حمزة قناوي مبدع شاب صدرت له سبعة دواوين شعرية وروايتان، وصدرت له مؤخراً عن دار الثقافة الجديدة مجموعة قصصية بعنوان (باتجاه الطريق)، وذلك في تحوُّلٍ دال علي إدراك المبدع لواقعه من جهة، وإدراكه للنوع الأدبي الذي يعبر من خلاله عن هذا الواقع من جهة أخري . في هذه المجموعة القصصية يرصد المبدع كما سبق أن رصد في أشعاره سطوة وقسوة الواقع / المدينة علي أحلام ساكنيها من الفقراء بشكل خاص ، بما ينتهي بتلك الأحلام إلي التحطم علي صخرة الواقع أو الاستسلام له والاصطباغ بألوانه، وذلك بعد أن يستنفد الإنسان كل ما يملك في سبيل تغييرهذا الواقع، وعندما يدركه اليأس من تحقيق أحلامه يصيبه الإحباط فيركن إلي الاستسلام للواقع، هذا الانشغال بتلك القضية شعريا وقصصيا يدفعنا إلي القول بأن الذات الكاتبة تسترت في مجموعتها القصصية بضمير الغائب فلجأت إليه لا علي سبيل المراوغة فحسب وإنما ليجعل الذات الكاتبة الحاضرة المعبرة عن نفسها عن طريق ضمير المتكلم في الشعر تعبر عن نفسها ولكن بضمير الغياب في القصة، وكأن الذات الكاتبة تعبر عن نفسها الحاضرة وعن غيرها الغائب لتتحول قسوة الواقع من شعور ذاتي إلي شعور جماعي يصل الذات الكاتبة بتلك الفئة التي أهداها الكاتب مجموعته القصصية. إهداء للبشر المتعبين يهدي المبدع مجموعته "إلي البشر المتعبين والقراء ملح الأرض وزهورها " هذا الإهداء يستدعي مقولة السيد المسيح لتلاميذه " أنتم ملح الأرض" أي الذين تحفظون العالم من الخطايا والآثام،وذلك بما يكون بينهم من تآلف ومودة ومحبة ، أما الزهور فهي رمز الجمال والتواصل الإنساني والتمسك بالمبدأ. لكن الواقع يظل دائماً الصخرة التي تعترض هؤلاء الفقراء المتعبين في تحقيق أحلامهم التي لا تتجاوز في كثير من الأحيان الإحساس بإنسانيتهم وكرامتهم وتحقيق ذواتهم، وهي في الأصل حق لهم، لكن المدينة القاسية جعلت الحقوق أحلاما والأكثر أنها جعلتها أحلاما صعبة التحقق!!!!! بلغة شعرية مؤثرة علي متلقيها استطاع القاص تصوير هذا الصراع بين الحلم والواقع، أو بين الفقراء المتعبين وبين تلك الصخور التي تحول دون تحقيق ذواتهم وأحلامهم في المدينة، كما نري في تلك الصورة في قصة (حياة) " في المدينة العصرية التي يسكنها كان يعاند أن يتحول إلي ترس صغير مكرر في ماكينة خرافية تسحق البشر وتحيلهم إلي أشياء ". تمارس اللغة تأثيرها في هذه الفقرة من خلال الصراع بين الترس/ الإنسان وبين الماكينة (إحدي معطيات المدينة العصرية)، وهو صراع يستعيد صورة دون كيشوت بطل رواية سرفانتس الذي حارب طواحين الهواء ظناً منه أنها شياطين لها أذرع، فكان مصيره أنها طوَّحت به، أما بطل حياة / القصة ( الواقع ) الذي حاول أن يعاند المدينة فكان مصيره الاستسلام لواقعه "تزوج .. أنجب ... مات..." آثرت نقل الكلمات الثلاث كما وردت في نهاية القصة لدلالة الفراغ الطباعي علي الفراغ الواقعي الذي أصبح يعيش فيه