تشيع في الحياة الثقافية والنقدية والفكرية والسياسية كثيرا فكرة التصنيفات الجيلية أو الفئوية، وتظلّ تعمل لفترة ما حتي تأتي فكرة أخري، لتزيح الفكرة القديمة وتحل مكانها، وذلك دون مراجعات نقدية ذات معايير عادلة أو واسعة، لتستطيع قراءة الواقع الأدبي والثقافي والفني في استقامة تشمل كل التفاصيل التي تتكون منها الحياة الأدبية والثقافية. وفي ظل ذلك التصنيف والتعميم، تسقط أسماء مهمة وفاعلة ومؤثرة وإيجابية، وللأسف فالنقاد لا يراجعون التاريخ الأدبي والثقافي بشكل حصري، وأنا لا أعيب ولا ألوم ولا أعتب، لأنني أعلم أن هذا الرصد والمسح النقدي الشامل، لا بد أن يأتي عن طريق المؤسسات الثقافية التي وصلت أمورها إلي حد يكاد يكون مأساويا، رغم أن لدينا دارا للكتب والوثائق، وهذه الدار لها بناية ضخمة، ويجلس علي هرمها رئيس مجلس إدارة، وفيها أقسام عديدة، وبها موظفون محترفون، ولكن تلك الدار تفتقر إلي ألف باء العمل البحثي الواسع والمسئول، رغم التتالي الوظيفي لرؤساء مجلس إدارتها مرحلة بعد أخري، وأعتقد أن هؤلاء الرؤساء يظلون طوال فترات عملهم، مشغولون بقضايا جانبية، وبالتالي لا يقدرون علي الوصول إلي الحلول الحاسمة، والتي شرحناها وصرخنا من أجلها منذ عهود قديمة. وهنا لا بد أن أشير إلي تجربة سابقة، وكانت جديرة لكي تحمل علي عاتقها بعض الحلول، وذلك عندما الدكتور جابر عصفور وزيرا للثقافة في فترته الثانية، وكان الصديق والكاتب الصحفي الأستاذ حلمي النمنم رئيسا لمجلس إدارة دار الكتب والوثاق، وكان الدكتور عصفور يتابع ما أكتبه في جريدة التحرير يوميا في ذلك الوقت، وكان بين الحين والآخر يهاتفني مبديا بعض الملاحظات الإيجابية أو السلبية حول تلك اليوميات، ولكنه كان حريصا علي تحريضي علي الكتابة، حتي أن هاتفني ذات يوم ليخبرني بأنه يريد أن يشكّل كيانا للحفاظ علي ذلك التراث المهدور والمهجور والغائب، واختار عنوانا مبدئيا لذلك الكيان، وهو "مركز الأدب العربي الحديث"، أو مايشبه ذلك، واجتمعنا بالفعل في مكتبه في المجلس الأعلي للثقافة بحضور الأستاذ حلمي النمنم، والدكتور والمخرج السينمائي محمد كامل القليوبي، والدكتورة والأديبة عزة كامل، والمستشار القانوني، وكان هذا تشكيلا أوليّا قابلا للإضافة بالطبع عند الشروع في التفيذ، ورحنا في الاجتماع نضع التصورات الممكنة لإنشاء كيان قوي لحفظ التراث الثقافي عموما، ونشره، وإعداد ببلوجرافيات قوية لذلك التراث، وعقدنا اجتماعا آخر في مكتب الأستاذ حلمي النمنم آنذاك، وقررنا أن نبدأ بجمع تراث الكاتب والأديب الكبير الراحل عبد الفتاح الجمل، وحضر معنا ابن شقيقه "عوضين الجمل"، وكانت هذه أولي الخطوات، وكان اجتماعنا في الصباح، وعندما عدنا إلي بيوتنا جاءت مفاجأة إقالة أو إعفاء د.