موقع إلكتروني ولجنة استشارية، البلشي يعلن عدة إجراءات تنظيمية لمؤتمر نقابة الصحفيين (صور)    عُمان تستضيف اجتماع لجنة الشرق الأوسط بالأمم المتحدة للسياحة    البنك المركزي يسحب سيولة بقيمة 3.7 تريليون جنيه في 5 عطاءات للسوق المفتوحة (تفاصيل)    محافظة أسوان تستعد لإطلاق حملة التوعية "اعرف حقك" للأمان الإلكترونى    «القومي للمرأة» ينظم تدريب لميسرات برنامج نورة بسوهاج وأسيوط    الخارجية الإماراتية: لولا الدعم المصري ما استطاع أحد إيصال المساعدات إلى غزة    قبل لقطة كلوب.. كيف خطفت زوجة صلاح الأنظار في كل ختام للدوري الإنجليزي؟    "عبر الفيديو كونفرس".. اجتماع بين اتحاد الكرة وكاف والأهلي بخصوص تنظيم نهائي أبطال أفريقيا    يورو 2024، أول تعليق من راشفورد على قرار استبعاده من قائمة إنجلترا    لست وحدك يا موتا.. تقرير: يوفنتوس يستهدف التعاقد مع كالافيوري    "بشرى سارة لجماهير الأهلي".. قناة مفتوحة تعلن نقل نهائي دوري أبطال أفريقيا (فيديو)    الحماية المدنية تسيطر على حريق محل أدوات منزلية بالجمالية    بها 17 طعنة.. العثور على جثة شاب مجهول الهوية في نجع حمادي    إصابة 5 أشخاص إثر انقلاب سيارة ملاكى بالطريق الأوسطى    جنايات المنصورة تحيل أوراق أب ونجليه للمفتى لقتلهم شخصا بسبب خلافات الجيرة    «الأعلى للثقافة» يُعلن القوائم القصيرة للمرشحين لجوائز الدولة 2024    بهجة العيد وتلاقي التهاني: عيد الأضحى المبارك 2024 على الأبواب    علم فلسطين وحجاب في أبرز إطلالات سابع أيام مهرجان كان    كيف تحمى نفسك من الإجهاد الحرارى؟ وزارة الصحة تجيب فى إنفوجراف    دعاء اشتداد الحر عن النبي.. اغتنمه في هذه الموجة الحارة    «الجنايات» تقضي بإعدام مدرس الفيزياء قاتل طالب المنصورة    الجيش الإسرائيلى يعلن اغتيال قائد وحدة صواريخ تابعة لحزب الله فى جنوب لبنان    مصدر سعودي للقناة ال12 العبرية: لا تطبيع مع إسرائيل دون حل الدولتين    "السرفيس" أزمة تبحث عن حل ببني سويف.. سيارات دون ترخيص يقودها أطفال وبلطجية    تأجيل محاكمة 12 متهمًا في قضية رشوة وزارة الري ل25 يونيو المقبل    أبو علي يتسلم تصميم قميص المصري الجديد من بوما    تعرف على تطورات إصابات لاعبى الزمالك قبل مواجهة مودرن فيوتشر    محافظ أسيوط: مواصلة حملات نظافة وصيانة لكشافات الإنارة بحي شرق    لمواليد برج الثور.. توقعات الأسبوع الأخير من شهر مايو 2024 (تفاصيل)    جهاد الدينارى تشارك فى المحور الفكرى "مبدعات تحت القصف" بمهرجان إيزيس    وزير الري: إيفاد خبراء مصريين في مجال تخطيط وتحسين إدارة المياه إلى زيمبابوي    أمين الفتوى: قائمة المنقولات الزوجية ليست واجبة    هل يجبُ عليَّ الحجُّ بمجرد استطاعتي، أم يجوزُ لي تأجيلُه؟.. الأزهر للفتوى يوضح    مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى.. والاحتلال يعتقل 14 فلسطينيا من الضفة    رئيس الوزراء يتابع عددًا من ملفات عمل الهيئة المصرية للشراء الموحد والتموين الطبي    «الرعاية الصحية» تدشن برنامجا تدريبيا بالمستشفيات حول الإصابات الجماعية    الجامعة العربية والحصاد المر!    «غرفة الإسكندرية» تستقبل وفد سعودي لبحث سبل التعاون المشترك    السيسي: مكتبة الإسكندرية تكمل رسالة مصر في بناء الجسور بين الثقافات وإرساء السلام والتنمية    المالية: بدء صرف 8 مليارات جنيه «دعم المصدرين» للمستفيدين بمبادرة «السداد النقدي الفوري»    «بيطري المنيا»: تنفيذ 3 قوافل بيطرية مجانية بالقرى الأكثر احتياجًا    وزير الأوقاف: انضمام 12 قارئا لإذاعة القرآن لدعم الأصوات الشابة    يوسف زيدان يرد على أسامة الأزهري.. هل وافق على إجراء المناظرة؟ (تفاصيل)    أفعال لا تليق.. وقف القارئ الشيخ "السلكاوي" لمدة 3 سنوات وتجميد عضويته بالنقابة    تفاصيل حجز أراضي الإسكان المتميز في 5 مدن جديدة (رابط مباشر)    في اليوم العالمي للشاي.. أهم فوائد المشروب الأشهر    «الشراء الموحد»: الشراكة مع «أكياس الدم اليابانية» تشمل التصدير الحصري للشرق الأوسط    لهذا السبب.. عباس أبو الحسن يتصدر تريند "جوجل" بالسعودية    هالاند.. رقم قياسي جديد مع السيتي    حفل تأبين الدكتور أحمد فتحي سرور بحضور أسرته.. 21 صورة تكشف التفاصيل    وزير التعليم: مدارس IPS الدولية حازت على ثقة المجتمع المصري    «القومي للمرأة» يوضح حق المرأة في «الكد والسعاية»: تعويض عادل وتقدير شرعي    «ختامها مسك».. طلاب الشهادة الإعدادية في البحيرة يؤدون امتحان اللغة الإنجليزية دون مشاكل أو تسريبات    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي إلى 49570 جنديًا منذ بداية الحرب    اليوم.. «خارجية النواب» تناقش موازنة وزارة الهجرة للعام المالي 2024-2025    مندوب مصر بالأمم المتحدة لأعضاء مجلس الأمن: أوقفوا الحرب في غزة    منافسة أوبن أيه آي وجوجل في مجال الذكاء الاصطناعي    بوتين: مجمع الوقود والطاقة الروسي يتطور ويلبي احتياجات البلاد رغم العقوبات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يا قابل الأعذار
نشر في الأهرام اليومي يوم 21 - 08 - 2015

ألف رحمة ونور علي أم يَذكر لها الابن أن كان من أغلي وصاياها له أن يكون من قابلي الأعذار تبعاً لدعوة المولي لنبيه الكريم إلي الصفح والعفو «فاصفح الصفح الجميل» وقوله تعالى «خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين»، و«والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين»، و«لمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور»، و«من عفا وأصلح فأجره علي الله»، وقول علىّ كرم الله وجهه: «أقيلوا ذوى المروءات عثراتهم، فما يعثر منهم عاثر، إلا ويده بيد الله يرفعه».. وكيف لا يقبل المرء الأعذار والله بجلاله يقبل التوبة عن عباده، فقد فتح لهم باب الرجاء بقوله: «قل يا عبادى الذين أسرفوا علي أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم» ولقد كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يتوب إلي الله تعالي في اليوم مائة مرة، ويطمئن الخلق علي أنه تعالي قابل الأعذار بقوله: «إن الله تعالي يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتي تطلع الشمس من مغربها»... رحم الله الأم التى أنجبت لنا الابن والأب والأخ والقائد والرئيس الذي أحب الحق وهذا الحب اقتضاه أن يبغض الباطل، وأحب العدل وحُبه العدل جعله يكره الظلم، وأحب الخير وحبه الخير أنقذه من أهل الشر، وأحب العمل الذى أبلغه حب الله وحب من يحب الله والوطن.. والله نسألك لحبيب مصر الصبر والسلوان والرضا بقضاء الله ليغدو أحسنكم للناس أعذركم للناس.