البطل بعد استسلامه لواقعه ، وذلك بعد أن كان " يقاوم أن يتحول إلي كائن مستهلك ونمطي وبلا ملامح" . في قصة باتجاه الطريق تنتصر معطيات الحياة المدنية علي قصة حب تجمع شابا يدرس الأدب ويعمل في أحد المحاجر وبين فتاة تدرس وتعمل علي ماكينة الخياطة " التي لم تعد أمها قادرة علي الانحناء لها تضرعا لإنهاء فستان لزبونة" . تتجلي سطوة الواقع وقسوته من خلال الانحناء للماكينة إحدي معطياته بدلا من الانحناء عليها، مع توريث هذا الانحناء للابنة بعد مرض الأم، وذلك في صورة تعكس مدي الخضوع للواقع والاستسلام لأدواته فاقدة الإحساس ، وتتجاوز الصورة الخضوع والاستسلام إلي العبودية حين يغيب المتوجه إليه بالتضرع؛ليطل تساؤل شديد القسوة علي النفس .. التضرع لمن ....؟! أما الفتي فقد استسلم لآلة هدم يكثر انتشارها في المدينة ".. وضع قلمه في كتابه وتناول المعول" إن غياب القلم رمز الفكر والعلم لصالح المعول هو غياب واقعي يحدث في المدينة علي حساب بيوت الفقراء لصالح الأبراج العالية البعيدة عن أحلامهم ، وحيث الخضوع للمادة وفقدان الإحساس، وهنا يبدو المعول أداة هدم مزوجة للمادة /أبنية الفقراء من جهة، والفكر والعلم ولإحساس وأحلام الفقراء من جهة أخري . نفاق المدينة لكن المفارقة الأشد قسوة أن يتحول القلم في القصة نفسها وفي المدينة أيضا إلي معول يهدم مبادئ الحوار وحرية الرأي والتعبير عنه، والتي من المفترض أن يكون داعيا لها مدافعا عنها، وذلك في دلالة علي نفاق المدينة ومراوغتها ، ويتجلي ذلك في موقف أستاذ الجامعة الذي سخَّر قلمه وسلطته لكتابة تقرير أدي إلي فصل بطل القصة من الجامعة ليس لشيء إلا لأنه حاول مناقشته واختلف معه في الرأي،لا فرق إذن بين ملاحظ العمال وأستاذ الجامعة ، فكلاهما تحت سماء المدينة حرم الفتي من أن يسير باتجاه الطريق الذي يريده ، ومن أن يحقق ذاته، أو أن يتجاوز واقعه الراهن إلي تحقيق ما يريد حتي ولو كان ذلك عن طريق مجرد إبداء الرأي لا أكثر. لقد حوصر الحب في (باتجاه الطريق) بين المعول وماكينة الخياطة، فغابت عن لقاءات الفتي والفتاة نشوته ومرحه وانطلاقه وحتي كلماته، وسيطرت مشاهد المدينة القاسية علي السرد في معادل قصصي لما يحدث في الواقع، وغلَّف الكبت و اليأس والحزن تلك اللقاءات التي من المفترض أن تكون لقاءات حب تهرب من سيطرة الواقع ومشاهده القاسية، ولكن الواقع أكمل فرض سيطرته، حيث ماتت أم الفتاة وأصبح عليها العودة إلي ماكينة الخياطة وربما تترك دراستها لتظل منحنية لتلك الماكينة الصماء ، والفتي فُصِل من الجامعة فلم يبق أمامه سوي المعول !!!!! ولأن الواقع كانت له الغلبة والسيطرة ، وبعد أن سُدَّ ثقب الإبرة الذي قد تتحقق من خلاله الأحلام ، بعد كل ذلك لم يعد سوي الموت بعد أن فقدت الحياة جدواها تمامًا ، فلا غرابة أن ينتهي (اتجاه الطريق) بالمقبرة تمامًا كما انتهت (حياة) بالموت، وكأن الموت/ الوجود السلبي