جابر عصفور من منصبه، وتولي بعده الدكتور عبد الواحد النبوي، فلم يحاول أحد منا استكمال المشروع، حيث إنه كان مبادرة من الدكتور جابر عصفور الذي كان وزيرا للثقافة، وبالطبع ذهب الأمر إلي طيّات التجاهل أو النسيان أو الإهمال. وبالطبع ستظل الحياة الثقافية تسير وفقا لأهواء وأمزجة من يتولون الوزارة أو المؤسسات، وبالتالي تلعب الأبعاد الشخصية دورها الكبير في استبعاد أو استقطاب أو تنصيب هذا أو ذاك بعيدا عن الخبرات والكفاءات، وهذا يعيدنا مرة أخري إلي الخيارين القديمين بين أهل الثقة أو أهل الخبرة. يبدو أن تلك الحكاية السابقة خارجة عن سياق مانكتب وما نريد إثارته، ولكنني أري أنها حكاية مرتبطة ارتباطا وثيقا بمتن موضوعنا، وهو التأريخ الأدبي العشوائي والمزاجي، والذي يرتبط بالمناسبات السياسية التي تطرأعلينا بين الحين والآخر، فيبدأ النقاد والصحفيون وأساتذة الجامعات واللجان النوعية في البحث عن ما يربط المناسبة السياسية بما جلبته تلك المناسبة من كتابات أدبية، والمناسبات تبدأمن حفر قناة السويس إلي ثورة يوليو ثم قاصمة الظهرفي 1967، حتي حرب أكتوبر، وصولا إلي 25 يناير وما يجد دائما، وبالطبع فأي بحث يعمل تحت الإلحاح المناسبي لا يعوّل عليه. وهكذا تضيع كتابات كثيرة ليست مرتبطة بتلك المناسبات، وبالتالي تختفي أسماء ليست مدرجة في الانتصار لحدث بشكل لافت لحدث سياسي ما، وسنجد كثيرا من تلك الأسماء بعيدة عن الدرس النقدي بأي شكل من الأشكال، ولو كانت هذه الأسماء التي نقصدها بعيدة عن تمجيد حدث ما، أو مهاجمة حدث آخر، وسنجد تلك التصنيفات الفئوية أو الجيلية تعمل وفقا لمعايير زمنية خاصة، مثل أدباء جيل الستينيات أو السبعينيات، أو فئوية مثل أدب الفلاحين، والأدب النسوي، أو الأدب النوبي، وهكذا، ومن هنا يبرز كاتبنا الذي نخصص له هذه الحلقة، وهو الكاتب والأديب الراحل محمد صدقي، وقد اختصره النقاد وحبسوه في أديب الطبقة العاملة، ورغم أنه تجاوز كونه يكتب عن العمال، إلا أن النقاد كانوا حريصين علي التعامل معه باعتباره الأديب الذي جاء من صفوف العمال ليصبح أديبا مرموقا. ورغم أن الوطن العربي كان قدم من قبل أو في المرحلة نفسها أدباء ينتمون لتلك الطبقات المطحونة، مثل الكاتب حنا مينا السوري، الذي كانت حياته سلسلة من المآسي، حتي أصدر روايته الأولي "المصابيح الزرق" عام 1954، وانطلق بعدها ليصبح كاتبا مهما في حركة الأدب السوري، وجدير بالذكر أن حنا مينا عمل في كل المهن المتواضعة، ولكنه انسلخ فيما بعد عن تلك المهن، وراح يتفرغ للكتابة، وهناك الكاتب محمد دكروب اللبناني الذي كان يعمل سمكريا، ولكنه كان في الوقت نفسه يقرأ ويكتب وينشر ويجالس الأدباء ويشاركهم في تطلعاتهم، وظلّ دكروب يجاهد حتي صار أحد أدباء لبنان المؤثرين والفاعلين الكبار. ورغم أن الفاعلية ظلّت قائمة بالنسبة للكاتب والأديب محمد صدقي، فقد ترك الماكينة التي تربطه ارتباطا مباشرا بالطبقة العاملة، وراح يكتب عن هذه الطبقة قصصا وحكايات منذ منتصف عقد الأربعينيات، وفي الخمسينيات كان يتشر قصصه في مجلات بارزة مثل "روز اليوسف" و"الجمهورية" و"صباح الخير" وغيرها من دوريات كانت ذائعة الصيت آنذاك، ثم مدّ ظله علي أدباء الأقاليم، وأسّس صفحة لهؤلاء الأدباء فيما بعد، وهناك كثيرون من الكتّاب الذين أصبحوا نجوما فيما بعد يدينون بفضله في إبرازهم، إلا أنهم لم ينتبهوا له بعدما دخل المعتقل في 1959 ليخرج منه في 1964. وكانت