الليث.. مفتى الديار
إذا ما كان المؤتمر العالمى الذى نظمته دار الإفتاء المصرية بالقاهرة لمواجهة تدخل غير المتخصصين لإصدار فتاوى تهدد سلامة المواطنين وتؤثر سلباً علي تنمية البلاد.. المؤتمر الذى شارك فيه ممثلون من خمسين دولة فليس غريباً علي مصر رعاية مثل هذا الاتجاه الهادف إلي التعريف بصحيح الدين لكونها وأزهرها الشريف منارة للإسلام الوسطى المعتدل، فضلا عن دورها الرائد في العالمين العربي والإسلامى منذ ارتفع فيها صوت إمامها الوسطى الليث بن سعد «93ه 175ه» سيد الفقهاء الذي اعتذر عن ولاية مصر ليتفرغ للعلم، فنصح الخليفة العباسى المنصور أهل العلم في سائر الأمصار الذهاب إلي الفسطاط لتلقى العلم عن الفقيه المصرى الشاب الذى لم يلق المنصور أفقه منه بالشريعة، ولا أحفظ منه للحديث، ولا أحد منه بصيرة أو أفصح لساناً أو أعدل أو أعفّ أو أوسع علماً بمعارف الأوائل وحكمتهم، ولا قدرة علي الاستنباط، ولا أسلم منه رأياً... ثم أرسل المنصور إلي والي مصر وقاضيها أن يستشيرا الليث بن سعد في كل أمورهما.. وعندما كبر على بعض فقهاء العرب أن يضع المنصور أحد الموالي سكان مصر الأصليين في هذه المكانة فوق الوالي والقاضي العربي، أخذوا يكيدون له لدى الخليفة بأن ابن سعد يستغل رضاه فيتعالي وينشر بأنه أمير مصر، فما كان من المنصور العالم بقدر ابن سعد إلا بتنصيبه كبيرًا للديار المصرية ورئيسها بحيث لا يقضى في مصر شيء إلا بمشورته.. ولم يستخدم الليث تلك الثقة إلا في صالح الرعية، وكان أشد ما يسوؤه من ولاة الأمر أن تصل أحدهم هدية، وكان يجهر بقوله إنه إذا دخلت الهدية من الباب خرجت العدالة من النافذة، وكان لا يغشي مجالس الولاة فإذا ما استدعاه أحدهم يرسل إليه قائلا: «إن مجيئك إلىّ زين لك، ومجيئى إليك شين علىّ»، وقد أخذ على أحد ولاة مصر هدم الكنائس، فكتب إلى الخليفة طالباً عزله لأنه مُبتدع مخالف لروح الإسلام، فعزله الخليفة بجريمته، وأشار علي الوالى الجديد أن يعيد بناء ما هدم من الكنائس، وأن يبنى كنائس جديدة كلما طلب ذلك المسيحيون في مصر لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالقبط خيرًا»، ولأن الكنائس التي كانت قائمة بمصر إنما بناها الصحابة ممن قادوا جيش الفتح الإسلامى، وإجماع مثل هذا العدد من الصحابة هو في قوة السُنَّة.. وبهذا الفكر المستنير انطلق الإمام الليث يعظ المسلمين ويوثق العلاقات بين مواطنيه من مسلمين وأقباط ليكونوا رحماء بينهم، وكانت له هو نفسه صداقات وثيقة مع الأقباط الذين عرفوا صدق الأخوة من المسلمين بحسن إسلامهم.. علي أن هذا كله أغضب المتعصبين فى مواقع التأثير، وما كانوا لينالوا من الإمام وهو حى يملأ الأجواء من حوله بالمحبة والخير ونور العلم، فانتظروا حتى إذا مات وثبوا علي ذكراه، وثاروا علي فقهه، وحاولوا أن يطمسوا كل آثاره، وأن يهيلوا التراب علي آرائه وأفكاره.
