عندما تطالع رسوماته الكاريكاتيرية تشعر كأنها من روح ودم من كثرة الحيوية والرشاقة اللتين تشعان منها والتي من خلالها تستطيع التعرف علي فترة من أهم الفترات في الحياة المصرية في القرن الماضي وعندما تقرأ سيرته ينتابك الإعجاب والتقدير لأنه استطاع رغم المعاناة والإفلاس والتشرد أن يكون واحدًا من أهم مؤسسي فن الكاريكاتير المصري خصوصا السياسي منه أنه الفنان الأرمني المصري «صاروخان» ذلك القصير الأصلع الذي حسبه كامل الشناوي بقالا روميا عندما رآه لأول مرة أثناء زيارته لمحمد التابعي في «روزاليوسف» وظنه جاء يطالب التابعي بحساب الشهر! صاروخان الذي كان معُلمًا وصاحب مدرسة في الكاريكاتير ومبتكرا للعديد من الشخصيات أهمها علي الإطلاق شخصية «المصري أفندي» الذي كان يلبس الطربوش ويرتدي نظارة ويمسك في يده مسبحة وينتقد كبار الساسة والمسئولين بصورة لاذعة وبخفة دم لا تباري، ولد في أول أكتوبر 1898م ببلدة «أردانودج» وهي بلدة نائية في أقصي شمال شرق تركيا والتي كانت تخضع إداريا في ذلك الحين للإمبراطورية الروسية واسمه الحقيقي «إلكسندر هاكوب زاديك صاروخان» وهو ثالث أبناء زاديك صاروخان الذي كان يعمل تاجرا للأقمشة ثم انتقل بأسرته بعد ولادة نجله الكسندر بعامين إلي مقاطعة «باطوم» حيث كانت منفذا للبترول إلي العالم وهناك تحول والده لتجارة النفط وكانت أسرة صاروخان تتكون من ذكرين وثلاث بنات وقد ارتبط «الكسندر» بأخيه «ليفون» وكانت لهما في طفولتهما عدة محاولات في الرسم وكان والدهما يشجعهما علي ذلك. التحق صارخان بالمدرسة الروسية وهناك تقابل مع مدرس رسم زرع فيه حب الرسم ولكنه لم يستمر كثيرا في المدرسة بسبب الأحداث السياسية وانتقال الأسرة إلي اسطنبول ظنا بأن الحياة هناك ستكون طيبة إلا أنها كانت أسوأ وهناك التحق الأخوان «الكسندر وليفون» بالمدرسة الكاثوليكية وقاما بتأسيس جريدة أسبوعية منزلية كان الكسندر يقوم برسم الصور فيها واستطاع أن ينشر في مجلة أرمينية كانت تصدر هناك ولم يكن يتقاضي مقابلا لهذه الرسوم ولكنه هرب ومعه شقيقه من المذابح التي كانت تقع يوميا من الأتراك ضد الأرمن وسافرا إلي بروكسل حيث استقرا بها وأعادا إصدار مجلتهما الأسبوعية وكانا يصدران عددا ممتازا يتكلف خمسة قروش واستمرت المجلة في الصدور ثلاث سنوات ويقال إن صاروخان لم ير إخوته بعد ذلك. وقرر صاروخان احتراف الرسم الكاريكاتيري وشجعه عمه وتكفل بالمصاريف فذهب إلي «فيينا» لينهي دراسته بمعهد الفنون الجرافيكية وقد تتلمذ علي يد رسامين من إنجلترا وأمريكا وروسيا وفي فيينا تعرف بشاب مصري لعب دورا مصيريا في حياته وكان هذا الشاب من محبي الصحافة وقال له إنه يمتلك دارا كبيرة للنشر في مصر وينوي إصدار جريدة، أقنعه بالحضور إلي مصر للعمل معه حيث المستقبل مضمون وفرصة الكسب والحياة الطيبة مؤكدة، وعند حضور صاروخان إلي مصر لم يجد الشاب في انتظاره واكتشف أنه «فشّار» وهذه القصة رواها عملاق الصحافة مصطفي أمين في افتتاحية كتاب صاروخان «الضاحك الباكي» قائلا: رأيته لأول مرة عام 1927 في ورشة الحفار الأرمني بريريان وكنت أصنع فيها كليشيهات مجلة التلميذ التي كنت أصدرها وأنا تلميذ عمري 13 سنة ووجدته يبتسم في وجهي دون أن يعرفني ثم أمسك ورقة وقلما وراح يرسمني بسرعة مدهشة وبعد دقائق قدم لي صورتي الكاريكاتيرية ولم يكن يعرف كلمة من اللغة العربية ولكن رسومه كانت تتكلم وتضحك وتتعارف وعرفت أنه رسام ضحية شاب من المنصورة، كان قابله في فيينا عاصمة النمسا وأوهمه أنه صاحب جريدة كبيرة في مصر واتفق أن يعمل معه رساما بمرتب كبير وصدّق صاروخان الطيب هذا الكلام وركب باخرة إلي الإسكندرية ونزل إلي الميناء ولم يجد أحدا في استقباله وظل يمشي متسكعا متشردا في شوارع الإسكندرية إلي أن وجد مطعم فول مدمس يملكه أرمني ودخله وأكل مجانا وبحث عن فندق يملكه أرمني فنام علي مقعد في إحدي الحدائق واستطاع ببشاشته وخفة روحه أن يتعرف إلي بعض المصريين في الإسكندرية واقترض منهم أجرة قطار في الدرجة الثالثة إلي القاهرة. ثم عثر علي بعض الأرمن من مواطنيه