مجموعته الأولي "الأنفار" قد صدرت عام 1959، وقدم لها الناقد محمود أمين العالم مقدمة نقدية وافية، وشارك في إخراجها فنيا ورسم اللوحات المصاحبة للقصص نخبة من الفنانين الشباب والراسخين الذين كانوا ملء السمع والبصر آنذاك منهم صلاح جاهين وحسن فؤاد وأبوالعينين وجمال كامل وهبة وجورج ومحمد القصاص ومصطفي حسين وجاذبية سري وحسن حاكم وهنري صمويل وغيرهم، وركز محمود العالم في دراسته علي أن محمد صدقي هو أديب الطبقة العاملة الذي ترك ميدان العمل اليدوي، ليلحق بالعمل الأدبي والصحفي ليكتب عن أبناء طبقته، وألمح العالم إلي المنحي الواقعي الذي يتضح بقوة في عوالم صدقي القصصية، ف:"إن واقعية هذه القصص كما يقرر العالم في حركة الواقع الذي تعبر عنه، وفي خصوبة المجاهدة والتفاؤل والإصرار الذي تتوج نهايتها"، ورغم أن المقدمة جاءت عاطفي علي كتابة محمد صدقي القصصية، إلا أنها لم تضعه في مصاف من كانوا يكتبون في ذلك الوقت، وأخصّ بالذكر يوسف ادريس الذي كان قد أصدر مجموعته الأولي "أرخص ليالي" في أغسطس 1954، ونجد أن محمود العالم يضع بضعة ملاحظات سلبية في نهاية الدراسة التي تجاوزت الثلاثين صفحة فيقول :"إلا أن هذه القصص تتعثر أحيانا في بعض المآخذ التي تكاد تصيب في بعض الأحيان مضمونها الاجتماعي المشرق.."، ويستطرد العالم في رصد تلك المآخذ التي تكاد تمحو المميزات التي ذكرت في متن المقدمة النقدية. وكان الكاتب والمفكر سلامة موسي كتب في يومياته المنشورة في جريدة الأخبار عام 1956مقالا عن المجموعة وأثني عليها وأبرز قصة حياة محمد صدقي السابقة علي كتابته، ووجد فيها عبرة لمن يريد الالتحاق بقطار الأدب تلك الحياة التي: "خرج منها علي إصرار، فلم ييأس وهذه القصص هي إصرار علي الانسانية والشرف والكفاح، وهي تصف لنا حياة الكفاح بين المساكين والمحرومين من عمالنا.."، ورغم أن سلامة موسي يذهب مثلما ذهب العالم في الحديث عن حياة محمد صدقي أولا قبل قصصه، إلا أنه قد أخذ علي العالم نشره تلك المقدمة في المجموعة ذاتها، ولم ينشرها في إحدي المجلات التي من الممكن تعمل علي التعريف الأمثل للأديب محمد صدقي. وكان التركيز علي حياة صدقي أكثر من التركيز علي دراسة قصصه، للدرجة التي صاحبت سيرته الذاتية التي تعبر عن شقاء الكاتب المجموعة الأولي "الأنفار"، ثم المجموعة الثانية "الأيدي الخشنة"، والتي صدرت عام 1957، وشارك في إخراجها فنيا فنانون مرموقون مثلما كان في مجموعته الأولي، وكانت السيرة الذاتية المصاحبة تقول في مطلعها :"طرد من المدرسة وهو في السابعة من عمره لعدم قدرته علي سداد المصروفات، فاشتغل منذ طفولته منجداونجاراواسترجيا وأثناء ذلك كان يحفظ القرآ ثم التحق بالمعهد الديني بالاسكندرية.. ترك الريف إلي دمنهور .."