إن الحديث عن البيت العربي بإسبانيا، الذي نقلنا شعاره أعلاه، قد يحتاج أكثر من بضعة أسطر، نظرا لأهميته وأهمية الدور الذي سطره لنفسه، والذي يقوم به بكل نشاط وشمولية وواقعية وثبات. إنها مؤسّسة ذات مقرين ثابتين، أحدهما بالعاصمة مدريد والثاني بقرطبة، مسنودة بعناية وزارة الخارجية عن طريق وكالة التعاون الدولي، وحكومتي إقليم مدريد وأندلسية، وبلديّتي مدريد وقرطبة. كلا المقرين بنيان عتيق ذو هندسة عربية أو مُدجَّنة، كما هو الحال بالنسبة لمقر مدريد، وكلاهما يحتل موقعا ممتازا من مدينته. لعلّه من الجدير، إحقاقا للحق، أن يذكر من، بطريقة أو بأخري، تسبّب في بعث هذا المشروع الثقافي السياسي التاريخي الإنساني المفيد. أنشئ في مدريد عام 1990 بيت أمريكا، بغية توطيد العلاقات والمبادلات بكل أصنافها بين إسبانيا وبلدان أمريكا ذات الماضي والصلة المتينة مع ما كان يدعي الوطن الأم. حضر تدشين المشروع كبار القوم والمسئولون من بينهم طبعا، سفراء الدول المعتمدون لدي الدولة الإسبانية، من ضمنهم السفراء العرب. لم تفت أهمية وفائدة تلك المؤسسة عن ذهن الكثيرين، فما كان من سفير ليبيا آنذاك السيد نوري بيت المال، إلا أن يبادر، بوصفه عميد السفراء العرب، بالاتصال بذوي الشأن في الحكومة الإسبانية، وتقديم اقتراح بعث مشروع عربي مشابه . قوبل الاقتراح بما يناسب من دبلوماسية معهودة وأعطي الوعد بدراسته ودراسة إمكانيات تحقيقه. مرّت الأيام، وكما يقول المثل الإسباني أمور القصور تسير الهوني، سارت الفكرة علي ما يبدو بخطي بطيئة إلي أن قربت نهاية عام 2005. ففي يوم 9 ديسمبر من تلك السنة أعطي مجلس الوزراء السّماح بتوقيع الاتفاقية التي تنشأ بموجبها مؤسّسة البيت العربي ومعهد الدّراسات العربية والعالم الإسلامي التابع لها، وتمّ تأسيس المشروعين رسميا ونهائيا في شهر يوليو 2006. بزغ الي النور ودشن البيت العربي بحضور الملك خوان كارلوس وإشراف وزير الخارجية آنئذ السيد ميغال أنخل موراتينوس. الغاية والهدف: هذه المؤسسة أعلنت، من يوم تأسيسها، أنها تريد أن تكون " مركز أبحاث ونشر وإشعاع " حول وعن البلدان العربية " فيسهّل التعرّف علي واقعه بطريقة جماعية ومختلفة، نقيّة من كلّ اعوجاج ينشأ عنه في الغرب نزاعات وعنف." إنه فضاء ضدّ المزاعم الباطلة، وعبره وبواسطته تعمّق العلاقات السياسية الثنائية والجماعية، ومحاولة المساهمة في الاستقرار واستتباب السلام وتنمية العلاقات الاقتصادية. إنّ سوء المعرفة المتبادل ينشأ عنه أحكام مسبقة، ومشاعر رفض تجاه ما هو عربيّ ومسلم. فالبيت العربي يُبعث ليقوم بدور الطليعة، الذي يعود لإسبانيا بحكم تاريخها، داخل أوربا عند إعداد وتطبيق سياسة متّزنة متوازنة في جوار وتقارب مع العالم العربي والإسلامي. الإدارة والتسيير: غايات وأهداف سامية ساور الشك، أكثر من واحد، في بلوغها أو الاقتراب منها، لكن سرعان ما استعيدت الثقة واتجهت الأنظار مترقّبة مراقبة، عندما لاحظ القريب والبعيد، الاستعدادات والمعدّات للقيام بالمهمة الشاقة الصعبة المعقّدة، لما تحتاجه من معرفة وكبير إخلاص من لدن من سيوكل إليهم إنجاز هذا العمل المشرّف وطويل الأمد. لم تكتف بلديتا مدريد وقرطبة بإهداء المبني الملائم بل أعدّتاه وجهزتاه فتوفرت فيه كل المرافق والضروريات: قاعات للمحاضرات والندوات والعروض السمعية البصرية، والمعارض الفنية، وفصول التعليم، والمكتبة وحتي المقهي والمطعم. لكن، كلّ هذا لا مردّ له ولا فائدة منه تُرجي، بدون هيكل بشري مختصّ عارف، واع بدوره ومسؤوليته. هنا أيضا وُفِّق المسئولون فوظفوا في