عامان علي رحيل الأستاذ الفنان مصطفي حسين، مؤرخ حياة المصريين 16 أغسطس 2014 هذا التاريخ الذي ترك حزنا وألما في نفوس كل محبيه.. مازالت رسوماته تمر أمام عيوننا نتذكرها فنبتسم .. نعم عندما أشاهد رسوماته التي رسمها منذ أكثر من عشرين عامًا أضحك وكأنني أشاهدها لأول مرة .. بالفعل كان ينتزع الضحكة من قلوبنا حتي وقت الألم ومن منا لا يتذكر فلاح كفر الهنادوة وقاسم السماوي ومطرب الأخبار وعباس العرسة وكمبورة .. شخصيات عاشت معنا وحفظها عن ظهر قلب كل عاشق لجريدتي الأخبار وأخبار اليوم .. ولن أبالغ حينما أقول إنك تستطيع أن تقرأ ملخصا لتاريخ مصر من خلال كاريكاتير مصطفي حسين .. نعم كان يلخص مشاكلنا وهمومنا بريشته الساخرة وبأسلوب يعكس ما يدور في الأذهان تجاه قضايانا المتعددة وتكون دلالاتها أوسع وأشمل . ذكرياته وحكاياته مع رؤساء مصر من مذكرات مصطفي حسين التي رواها لمجلة آخر ساعة في أبريل عام 2000 يقول: وأنا في نهاية المرحلة الثانوية علمت أن الرئيس محمد نجيب سيزور الجمالية حيث كان مقر سكني وتم تكليفي برسم لوحة لمحمد نجيب لتظهر أثناء الزيارة وبالفعل قمت برسمها .. وتم مكافأتي أنا وأحد أصدقائي بتناول وجبة كباب عند العجاتي وكان هذا هو أول أجر أتقاضاه في حياتي عن لوحة أرسمها وكنت أشعر بالخجل الشديد في ذلك الوقت . أما الرئيس جمال عبد الناصر فحكايتي معه كانت طويلة وتبدأ عندما كنت طالباً بكلية الفنون الجميلة وطلب مني أستاذي عبد السلام الشريف أنا وبعض الطلبة رسم بعض اللوحات لتعرض في المعرض الزراعي الصناعي الذي سيفتتحه الرئيس جمال عبد الناصر ويقول مصطفي حسين كنت قبل المعرض قد رسمت صورة لعبد الناصر وفي خيالي أن عبد الناصر سوف يدخل المعرض ويتوقف أمام لوحتي ويسأل عن الذي رسمها ويحييني ويعطيني نيشان .. ولكن هذا لم يحدث ! ويكمل مصطفي حسين : أما الموقف الذي لا أنساه عندما رسمت غلافا لمجلة التحرير بتكليف من رئيس تحريرها سامي داود حينما طلب مني عمل بورتريه لعبد الناصر وسهرت أرسم الصورة وكان معروفا أن الرئيس عبد الناصر توجد حول عينيه هالات غامقة شوية وكان لابد لي تأكيد هذه الهالات في الرسم .. وبعد رسم اللوحة وتسليمها للمطبعة كانت الطباعة رديئة جداً فظهرت الهالات السوداء وكأن عبد الناصر تلقي بوكسا في عينيه .. وتسبب هذا الغلاف في إقالة رئيس التحرير . وطردي من المجلة ! وعن حكايته مع السادات يقول : كان الرئيس مسافراً إلي أمريكا وصادف يوم السفر يوم شم النسيم في مصر وهذا اليوم تمتلئ فيه شوارعنا بروائح البصل والفسيخ والسردين وفي تلك الأيام كان هناك موضوع شائع (اكتشاف الروائح عن بعد ) وجاءت الفكرة .. بالربط بين كل هذه الأشياء وسفر الرئيس لأمريكا وجاء تعليقي بالرسم ( أمريكا تستقبل رائحة عفنة عن بعد ) وكنت أعني رائحة الفسيخ والبصل ونشر الكاريكاتير لسوء الحظ في نفس يوم سفر الرئيس لأمريكا وشاهد الكاريكاتير بالطائرة ولكن كان وعي السادات للأمور كبيراً ومر الموقف بهدوء . أما عن موقفه مع مبارك فيقول : في أحد أعداد مجلة كاريكاتير قمت برسم غلاف لمبارك وهو يرتدي شورتا وشبهته بالحَكَم .. وللأسف رفض وكيل الوزارة نزول العدد إلي السوق وأصرعلي موقفه إلا إذا تم إرسال العدد للرئيس للخروج من هذا المأزق , وبالفعل قام الدكتور مصطفي الفقي بعرض العدد علي مبارك الذي ابتسم عند مشاهدة الغلاف ووافق علي النشر بدون أي تحفظات . . واستمر عطاء مصطفي حسين بعد ثورة يناير 2011 وبرع في التصدي لسلبيات الإخوان عبر رسومه الكاريكاتيرية اللاذعة .. ولا أبالغ عندما أقول إن رسوماته كانت دافعا قويا لثورة 30 يونيه التي جاءت بالرئيس عبد الفتاح السيسي . بيكار ينقذه من مفرمة هيكل ! كان مصطفي حسين يعشق أستاذه حسين بيكار الذي يعتبره مثله الأعلي ولم لا وهو من تنبأ له بالنبوغ عندما كان طالبا بكلية الفنون