وساعدوه وظل تائها في شوارع القاهرة إلي أن وجد عنوان صديق لعمه كان يعمل بشركة بترول في القاهرة فحصل علي وظيفة مدرس رسم بالمعهد الفني الأرمني ببولاق براتب جنيهين في الشهر ثم أقنع إدارة المدرسة بإصدار مجلة يرسمها فارتفع راتبه إلي خمسة جنيهات وقابل في ورشة بريريان محمد التابعي رئيس تحرير مجلة «روزاليوسف» وكانت تنشر صورا كاريكاتيرية علي غلافها فطلب عملا وقال التابعي إنهم لا يعينون رسامين في المجلة بل يشترون منهم الصور بالقطعة ورسم صاروخان عدة صور بالألوان قدمها للتابعي أعجب بها ونشرها علي غلاف «روزاليوسف». كان لقاء صاروخان بالتابعي هو نقطة التحول في حياته وذات يوم سأله التابعي: لماذا لا ترسم الكاريكاتير السياسي؟ ورد صاروخان: كيف؟ ولم يجبه التابعي فقط وإنما أجابته السيدة فاطمة اليوسف أيضا وقال له الاثنان: سنريك كيف ترسم الكاريكاتير السياسي. وتحكي السيدة روزاليوسف هذه القصة في كتابها «ذكريات» قائلة: إن مجلة «الكشكول» كانت هي التي تناصبنا العداء في ذلك الوقت وكانت تتميز علينا بشيء واحد هو الرسم الكاريكاتيري الذي كان يرسمه الرسام الإسباني الكبير «سانتيس» وكان سانتيس يرسم لنا بعض الصور أيضا ولكن ارتباطه ب«الكشكول» كان يحول دون أن يتفرغ لإجابة مطالبنا وأخذت أفكر في رسام يمكن أن يملأ هذا الفراغ وتذكرت أخيرا ذلك الرجل الأرمني القصير الذي كان يصعد خمسا وتسعين درجة ليصل إلي مقر الجريدة القديم وقد حمل في يده نكتة قام برسمها وكنا ننظر إلي النكتة فنجدها قديمة أو لا تعجبنا، فيعود هابطا السلم الطويل وأرسلت في استدعاء صاروخان وكان وافدا علي مصر لا يعرف شيئا عن الشخصيات السياسية المصرية ولا يعرف العربية إلا لماما فأحضرنا له نماذج من الرسم لسانتيس وكان التابعي يفقد أعصابه عشر مرات قبل أن يفهمه فكرة صورة واحدة ثم يرسمها هو علي عكس ما نريد فيعيد المحاولة حتي أصبح صاروخان بعد مجهودات جبارة رساما كاريكاتيريا كبيرا. وما لبثت رسوم صاروخان أن نجحت نجاحا ضخما لأنها كانت مليئة بالحركة والحيوية والنكتة اللاذعة وأصبحت حديث مصر كلها لأنها كانت تسخر من الزعماء والقادة وتهزأ من الطغاة ورؤساء الوزراء وكانت في بعض الأحيان أشد قسوة من سلسلة مقالات. وفي سنة 1934 قبضت النيابة علي التابعي وصاروخان بسبب صورة غلاف كاريكاتيرية في العدد الأول من مجلة «آخر ساعة» التي كانت تصور متهما يقف أمام القاضي ويقول له: حرامي.. نعم صحيح، نصاب.. نعم صحيح، لكن عضو في حزب الشعب حرام لأنه موش صحيح!! وكان رئيس الوزراء في ذلك الوقت هو رئيس حزب الشعب وكان عنوان الصورة «التهمة الفظيعة» وأفرج عنهما بكفالة بعد تحقيق استمر حتي منتصف الليل. كانت شخصية «المصري أفندي» نتاج عمل جماعي بينه وبين محمد التابعي وروزاليوسف وبسبب نجاح الشخصية نجاحا مذهلا افتتحت محلات وصالونات ودكاكين باسمه. وأصدر صاروخان كتابين برسوم كاريكاتيرية الأول «نحن من خلال نظارتنا» والثاني «انظر إلي أقوالك». وقد تنقلت ريشة صاروخان من مجلة «روزاليوسف» إلي «آخر ساعة» إلي «أخبار اليوم» التي انضم إليها سنة 1946م وأصبحت صورة تنقل في مجلات أوروبا وأمريكا وكانت حديث العالم العربي، وحاول صاروخان أن يظفر طيلة حياته بالجنسية المصرية فكانت العراقيل توضع أمامه إلا أنه حصل عليها بعد أن أصبح شيخًا في الستين من عمره. لم يحصل صاروخان علي التكريم المناسب رغم جهوده الكبيرة في فن الكاريكاتير وكان هذا يحزّ في نفسه وكان أعظم تكريم تلقاه كما يعترف بنفسه رسما كاريكاتيريا نشره «رخا» بمناسبة الصاروخ الذي أطلقه الاتحاد السوفييتي مخترقا أجواء الفضاء فرسم صاروخان محلقا فوق الهرم إلي جانب صاروخ آخر وكتب تعليقا يقول: عندهم صاروخ واحد وإحنا عندنا صاروخان! قال عنه شيخ الصحفيين الراحل حافظ محمود: صاروخان نحت بدأب صخرة الكاريكاتير وبني لها معبدا في شارع الصحافة. مات صاروخان الذي لم يكن يطمع في أكثر من لمسة تقدير وعرفان عام 1976م تاركًا وراءه آلاف الرسوم والصور التي تعبر عن الحياة السياسية والاجتماعية في فترة من أهم الفترات في تاريخ مصر.