كلّ قسم من أقسام الإدارة، من لهم خبرة ودراية واختصاص فيما سيعهد إليهم، فكانوا نساء ورجالا، عند حسن الظن بما شهدت به منجزاتهم. أسندت الإدارة العامة لهذه المؤسسة عند إنشائها، إلي مستعربة باحثة هي الأستاذة خيمة مارتين مونيوث، التي أجرت معها جريدة العرب مقابلة في تلك الآونة، تلاها الدبلوماسي السيد أدواردو لوبث بوسكاتس ويديرالبيت حاليا بكل عناية وجدارة، السفير السيد أنطونيو بيّانا بيرث ، الذي، علاوة علي نشاطه وشديد عنايته، لوحظ ميله إلي العمل الجماعي فبرز إلي جانبه السيد كريم هاوزر العسقلاني، كمسؤول عن برنامج الحوكمة أي التسيير، والسيدة روث بيمانتال كمشرفة عن الإعلام والاتصالات وغيرهما كثيرعامل دؤوب. البرامج والمنجزات: إن ما أنجزه البيت العربي حتي الآن، يضيق عن ذكره هذا المكان، لأنه غزير منوّع معاصر وواقعي، يعكس بحقّ صورة العالم العربي والإسلامي أيضا، بواسطة حلقات متتالية أحيانا، أو عروض بمناسبات، الي غير ذلك ممّا يعرّف بالتاريخ والمجتمعات والثقافات بألوانها. فهناك النشاطات الدائمة، مثل تعليم اللغة العربية ودروس الخط العربي وورشات أعمال يدوية وغير هذا من الأعمال الثقافية. أما المنجزات الأخري فمنها المحاضرات المختلفة المرامي والمواضيع، يلقيها أخصائيون إسبان وعرب غالبا، وغيرهم أحيانا، والندوات والموائد المستديرة، مثل منتدي رجال الإعلام الليبيين الذي انتهت دورته الثالثة والأخيرة قبل حلول شهر رمضان بأيام معدودات. مفكّرون وأدباء كثيرون قدّمت أعمالهم أو قدّموها علي هذا المسرح، آخرهم الفقيد المفكر جمال الغيطاني الذي قدّم روايته مطربة الغروب مترجمة للإسبانية، وكان محفوفا بكبير المستعربين الإسبان الدكتور بدرو مارتيناث مونتابث ومديرعام البيت السيد بوسكيتس. كان ذلك شهرَ يونيو من السنة الماضية وكان آخر ظهورالأديب الكبيرأمام الجمهور، إذ وافه الأجل بعد بضعة أشهر. هناك أيضا إقامة المعارض الفنية لمصورين ورسامين ونحاتين من مختلف البلدان العربية، وأمسيات شعرية كالتي نظمت في شهر مايو الماضي، قدمت أثناءها قصائد الشاعر الليبي الأستاذ محمد الفقيه صالح سفير ليبيا حاليا بإسبانيا باللغتين العربية والإسبانية من ترجمة شاعرتين قرأتا بنفسيهما تلك القصائد. لا يغيب الفن السينمائي فهو مرآة كثيرا ما تكون صادقة لواقع مجتمع المنتج والمخرج، فقدّم البيت العربي ويقدّم خيرة ما أنتج في هذا المجال من مختلف الأقطار العربية. أما المكتبة فهي من أثري مكتبات مدريد ، تعرض للبيع خير ما نشر من الفكر العربي وعنه. بدأ المجال يضيق عن تعداد وذكر ما يقوم به البيت العربي من إنجازات ونشاطات فسنكتفي بما ذكر، ونضيف الرحلات الميدانية التي تنظم تباعا للتعرف علي الآثار العربية الإسلامية في مدريد مثلا ، التي أسسها محمد الأول الأموي وفي غيرها من البقاع، كما نذكر أيضا المصائف والورش واللقاءات الخاصة بالأطفال وعالمهم. خاتمة: هذه نبذة مختصرة منقوصة، عمّا يقوم به البيت العربي من تعريف وعرض وإيصال صورة واقعية، تعكس جلّ مظاهر الحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية بالبلدان العربية والإسلامية، بميزة تلاحظ في كلّ هذا، وهي أنّ ما يقدّم ليس محصورا في مقرّي البيت بمدريد وقرطبة، بل كثيرا ما يقدّم جانب كبير من هذه التظاهرات في مدن أخري كثيرة من شبه الجزيرة الإيبيرية. فالبيت، بما يقدّمه وينجزه، هو حقّا جسر ثقافي متين، يربط بين عالمين ولغتين وثقافتين بل ثقافات، وهو خير وسيلة تعارف وتبادل واستفادة، من أجل التعايش والتعاون في أمن وسلام وختاما أنجز حرّ ما وعد.