والاستسلام للواقع هو مصير كل من يحاول تحقيق أمنياته وإثبات ذاته من أولئك الذين يكافحون ويجاهدون ليجدوا لهم مكانا في الحياة . هذه هي حال الفقراء المتعبين في المدينة القاسية ، التي تسيطر عليهم بأدواتها وواقعها فتحرمهم من اقتناص ولو لحظات من الحب، ففقدوا الإحساس به رغم أنه داخلهم أو حتي القدرة علي التعبير عنه فتظل المسافات بينهم وبين هذا الحب بعيدة، حتي أن العمر يمضي، وتظل تلك المسافات موجودة، وهذا ما انتهت إليه قصة (المسافات) التي نلمس فيها حبا لا يري النور، ولا يخرج من قلبيِّ الفتي والفتاة إلي الواقع، لأن كليهما عجزا عن التعبير عنه للآخر، "كانت تزف كمرثية بيضاء في ليلة عيد، إلي عريس لم تحفظ ملامحه كما تعرف ملامحه هو" هذا هو الواقع الذي فرض نفسه علي تلك العلاقة المكبوتة، لقد استخدم الكاتب التشبيه والمفارقة ليبين من خلالهما مدي قسوة الواقع علي تلك العلاقة، فحضور(مرثية) بين تلك الدوال(تزف، بيضاء، ليلة العيد) أفسد حضور تلك الدوال ليظل حزن المرثية بارزا بينها، فغاب معني تلك الدوال عن السياق تماما كما يغيب عن علاقات الحب في المدينة، فكانت النتيجة " في الطريق إلي القوس الأخير من الحياة كان قلباهما يلتقيان في أفق آخر، بعدما تبدد كل شيء وبقيت المسافات"، وليس التبدد سوي صورة أخري من صور الغياب/ الموت الذي يلاحق المحبين ولحظات حبهم في المدينة. فراغ الحياة في قصة ( البحر ليس بملآن) يستدعي القاص العنوان من سفر الجامعة ليدلل علي فراغ الحياة رغم امتلائها، وكأنها ظاهرة طبيعية، فالحياة تأخذ من الإنسان الكثير وتمتلئ ولكنها مثل البحرلا تشبع فتظل تأخذ منه ولا تعطيه، أوهي مثله في دورة مياهه التي تذهب منه إلي الأنهار ثم تعود إليه مرة أخري ، وفي الحالين تقسو الحياة علي الإنسان فهي قد تعطيه وتعطيه ولكنها في النهاية تسترد ما أعطته، ولا يتبقي للإنسان شيء من البحر/ الحياة سوي القليل، فقصة الحب التي حاولت أن تشق طريقها إلي الواقع عن طريق الزواج انتهت إلي الفشل " في مدينة استمرت تسخر منه في قسوة بالغة وهو يقطعها من أقصاها إلي أقصاها باحثا عن سكن بجنيهاته القليلة " ، وتظل مشاهد المدينة القاسية مسيطرة علي السرد لولا أن "هبطت الذكري علي روحه فمنحته سلاما أدفأها وأقرها، تركض حافية علي الشاطئ، تضحك وهو يلحق بطرف ثوبها، فتفلت منه مراوغة تحتمي بالشراء من بائع الفريسكا، يتوقف ليلتقط أنفاسه"، ولكن الواقع تظل له الغلبة، حيث كان الزواج من آخر نهاية لذلك الحب الذي لا يعرف الوفرة والترف، ولم يتبق من ذلك الحب سوي الذكري التي تجسدت في الفريسكا التي كانت تحبها الحبيبة ! لقد كانت الذكري ملجأ له من قسوة الواقع ، ذلك أن الذكري جزء من حياتنا ومن زماننا لا نستطيع الانفصال عنه ، وعدم وجود ذكري للإنسان يعود إليها أقرب إلي الموت ، وهذا ما تجسد في قصة (الخروج من الذاكرة) ؛ حيث لم يترك بطلها أية علامة تدل