حتى أن الإمام الشافعي لم يعثر علي كتاب واحد له عند حضوره إلي مصر، وظل بلا طائل يبحث عن كتاب «مسائل الفقه» الذى كتبه الليث بيده، وكتابه «التاريخ» وكتابه «في التفسير والحديث» وكتبه عن منابع النيل، وتاريخ مصر قبل الإسلام، بما حوى من أساطير وروايات تصور تاريخ الفكر المصري والشخصية المصرية، ولم يعثر الشافعي إلا علي بعض اجتهادات حفظها بعض تلامذة الإمام الذي اغتيل تراثه واندثرت آثاره لم يمض علي رحيله غير ثلاثة أعوام.
الليث ابن قرية «قلقشندة» التابعة لمركز طوخ بالقليوبية، المولود في ليلة النصف من شعبان من العام الثالث والتسعين للهجرة الذى شبَّ علي خضرة الأرض وانسياب النهر ومواكب الطير، ومراكب السمر ورقص الخيل، وعبق الزنابق والنسيم العليل، الذي رأى الدنيا من منظار الجمال فما أن تعلم القرآن وحفظ الحديث حتى روى أول ما روى من أحاديث «إن الله جميل يحب الجمال»، وأرسل الأب واسع الثراء فتاه مليح الوجه متوقد الذهن ابن القرية ليخوض ليل الفسطاط المضيء بالثقافة والمعرفة، فاتجه إلي جامع عمرو منارة العلم حيث لم تزل باقية إشعاعات دروس أبى ذر الغفارى وعبدالله بن عمرو وسائر الصحابة الذين جاءوا إلي مصر منذ الفتح الإسلامى وعلموا الناس أمور الدين وفقهوهم بالقرآن والسُنة، ليتردد في جنبات الجامع الكبير أسلوب مصرى خاص لتلاوة القرآن يختلف عن أساليب تلاوته في العواصم الإسلامية الأخرى، وفي جامع عمرو حلقات كثيرة لدراسة القرآن وتفسيره ودراسة الأحاديث والسُنة والفقه ترك فيها كل صحابى أثرًا إلي جانب حلقات لدراسة كل ما كان في مصر من معارف الأقدمين.. وكانت اللغة القبطية لم تزل حية لتنقل الإعجاز المصرى القديم في علوم الفلك والطب والرياضيات والطبيعة والهندسة، وتراث اليونان والرومان وغيرهم إلي اللغة العربية التي لم تكن قد انتشرت في مصر، فالقبطية كانت السائدة، ولكن الليث كان يتقن اللغتين العربية والقبطية إلى جانب اليونانية واللاتينية مما أتاح له في شبابه ثراء فريدا في جميع ميادين الثقافة.. وفي بحثه الظامئ عن أسرار المعرفة أدرك أن النصوص ليست ظاهرًا فحسب.. وليست مجرد كلمات بل هى روح لها دلالات وفحوى وعِلل، وإذن فالذي يتقن العربية يفهم النصوص وروحها، والأحاديث النبوية تفسر كثيرًا من نصوص القرآن، وفهم الأحاديث يقتضى أيضاً فهم أسرار اللغة العربية وروحها، وليس كل عربي بقادر علي إدراك معانى الأحاديث أو فهم ما أنزله الله بلسان عربى مبين، فهذا الأمر يستلزم إتقاناً خاصاً وتذوقاً خاصاً للغة، ومن هنا عكف الليث بعد حفظه للقرآن والأحاديث علي حفظ الشعر العربي الذى قيل قبل نزول الوحى وخلال نزوله ليدرك أسرار اللغة جميعاً، ولكم نصح الليث مستمعيه أن يخرجوا إلي البادية فيتعلمون «كلام هزيل» ويحفظون شعرهم، فهزيل أفصح العرب، وشعرهم عامر بكنوز اللغة، وقد استشهد الليث بأشعارهم في تفسير بعض كلمات القرآن, وعاش يتغنى بما يروق له من الشعر بصوته الجميل، علي أنه قرر وهو يحضر حلقات الشيوخ أن يتخذ له مذهباً وسطياً بين أهل النصوص وأهل الرأى.
