قبيل اندلاع ثورة 23 يوليو عام 1952، كانت تيارات أدبية وفكرية وثقافية عديدة قائمة وفاعلة فى الحياة المصرية، وكانت هذه التيارات تعمل بالتوازى أو بالتقاطع أو بالتلامس مع الاتجاهات السياسية والحزبية فى ذلك الوقت، وإن كان الإبداع لا يعرف مثل هذه التصنيفات، إلا أن النقد كان دوما وما زال يسعى بقوة نحو هذا التصنيف التعسفى. بالطبع كان قوس السياسة هو الأكثر التفافا على كل الأقواس الأخرى، وكان صوت التمرد والاحتجاج والثورة هو الأكثر طغيانا وحضورا، ولذلك كان الشعراء وكتّاب القصة القصيرة يحاولون تجنيد كتاباتهم وإبداعاتهم وفقا لهذا الاحتجاج، وتابعا أو نابعا من تلك الثورة، وهكذا كتب كمال عبد الحليم وفؤاد حجاج ومصطفى هيكل «المنسى والمستبعد»، وعبد الرحمن الشرقاوى فى الشعر، ويوسف إدريس وصلاح حافظ ومحمد يسرى أحمد ومصطفى محمود ومحمد صدقى كسبة وأمين ريان وعبد الرحمن الخميسى وسعد مكاوى فى القصة القصيرة. وكانت هذه الإبداعات تعبّر بشكل أو بآخر عن الواقع المحيط، هذا الواقع المتردى اجتماعيا واقتصاديا، ولا يجد الكادحون ما يسد رمقهم وجوعهم الهادر، وهناك البطالة السافرة تنشب أظافرها بشدة، وكان المستوى السياسى أكثر من مهلهل بعد حريق القاهرة المريع فى 26 يناير 1952، وتعاقب الحكومات السريعة، وفشلها فى إنجاز أى تقدم ملموس على كل هذه المستويات، مما عجّل بتسريع ماكينة الثورة. فى هذا الوقت كانت الصحف والمجلات تنشر قصصا ترصد الواقع الاجتماعى، وتحرّض على الثورة والتغيير بشكل يعلو عند كاتب ويخفت عند كاتب آخر. وفى 19 مايو 1952، أى قبل قيام الثورة بشهرين، نشرت مجلة «روزاليوسف» قصة للكاتب الشاب محمد صدقى، كان عنوان القصة «مبروك يا عباس»، والقصة تحكى عن شخص يدعى عباس، يعيش حالة من الفقر الواضح والشديد، يصفه صدقى بامتياز وواقعية جديدة بالفعل، وبأسلوب أدبى جميل، وبلغة راقية، ويعدّد مفردات هذا الفقر المدقع، الذى يشمل طبقات كاسحة فى المجتمع. هذا العباس كان يقف فى ميدان الإسماعيلية -ميدان التحرير حاليا- ينتظر أن يحنّ الله عليه بأى عمل لكى يجد ما يستطيع به أن يحضر طبيبا لزوجته التى ستلد بعد قليل، ولكنه لم يجد، وعندما ذهب إلى منزله قابلته القابلة وقالت له: «مبروك يا عباس، لقد رُزقت بولدين»، وخيّم الوجوم على وجه عباس، فلم يفرح ولم يبتهج بقدوم هذين الطفلين، رغم أن هذا الحدث من الطبيعى أن يبهج أى رجل. اضطررنا إلى اختصار أو ابتسار القصة على هذا النحو لأسباب المساحة، وأنا أريد توضيح مسألة ضرورية، فرغم هذا الوضوح الذى حاولت إبرازه فالقصة تنطوى على جماليات فنية جديدة ومبكّرة جدا، ولغة طازجة، وليست ميلودرامية، أو مترهلة. وظل صدقى ينشر إبداعاته العديدة، حتى صدرت مجموعته الأولى «الأنفار» فى عام 1956، وقدّم له الناقد الطليعى محمود أمين العالم، وكتب بانوراما واسعة عن الكاتب وكتابته وهذا النوع من الكتابة، كان محمود العالم متحمسا بشكل متفاقم للكتاب اليساريين والجانحين نحو أدب الواقعية الاشتراكية الجديد. ومن بين ما كتبه العالم فى مقدمته عن حياته قال: «عرفت أنه ولد فى دمنهور عام 1927.. وأن والده كان تاجرا صغيرا، يشق طريقه فى تجارة الموبيليات.. وأنه كافح من أجل تعليمه حتى نجح فى إلحاقه بمدرسة التعاون الإنسانى فى دمنهور.. لكنه سرعان ما عجز عن مواصلة تعليمه.. كما عجز هو نفسه عن مواصلة مهنته.. فخرج مع ابنه يعملان معا فى أحد محلات النجارة، واشتغل محمد صدقى منذ السابعة منجدا.. ونجارا.. واسترجيا.. لفترة قاربت ست سنوات.. وخلال هذه الفترة ساعده أحد أصدقاء والده على حفظ القرآن حتى تمكن بهذا من أن يلتحق بالمعهد الدينى بالإسكندرية». ويواصل العالم سرد حياة محمد صدقى، التى تقلبت به فى سبل عديدة، ومن العمل اليدوى الذى خاض فيه نضالات نقابية عديدة، وقاد إضرابات شهيرة من أجل الحصول على حقوق العمال، انتقل إلى الكتابة، وكان يكتب فى البداية باسم «محمد صدقى كسبة»، فنشر فى مجلة «الأديب» اللبنانية عام 1947 و1948، ولم يكتفِ بالكتابة القصصية، بل إنه كتب فى النقد والصحافة، مما أعدّه ليكون صحفيا فى ما بعد فى مجلة «صباح الخير». وبالفعل انضم إلى فريق المحررين فى المجلة عام 1956، وكان أول ما كتب فى المجلة موضوعا صحفيا جميلا وراقيا تحت عنوان «صيد العصارى»، وكان ذلك فى 26 يناير 1956، وراح يصول ويجول فى الصحافة الثقافية المرموقة، وكتب تحقيقا واسعا حول أدب الطبقة العاملة، وهو لا يعتبر أن هذا الأدب انعكاس فوتوغرافى لحياة العمال، بقدر ما أن هذا الأدب يكون أدبا فى البداية، أى ينطوى على لغة راقية، وأسلوب رصين، ومعجم طازج وجديد، دون الإسفاف والكتابة المباشرة. ويذكر لمحمد صدقى أنه هو المؤسس لصفحة أدب الأقاليم فى صحيفة «الجمهورية»، وهو الجندى الأول خلف المؤتمر الأشهر فى الثقافة الجماهيرية، هذا المؤتمر الذى انعقد فى الزقازيق عام 1969، وكان صدقى راعيا كبيرا لأدباء الأقاليم، وبالطبع لم يتخلَّ عن كتاباته وإبداعاته القصصية المتنوعة. والذى حدث أن جيلا كتّابا كثيرين وقعوا تحت قوس التهميش والاستبعاد لأسباب سياسية، ومحمد صدقى أولهم، إذ تم اعتقاله فى 1959، لذلك غابت كتابته، وغاب اسمه تماما، وكان يوسف إدريس قد تربع على عرش الكتابة القصصية، وكانت الدولة تكرّس له بشكل كبير، لذلك تم استبعاد أو تقزيم مجموعة كبيرة من المبدعين، وظل هذا التهميش قائما إلى الآن.