، وهكذا تسترسل السيرة في رصد حياة محمد صدقي الاجتماعية، لتبرزها بشكل يشغل القارئ أكثر من القصص ذاتها. ولكن محمد صدقي يواصل العمل بالكتابة والصحافة، فينشر تحقيقات أدبية واسعة في مجلات وصحف الانتشار مثل "صباح الخير"، و"الجمهورية"، و"المساء"، وتثير تحقيقاته وحواراته التي كان يجريها مع أدباء من طراز نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، ومقالاته، قدرا واسعا من اهتمام القرّاء، إلا أن حياة محمد صدقي الاجتماعية نفسها تظل هي المحور الذي يتركز حوله أي تناول لكتابات محمد صدقي الأدبية، رغم أنه تجاوزها، وكانت قصصه _من وجهة نظري_ تنافس في فنياتها قصص أعلام تلك الفترة، وأعتقد أن ذلك الرقي الفني منذ مجموعته الأولي "الأنفار". والأدهي من ذلك أشاع بعض الخبثاء أن اليساريين وضعوا محمد صدقي في مصاف كتّاب عالميين، وقالوا بأنهم بشّروا به علي اعتبار أنه "جوركي مصر"، رغم أن ذلك لم يحدث، ولا نعثر علي ذلك التبشير أو تلك المقارنة في دراسة محمود العالم النقدية، ولم يشرمن بعيد أو قريب لتلك المقارنة، ولكننا نقرأ لكتّاب ونقاد كبار فيما بعد أن تعبير "جوركي مصر" كان سائدا ومنتشرا، وأعتقد أن هؤلاء النقاد انساقوا إلي إشاعات كانت تطارد محمد صدقي الكاتب القصصي والأديب المرموق، لذلك لم يلتفتوا إلا إلي مايكتبه الآخرون عن سيرته الذاتية، واعتبروا أن كتاباته لا تخرج من المصانع والمسابك والورش، رغم أنه كان متجاوزا ذلك إلي آفاق انسانية رحبة، كانت متونا لقصصه كلها منذ مجموعته الأولي والثانية، حتي إبداعاته الأخيرة. وفي مجموعته الأولي _مثلا_ نجد القصة الرئيسية "الأنفار" لا تتحدث عن العمال وقضاياهم، بقدر ماكانت تتحدث عن استبداد رؤساء العمل والعمال في كافة أنحاء الشغول، ويعالج صدقي في تلك القصة تيمة الاستبداد التي تنبتها النظم اللاديمقراطية عموما، وتتسلل تلك التيمة في كل مستويات العمل في كل المجالات، وتتجسد تلك التيمة في طريقة عبد الوهاب الذي يجرّب آلته القمعية مع العمال في الخصومات التي يمكن أن تنالهم من جراء تمرداتهم العادية. وإذا كان ذلك هو المضمون الاجتماعي للقصة، إلا أن القصة تنطوي علي قدر كبير من الاستخدامات الفنية التي كانت جديدة في ذلك الوقت، فكان الونولوج والديالوج والتكثيف آليات تعمل بقوة واضحة ن هذا فضلا استخدام الفلكلور بشكل مثير للطرب والاستمتاع الفني الخاص جدا، وبرع محمد صدقي في ذلك علي مدي تاريخه الفني كله، لدرجة أنني أعتبر أن إبداعاته عموما حقلا واسعا لدراسات شعبية وفلكلورية ثرية، وهذا يعود للتضفير الطبيعي وليس المفتعل للتراث الفلكلوري كما هو، دون أن نشعر بأن ذلك التراث صار دخيلا علي النص، ففي تلك القصة نجده يضع الأغنية الفلكلورية عن مقتل ياسين في موقع درامي من القصة، أي عندما كان المشرف يمرّ بجوار العمال، مكشّرا عن أنيابه، فماكان من العمال إلا ترديد أغنية ياسين بشكل شبه رتيب ولكنه كان مثيرا، وينقل محمد صدقي الأغنية الشعبية بمنطوقها الشفاهي الصحيح، فيكتب : (ياباهية وخبريني . عااللي كتل ياسين فيردون عليه بأصواتهم العريضة وسواعدهم، والفئوس _عاللي كتل ياسين... _كتلوه السوهاجية.. من فوق ضهر الهاجين.. _من فوق ضهر الهاجين _وياسين سايح في دمه.. وخايف منه الحاكيم.. _وخايف منه الحاكيم.. احكم بالعدل ياقاضي.. قدامك مظاليم .. _قدامك مظاليم .. _عوج الطربوش علي شقة.. وحكم بأربع سنين .. _وحكم باربع سنين... _سنتين في السجن العالي.. واتنين في الزنازين.. _واتنين في الزنازين..). ولن نعدم تلك الإمكانيات الفنية العالية التي أهملها النقاد، ليتعاملوا مع سيرة محمد صدقي الاجتماعية والثقافية الشائعة والمنشورة، والتي تأتي تندس فيها _أحيانا_ مالا يوجد فيها، ويؤسفني أن نقادا كبارا انزلقوا إلي التعامل مع تلك السيرة الببلوجرافية دون مراجعة، وعلي سبيل المثال يكتب الناقد الكبير د.