ويسمع الليث عن شهرة العالم شهاب الزهرى بالمدينة، فيقرر السفر إليه ليتزود منه علمًا ولكنه يفاجأ بموت أبيه وعليه التزام بإدارة ثروة الأسرة الواسعة، وما يكاد يتولي الزمام حتى يأمر الوالي بهدم بيت الأسرة فيعيد الليث البناء، فيهدمه الوالي مرة أخرى، ويعيد الليث البناء، فيهدمه الوالي ثالثاً ويبيت الليث مهموما من اضطهاد الوالى العربي لأنه قد خرج بأفكاره الوسطية عن طاعة بعض الشيوخ ممن ينحاز لهم الوالي، وتثقل عليه الهموم فيدعو ربه ليزيل كربه بترديد قوله تعالي: «ونريد أن نمن علي الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين»، ولا يشرق الصبح علي صاحبنا إلا وقد أصيب الوالي بالشلل، ليوصي كل من حوله بألا يظلموا الليث بعده.. ويموت الوالي بعد أيام قلائل، ويتهامس الناس لينتشر القول بأن الله قد دافع عن الليث، فالله يدافع عن الذين آمنوا.. ويسافر الليث للحج ليبحث هناك عن العالِم شهاب الزهرى فيجلس إليه ويعجب بعلمه حتى ليمسك له بالركاب في تجواله، وفي الحجاز يتعرف على فقهاء العصر من أهل السُنة وأهل الرأى، ويتبادل الحديث مع الإمام مالك، وكانا فى نفس العمر وقتها حيث كان مالك يكابد الفقر في سبيل طلب العلم، فأخذ الليث يحتال ليمده بالمال حتى أن أرسل إليه مالك طبقاً فيه بلح رطب فقبل الهدية ورد الطبق مملوءا بالدنانير، ليظل بعدها يصل مالك من مصر بمائة دينار كل عام.. وكان الليث بعد رحلة الحج الأولى قد بنى دارًا كبيرة في الفسطاط لها عشرون باباً زرع في وسطها حديقة غناء، وملأ حجراتها بما استطاع الوصول إليه من الكتب والمخطوطات، وفتحها لأصحاب الحاجات، وكان يدعو أصدقاءه إلي الطعام ويخبئ لهم الدنانير في «الفالوذج» حتى لا يحرجهم، وكان يقوم الليل حتى إذا أقبل الفجر خرج على فرسه إلي جامع عمرو يحضر الحلقات ويفتي الناس دون الجلوس في مكان المفتى، وبعد العصر يرتدي أجمل ثيابه ويتعطر ويتمشى علي ضفاف النيل، وعندما سمع مالك بما يصنعه الليث كتب إليه معاتباً: «بلغنى أنك تأكل الرقاق وتلبس الرقاق وتمشي في الأسواق»، فرد عليه الليث بقوله تعالى: «قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعملون».. وظل الليث يرتدى الرقاق ويأكل الرقاق ويقتنى أفخر الدواب ويهدى أصدقاءه منها، وقد أهدى مالك عددًا لا بأس به منها كما تعود أن يهديه كل عام قماشاً من أجود كتان مصر بما يكفيه طوال العام، وكان عند الليث ثياب بعدد أيام السنة فما كان يلبس الثوب يومين متتاليين، ولعل مالك قد اقتنع برد الليث فشرع هو الآخر يعتنى بملبسه ومأكله، ويرتدي الرقاق ويبتعد عن لباس الصوف الغليظ، الذى قال عنه «لا خير في لبسه إلا فى سفر»، علي أن الليث لم يستمتع بطيبات الحياة وحده، وما أكل وحده قط، وكان يُطعم في كل يوم ثلثمائة فقير غير الصحاب وأهل العلم، ومن حلواه كانت الهريسة بعسل النحل وسمن البقر، واللوز بالسكر، وعاش عمره يعطى السائل، وعندما طلبت منه أم قدرًا من عسل لتعالج ابنها في وقت شح فيه العسل أمر بأن تعطى مرطاً من عسل نحو مائة وعشرين رطلا فقال كاتبه: «سألتك قدرًآ أتعطيها مرطا؟!»