الجميلة .. ولكن هناك سببا آخر كان يحتفظ به مصطفي حسين لنفسه فعندما تولي محمد حسنين هيكل رئاسة مجلس ادارة أخبار اليوم في منتصف الستينات بجوار رئاسته لمجلس إدارة مؤسسة الأهرام ذهب إليه بيكار ليهنئة علي المنصب الجديد فقال له هيكل إنه يريد أن يختصر عدد العاملين بأخبار اليوم وسوف يبدأ بالرسامين وطلب من الفنان بيكار كشفًا بأسماء الرسامين وكان يضم الكشف آنذاك أسماء كبيرة أشهرها صاروخان ورخا ومنير كنعان وتلاهم مصطفي حسين أصغر الرسامين سنا واقترح الأستاذ هيكل الاستغناء عن مصطفي حسين .. وكان رد بيكار كالصاعقة : ممكن ترفدني أنا ولكن مصطفي حسين لأ .. ده هايبقي أهم رسام في مصر , فرد هيكل : لهذه الدرجة .. ووافق علي استمرار مصطفي حسين الذي بالفعل كما تنبأ بيكار أصبح علامة في تاريخ الكاريكاتير والصحافة المصرية والعربية والعالمية .. ويقول بيكار عن مصطفي حسين : إنه انسان من الصعب اكتشافه فهو لديه طموح يفوق طموحات طلبة الكلية إذ تعدي التخصص الأكاديمي الي الجماهيري من خلال الصحافة .. يتمتع بنبوغ لا ينضب وقد فرض نفسه دون الحاجة الي مساندة من أحد وأنا سعيد بأنني كنت واحدًا من أساتذته وبكل حب أقول إن قول مصطفي حسين إنني من اكتشفته هو تواضع منه ! غرامة اجتماع أحمد رجب كان اجتماع مصطفي حسين مع توأمه الكاتب الكبير مصطفي حسين يوميا بمكتب الأخير في الساعة الثانية عشرة ظهرا وكان هذا الموعد بمثابة الأسرار العسكرية التي لا يجرؤ أحد علي اختراقها .. ساعة كاملة يجلسان معا ليخرجا لنا كاريكاتير ينتزع مننا الضحكة وأحيانا الألم .. وفي أحد الأيام شاهدت مصطفي حسين ينزل من عربيته قبل الوصول لمبني الأخبار بسبب ازدحام الشارع وتكدس السيارات به وبالفعل ترك السائق وكان يخطو بسرعة لمحاولة اللحاق بالموعد المحدد مع الكاتب أحمد رجب وعندما سألته عن هذا الموقف رد بصوت منخفض وبابتسامة أن أحمد رجب اتفق معه علي دفع غرامة عن كل دقيقة تأخيرا عن الموعد المحدد !! مجلة كاريكاتير كنت أعشق مجلة كاريكاتير التي كان يرأس تحريرها مصطفي حسين في التسعينيات وكان مستشارها الفني حسم حاكم وكنت أعشق هذه المجلة وأنتظر صدورها بفارغ الصبر بل إنني كنت أحجزها قبل أن تأتي للبائع خوفا من عدم اللحاق بها .. وتمر الأيام والسنين وأكلف من قبل مصطفي حسين بعمل الإخراج الفني لتلك المجلة بعد أن أعاد إصدارها عام 2001 وبشكل جديد وكان في ذلك الوقت هو رئيس مجلس الادارة ورئيس التحرير وهذا ساعدني كثيرا من الاقتراب من تلك القامة ومشاهدته عن قرب والتعامل معه شبه يومي لمدة تجاوزت العشرين عاما في العمل معه بالمجلة وأعمال أخري كنت أكلف منه بعملها داخل دار أخبار اليوم .. في تلك الفترة شاهدت انسانيته في التعامل مع البسطاء وتذليل العقبات لهم والتوسط لدي الآخرين من الكبار لخدمتهم .. فهؤلاء تجدهم يملأون مكتبه كل يوم ولا أبالغ عندما أقول إنه لا يعرفهم جيدا ولكن بابه كان دائما مفتوحا لكل من يقصده .. شاهدته يتوسط لعلاج من يحتاج علاجا علي نفقة الدولة وشاهدته يتوسط لدي الوزراء لعمل فلان في احدي الوظائف .. هذه انسانية مصطفي حسين التي لا يعرفها الكثيرون عنه . يشعر بسعادة وهو يرسم للأطفال تميز مصطفي حسين عن أقرانه من فناني الكاريكاتير بتمكنه وبراعته في رسوم قصص وكتب الأطفال وكان دائما يردد أن متعته الكبري عندما يرسم للأطفال فكان يشعر بسعادة غامرة بل وكان يتمني التفرغ تماما للرسم لهم , وقد قدم في هذا المجال الكثير والكثير ويعد كتاب "أنا" للكاتب فؤاد فواز أول كتاب رسمه وحصل علي جائزة الدولة عن هذا الكتاب , كما قدم مع الكاتب أحمد بهجت مجموعة قصصية بعنوان "قصص الحيوان" كما قدم سلسلة كتب عن جحا وألف ليلة وليلة .. وغيرها .. رحم الله الفنان الأستاذ مصطفي حسين الذي سنحتاج لوقت طويل كي نشاهد فنانا بموهبته وقامته الفنية .