروخان وهي محاكاة لشخصية انجليزية ( الرجل القصير ) التي ظهرت بمجلة الديلي اكسبريس لرجل قصير يرتدي النظارة السميكة وفي يده شمسية وعلي رأسه قبعة استبدل صاروخان القبعة بالطربوش السائد في تلك الفترة واستبدل المظلة بالسبحة الطويلة واستطاع المصري افندي ان يقابل رؤساء الاحزاب ورئيس الوزارة وكل رجال السياسة وكادت رسوم المصري افندي ان تدخل صاروخان السجن ولكن بذكاء فطري خاص استطاع ان يستخدم دائما الرمز وخفة الدم المصرية للخروج من المسألة .. وبخروج التابعي من روزاليوسف وتأسيسه مجلة اخر ساعة يخرج صاروخان معه ويبدا رحلة جديدة من الشقاء اللذيذ ويصدر العدد الاول في يوليو 1934 يحمل كماً من رسوم صاروخان التي اصبحت مميزه خاصة مختلفة عن رسوم رفقي المحافظة واكاديمية رسوم سانتيس واصبحت الرسوم ماركة صاروخان . في عام 1946 يفكر التابعي في اغلاق مجلة اخر ساعة ولكن الاخوين علي ومصطفي أمين ينجحان في ضم المجلة الي مؤسسة اخبار اليوم وينضم محررو المجلة الي اخبار اليوم ويتزامل صاروخان مع رخا في مكتب واحد ويسطر كل منهما سطورا من نور في تاريخ الفن المشاغب . يصنع صاروخان منظومة خاصة من العمل بعد الاستقرار فيكتب المسرحية الساخرة ويصدر الكتب الكاريكاتيرية ويسافر لزيارة وطنه الام ويقيم المعارض ويحصل علي الجنسية المصرية 1955 .. ويصبح ابن بلد مصريا خاصا يتذكر قبر اخيه فيسافر له وامام قبره يتذكر رحلته الفنية ويبكي علي رحيله ونظل نحن نبكي علي قيمة فنية كبيرة عندما سكتت الريشة عن الصخب في يناير 1977 .