، فقال الليث: «سألتنا عن قدرها ونحن نعطيها علي قدرنا».. وكانت له ضيعة بالفرما «قرب بورسعيد» يأتيه خراجها، فلا يدخل داره، بل يجلس أمام أحد أبوابها العشرين ليوزّعه صررًا لا يقل ما في كل منها عن الخمسين دينارا، وكانت أرضه الواسعة في قلقشندة وما حولها تدر عليه نحو عشرين ألف دينار كل عام فما يمر العام وعنده دينار واحد إذ ينفق كل دخله بما أحل الله له، ويقتنى أغلى الكتب وأندرها مهما يكلفه في الحصول عليها.. ويسأله هارون الرشيد: يا ليث ما صلاح بلادكم؟ فيجيبه: صلاح بلدنا في رعاية نيلها وإصلاح أميرها، ومن رأس العين يأتى الكدر، فإذا صفا رأس العين صفت السواقي، فأمر الرشيد ألا يتصرف أحد في مصر إلا بأمر الليث بن سعد الذى عاد وأقطعه أرض الجيزة، أخصب أراضى مصر، فتضاعفت ثروته، وكان دخله عشرين ألف دينار في العام فأصبح مائة ألف فازداد سخاءً وبعد أن كان يطعم ثلاثمائة مسكين كل يوم أمر بإطعام مثلهم بعد كل صلاة، ولم ينس نصيبه من الدنيا، فقد روى أحد معاصريه: عدنا مع الليث من الإسكندرية وكان معه ثلاث سفن، سفينة فيها مطبخة وسفينة فيها عياله، وسفينة لضيوفه، وكان إذا ما حضرته الصلاة يخرج إلى الشط فيصلي خاشعاً..
وما كاد يبلغ الثلاثين حتى بدأ يعلم ويفتى.. وقد أحسن تقسيم وقته اليومي فى أربعة مجالس.. فالأول للوالي والقاضى وأولياء الأمور والثانى لأهل الحديث، والثالث للإفتاء للناس عامة حيث يجيب مستوحياً من القرآن، فإن لم يجد لجأ إلى السُنة، وبعدها فإلى النصوص، ثم يلتمس الجواب في إجماع الصحابة وإن كان من رأيه أن إجماعهم نادر، فإن لم يجد اجتهد رأيه لاجئا إلي القياس وإلي العادات والعرف ما لم تخالف نصاً.. أما مجلسه الرابع فكان في داره مخصصاً لحاجات الناس، وقد استقل فقه الليث عن فقه أكبر عالمين في عصره وهما أبوحنيفة النعمان وصديقه أنس بن مالك، وكان قد التقى بأبى حنيفة في مجلس مالك في المدينة، واختلف معه فى كثير من الآراء، وأشهر خلاف كان حول الوقف، حيث كان أبوحنيفة لا يجيزه لأنه يرى فيه حبس المال قيدا وضررا، وبهذا الرأى أخد أحد قضاة مصر فنبهه الليث إلى خطأ هذا الرأى ومخالفته للسنة، ولكن القاضي ظل يحكم بإبطال الوقف، فجاءه الليث مخاصماً فى مجلس القضاء، لكن القاضي رفع المجلس، فكتب الليث إلي الخليفة بشأنه فأمر بعزل القاضي لأنه عندما يخالف الرسول لا يصلح للقضاء.. وكان خلاف الليث ومالك في الفقه مثالا للحرص علي الحقيقة، وشجاعة العالم في مواجهة الخطأ وقدرته علي الرجوع إلي الحق.. قال الليث: أحصيت على مالك سبعين مسألة قال فيها برأيه وكلها مخالفة لسُنة الرسول صلي الله عليه وسلم وقد اعترف بأنه أخطأ فى بعضها، ومن هذه المسائل: أن الجنين يستقر في بطن أمه ثلاث سنوات وهذا مخالف للعقل والعلم والطب.. وليس في الشرع ما