عبد المنعم تليمة مقالا يقول فيه بأن محمد صدقي انقطع عن النشر تماما منذ عام 1965 وهو العام الذي صدرت فيه مجموعته القصصية: "لقاء مع رجل مجهول"، وذلك كما نشر في الببلوجرافيات الشائعة عن محمد صدقي، ولكننا سنلاحظ أن قصصا في تلك المجموعة كتبت في أعوام 1967 و1969، وهاهي المجموعة أمامي، ودونت فيها التآريخ بدقة، والأدهي من ذلك أن تلك القصص كانت منشورة في مجلات عربية كبري مثل "المعرفة" السورية، و"الطريق" اللبنانية، وذلك في الأعوام التي ذكرناها آنفا. ورغم أن أستاذنا تلّيمة ينبّه علي ضرورة دراسة أعمال محمد صدقي بتوسع، والالتفات إلي أهمية إبداعاته، إلا أننا كنا نأمل منه أن يقوم هوبذلك، فهو الأجدر والأقرب، وذلك بحكم المنشأ اليساري والفني والثقافي المشترك، لكن نقادنا تركونا لبعض الهواة والمحبين والعاطفين الذين لم يدركوا من عوالم محمد صدقي الفنية إلا القليل، وظلوا معتقدين _بالإشاعة_ علي أنه راح يكتب عن الطبقة العاملة طوال حياته، وكذلك ظنوا بأنه كان حبيس النظرة الاجتماعية المجردة دون مجهودات وتطويرت فنية عالية، وللأسف أن كل أعمال محمد صدقي القصصية مفعمة بأنواع التجريب المختلفة، وكذلك كان قد تجاوز حقل الطبقة العاملة الضيّق، إلي حقول انسانية رحبة، ففي مجموعته الأولي نفسها، نقرأ قصة "أبوجبل"، والتي تحكي عن انكسار قرية "الزرقون"، والتي كانت تخفي البطل الشعبي "أبوجبل"، والذي كان مخيفا وقاهرا لكل أشكال الاستبداد، ورغم أن الحكومة ترصد مبلغا معتبرا لمن يرشد عن أبي جبل، إلا أن أبناء القرية الفقراء يمتنعون عن تلك الخيانة، بل يتم تجريمها دون أن تحدث، ولكن عندما يتم القبض عليه بعد أن داهمت مكانه قوات بوليسية واسعة، تبرز هنا كل إمكانيات الكاتب الدرامية في رسم مشهد استثنائي، يرصد قوات البوليس وهي تقود أباجبل إلي السجن، وبجوارهم أبناء القرية الذين تذمروا وانكسروا لذلك الفعل المشين، مشهد خاص جدا ومثير ومؤثر في القصة، ويطلق الطاقات الفنية الجبارة عند محمد صدقي. ولا أريد أن أحلّ محل النقاد لكي أحلل وأتأمل، رغم أن عوالم محمد صدقي التي مازالت بكرا، ولم يقترب منها ناقد، إلا أنني أهيب بالمسئولين الذين علي رأس مؤسساتنا الثقافية، أن يلتفتوا لذلك الأديب، الذي ظلمه اليمين واليسار والنقاد والمؤسسات، رغم إبداعه العظيم، ذلك الإبداع الذي كتب عنه المفكر الفرنسي مكسيم رودنسون، وكذلك كتب عنه مفكر ومؤرخ فرنسي آخر هو جاك بيرك، وربما يكون هذان المفكران كتبا عنه من زاوية انتمائه اليساري، إلا أنني أطالب باستعادة محمد صدقي العظيم، الذي لا توجد نصوصه بين أيدينا حتي يتضح لنا إبداع واحد من المصريين الشامخين في عالم القصة والثقافة والأدب.