من أهم موضوعات الخلاف بين المسلمين والمسيحيين في مصر الآن موضوع بناء الكنائس وترميمها، وقد اجتهدت للوقوف علي أصل التحريم الذي ينادي به الكثيرون، فرجعت للقرآن الكريم باعتباره المصدر الأول للتشريع في الإسلام، فلم أجد آية واحدة صريحة تأمرنا بعدم السماح للمسيحيين ببناء الكنائس أو ترميمها. والآية الوحيدة التي ذكرت فيها الكنائس (الآية 40 من سورة الحج) جاء ذكر الكنائس فيها ذا دلالة جميلة. قال سبحانه وتعالي : »وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا». لقد جمع سبحانه في الآية أماكن العبادة في الأديان السماوية الثلاثة معًا في سياق واحد، وقال إنها أماكن يُذكر فيها اسم الله. فهل بعد هذا تأويلات؟ وفي السيرة النبوية المشرفة وجدت أن النبي صلي الله عليه وسلم استقبل نصاري نجران في مسجده، وسمح لهم بالصلاة فيه، وأعطاهم عهداً لا ينهاهم فيه عن بناء الكنائس أو ترميمها. وقد أوصي صلي الله عليه وسلم بأقباط مصر خيراً، ولم يحرم عليهم بناء أو ترميم الكنائس. يعتمد المتشددون في آرائهم علي العهدة العمرية، التي أعطاها عمر بن الخطاب لأهل بيت المقدس عند فتحها، إذ جاء فيها : » ألا يُحدِثوا في مدينتهم ولا فيما حولها ديراً ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب، ولا يجدِّدوا ما خُرِّب » وقد وردت العهدة العمرية بنصوص مختلفة، بعضها مقتضب وبعضها طويل، مما دعا البعض للتشكيك في الجزء الخاص بأحكام بناء وترميم الكنائس، وأنه قد أضيف للعهدة العمرية بعد عمر. ولما فتح عمرو بن العاص مصر لم يشترط علي المسيحيين عدم بناء الكنائس أو ترميمها، ولم يعترض علي ذلك عمر. وفي عام 170 للهجرة جاء إلي مصر والٍ من قبل هارون الرشيد اسمه علي بن سليمان، وكان رجلاً متشدداً، فأمر بهدم الكنائس التي بنيت بعد الإسلام، فتصدي له فقيه مصري من أعلام الفقهاء، هو الليث بن سعد، وكتب الليث لهارون الرشيد بعزل هذا الوالي لأنه هدم الكنائس، ولم يرد الرشيد كلمة الليث، وأرسل لمصر والياً آخر هو موسي بن عيسي، الذي دخل في حوار مع الليث، وفي هذا الحوار قال له الليث إنه لابد من إعادة بناء الكنائس، لأنها من عمارة البلاد، وانضم إلي الليث في رأيه فقيه مصري جليل آخر، هو ابن لَهيعَة، وقالا للوالي إن الكنائس التي بمصر لم تبن إلا في الإسلام في زمان الصحابة والتابعين. ووافق الوالي علي ما قاله الليث وصاحبه، وأعاد بناء الكنائس. وفي بداية العصر المملوكي زادت حدة التشدد تحت تأثير الحروب الصليبية التي استمرت منذ العصر الفاطمي واستمرت أكثر من مائة عام، فقد ظهر في هذا العصر فقيهان متشددان في موضوع بناء الكنائس وتجديدها، هما ابن تيمية، والسبكي. وللأسف فإن كل المتشددين يرجعون لآرائهما. وفي 1856 أصدر السلطان العثماني الخط الهمايوني المعمول به حتي الآن، وقد جاء في هذا الخط أن إنشاء الكنائس وترميمها لا يتمان إلا بموافقة السلطان. ولأن مصر كانت تحت الحكم التركي فقد خضعت لهذا الخط، إلا أنها كانت تتجاوزه كثيراً ؛ خصوصاً بعد أن أكدت ثورة 19 فكرة المواطنة، ولأن الأحاديث طويلة في هذا المجال فسنكتفي بقصة واحدة ؛ بطلها الشيخ الباقوري، وزير الأوقاف في ظل ثورة يوليو، فقد بلغ الشيخ أن كفر الشيخ ليس بها كنائس فخصص أرضاً من أراضي الأوقاف ليبني عليها الأشقاء المسيحيون كنيسة. هذا هو تراث المصريين في التسامح. لهذا أقول لمن سيشاركون في مناقشة قانون بناء الكنائس : إن مصر في حاجة لمواطنين ذوي خلق وضمير، والكنائس قادرة علي المساهمة في هذا، فليبن الأشقاء كنائسهم وليرمموا ما شاءوا منها، لأن هذا يصب في صالح الوطن وليس ضده.