يخالف العقل، ورأى مالك هذا يفتح باب الفساد للنساء اللاتى يغيب عنهن الزوج بالطلاق أو الوفاة أو السفر أو لأى سبب آخر.. ولقد تقبل مالك نقد الليث ولم يعد يفتي بهذا.. ومن الاختلافات بين فتوي مالك والليث كان في مسألة الكفاءة في الزواج، ف«مالك» يعتد بالنسب، فلا يصح لديه زواج القرشي بغير القرشية، أو العربي بغير العربية، أما الليث فالمعول عنده علي الإسلام، فكل مسلم كفء لكل مسلمة، والقول بغير ذلك يخالف القرآن «إن أكرمكم عند الله أتقاكم» ويخالف الحديث: «لا فضل لعربي علي أعجمى إلا بالتقوي».. ولقد كان الليث ومالك يتحاوران حول ما يختلفان فيه، على ضيق مالك بالمناظرة، وكثيرا ما كانا يتبادلان الرسائل حول المسائل المختلف عليها، وقد لا يرد مالك علي بعض آراء الليث الذى يفهم من عدم الرد أن صاحبه قد عدل عن رأيه.. ومنها أن الإمام مالك أجاز ضرب المتهم بالسرقة للحصول علي اعترافه حماية للأموال، مما يحقق مصلحة عامة هى أولي بالرعاية من مصلحة المضروب! ويتساءل الليث عجباً عما إذا ثبت أن المتهم برىء؟! فإن حماية البرىء أولى من عقاب المذنب، ولأن يفلت عشرة مذنبين خير من ظلم برىء واحد، ثم إن الضرب في ذاته عقوبة لا يقضي بها إلا بعد ثبوت الجريمة، وإلا فالضارب والآمر بالضرب ومن أفتي بجوازه.. كلهم مسئولون.. كما اختلف الصديقان مالك والليث في حكم الشركاء في القتل.. فذهب مالك إلي قتل جميع الشركاء كالفاعل الأصلى.. وهذا هو القصاص.. أما الليث فرأى أن هذا يخالف روح آيات القصاص، فالمقصود بالقصاص هو الفاعل الأصلي، وعقابه في جريمة القتل هو القتل، أما الشركاء فالحبس مدى الحياة حتى الموت.
الليث بن سعد لم يكن يحدِّث بكل ما يعرف من أحاديث، بل يختار ما يطمئن إلي صحته، ولم يكن يكتب كل ما يتحدث به فقيل له: إنا نسمع منك الأحاديث التي ليست في كتبك.. فقال وكان علي ظهر مركب لو كتبت ما فى صدرى في كتبى ما وسعه هذا المركب.. وكان يعدل عن الرأى إذا تبين له أنه أخطأ وأن هناك رأياً أوجه منه.. تكلم مرة في مسألة فقال له أحدهم: في كتبك غير هذا؟! فقال الإمام الليث: «في كتبنا ما إذا مر بنا هذبناه بعقولنا وألسنتنا».. وظل الشيخ يعلم الناس ويعين الآخرين ولم ينقطع يوما عن حلقته في مسجد عمرو أوفي بيته حتى بلغ الثانية والثمانين ليرحل في ليلة النصف من شعبان عام 175ه تماما في مثل الليلة المكرمة التى ولد فيها عام 93ه.. ويبكيه المصريون أحرّ بكاء ولكن ماذا يجدي البكاء عليه بعد أن أضاعوه!! ليقول عنه الإمام الشافعي الذى قام بزيارة قبره بمجرد استقراره في مصر ليتساقط ومعه حزنا عليه قائلا: «كان الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه ضيعوه، وهو الذى حاز أربع خصال يكملن صرح العالم الجليل: العلم، والعمل، والزهد، والكرم».... وها هى مصر التي أنجبت الليث يوماً فأفتي بالوسط تستقبل اليوم علماء من خمسين دولة علي أمل ألا يضيع بينهم فقه الليث المصري الوسطى..

الحَرُّ
بعدما جلست أكتب عن معاناتى من الصهد المقيم وضعت قلمى جانبا فقد طمس العرق زجاج نظارتى، وسقط فوق أوراقى يعوّم السطور ويذيب الصمود، فلجأت إلي شلال المشاعر يوسف إدريس الذى عانى فصمد فكتب فوصف الحر يوماً كما ينبغى أن يوصف:
«الحرارة 43، 44، 45 موت وهلوسة واستسلام كامل للحر، الحديث يتناقص إلي كلمات، ثم إلي أنصاف كلمات، كالأغانى الأخيرة لصباح ونجاح سلام: آه.. أيي.. ياه. الملابس تخلع وتلقي قطعة وراء قطعة. المدير العام يلهث محشورا في البانيو، ووكيل الوزارة يهوى علي زوجته المسورقة، وامرأة المعلم برعى تقول له أيوه روح اتهوى عني يا شيخ. ويصبح الناس عرايا تماما في منازلهم. ويظن كل منهم أنه هو الوحيد العارى، ولو قدر للحيطان أن تختفي لمات الناس من الضحك علي بعضهم حين يرون أنفسهم ملايين العرايا في مختلف الأوضاع، الراقد علي البلاط، والرافع ساقيه، والممدد علي بطنه، وأشكال لا أول لها ولا آخر من الأجساد.. أجساد أحيانا أنصافها العليا لرجال وسيدات، والسفلى أحيانا لأفيال. أجساد دائخة تنتظر غروب الشمس وكأنها تنتظر موعد الإفطار في رمضان، رءوس مدلاة مصدعة وكأنها منفوخة بدخان الأعصاب التي احترقت.
وتغرب الشمس، ومع هذا تزداد الأرض التهابا، وتتفتح ملايين الأبواب وتخرج ملايين الناس هالعة كالدجاج الذي طال حبسه، زاحفة إلي النيل، مستعرضة فيه، طالبة حمايته.
ومع بدء الظلام الحقيقي تبدأ الحرارة تتقهقر رغما عنها كالجيش العنيد، وتبدأ الألسنة تتحرك وتقول موت، ثم نار، ثم الدنيا لسه حر، ومن جديد تبدأ الخناقات ثم تنخفض الحرارة درجة فتصبح أحاديث.
وهناك بعد منتصف الليل بكثير، تهب نسمة واحدة فقط.. يستقبلها سهران مثلى فيتثاءب مغتبطاً وكأنه نجا من موت محقق ويقول: ياه أما كان يوم!..»..

جمال الغيطانى
ما من شيء في السفر يثير عنده الحنين مثل عبور القناطر والجسور خاصة تلك المحتفظة بطابع القدم والعتاقة، والجسر لدى الكاتب القدير النادر جمال الغيطانى يعنى همزة الوصل بين عالمين.. بين ضفتين.. بين حياتين.. الجسر لديه رمز للاستئناف.. واليوم يا جمال الأدب والكلمة والعبارة والرواية والفكر والأسفار والتفرد والسرد والأسلوب والإبداع والتجربة والنفاذ إلي الجوهر والإمعان في النظر إلى لب الأشياء، وصحبة المكان والجدران والنخل والنجمة والحجر وأشعار التصوف وحى الحسين والآفاق والرؤى والطقس اللغوى المتميز وعشق التفاصيل والتجليات ووقائع الزمان.. اليوم يا جمال ندعوك لعبور جسر الغياب والابتعاد والتنائى والترحال والخطر، لواقع الحضور والإفاقة واليقظة والصحو والصحة والمشاركة والحوار الشيق.. يا جمال ضمد جراح القلب المفتوح وافتح لنا نوافذ الآمال المورّقة وعد إلينا كما عودتنا.. عد إلينا بكامل أدواتك وأبعادك وحقائبك ومخطوطاتك فأسفار المشتاق قد طالت والجمع في انتظارك علي أرض المحطة علي أحر من الجمر، فشدة الإعجاب بك قائمة علي حالها، ودعوات الشفاء لك تسرى في أوصال قرائك نحن المصريين والعرب..
[email protected]
لمزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.