علي وجوده في الحياة، فهولم يزد عن أنه قضي حياته بشكل روتيني محفوظ ، لم يكن له دور حقيقي في الحياة ، لم يغير شيئا ولم يغيره شيء، لم يتخذ موقفا من أية قضية، لم يعش قصة حب ، والغريب أن السرد في هذه القصة كان يسير عكس اتجاه البطل، فالسرد ينقلنا إلي مشاهد مختلفة تتسم بالحيوية والتحول، لكنها تصور بطلا يسير باتجاه واحد، وكأنه يسير عكس الطبيعة البشرية حين" لم يحارب من اجل فكرة. لم يخسر من اجل قناعة. مات ولم يمت " لم يمت الطل فعليا ولكنه مات بحضوره السلبي في الحياة، مات حين قضي حياته دون أن يكون له دور فعال فيها، وكأنه يعيش علي هامش الحياة دون متنها، و" يعامل الناس باعتباره شاهدا صامتا عليهم لا منتميا لهم". إذا كان النمط الروتيني المحفوظ كان اختيار بطل ( الخروج من الذاكرة) فإن بطل ( الذي لم يعد ممكنا ) ربما كان يحاول أن يعيش قصة حب ولكن الواقع / نبأ الخطبة كان بمثابة الحائط الذي رده إلي حياته الروتينية مع فقدان الحياة لطعمها؛ حتي أن الضحك الذي هو علامة من علامات البهجة في الحياة لم يعد ممكنا ، هذا هو ما تصبغ به المدينة سكانها/ الجمود والبرود فيستسلمون لها سواء باختيارهم من البداية ، أو مجبرين بعد فشلهم في تحقيق ما يصبون إليه من أمنيات وأحلام تتحطم علي صخرة الواقع، " توالت فصول كثيرة، دار في دولاب الحياة ، وقد نسيها تماما" إن مرجع الضمير في الفعل نسي قد يعود علي الحياة أو علي الحبيبة التي أدي غيابها إلي نسيان الحياة التي تحولت إلي دولاب، والدولاب لا يمكن الدوران فيه واقعيا، لكن غياب الحبيبة جعل الحياة / الدولاب ضيقة ومع ذلك هو يدور فيها، ولكنه أشبه بالدوران في المركز نفسه دون تجاوزه، وهذا ما سمحت له الحياة بفعله . التمرد علي الواقع هكذا تنتهي قصص الحب واقعيا وقصصيا بالفشل قبل أن تبدأ؛ لأن الواقع يقف حائلا أمام ظهورها، فتظل لقاءات المحبين روتينبة جافة، خالية من نشوة الحب وانطلاقه، بل قد يشغلهم التفكير في الواقع وضغوطه عن الحب ومظاهره، ورغم هذا نجد شيئا من الحب المختلس في ( قصة حب) "غادر السيارة كالمجنون وأمطرها بالقبلات وسط ابتسام المارة... فغادرت ذراعيه مبتعدة تضغط علي كلماتها: يلعن شياطينك فضحتنا ! أخذ يضحك ويشير للناس ويقبلها بينما توردت. " هنا مشهد لا يهرب من سيطرة الواقع فقط، بل يصطدم به ويتمرد عليه، فلا يقيم وزنا لما قد يفرضه الواقع من عادات وتقاليد، فقط نشوة الحب ومرحه وانطلاقه، وذلك في لحظة حب يختلسها الحبيبان من الواقع أمام أعين الناس/ المارة في تحدٍّ سافر لسلطة لواقع ، هذا التحدي الذي جعل المدينة / الماكينة الخرافية تبدو صغيرة في عينيِّ العاشقين "عبر زجاج الطابق العشرين" وذلك في هروب مكاني ومعنوي من عالم المدينة القاسي، ولكن ذكر الواقع كان كافيا لإجهاض قصة الحب التي تولد "أحبك. سأذهب للأبد.. لا تتبعني..... قال: ولكن هناك شيئا حقيقيا يولد ويعيش بالفعل.. صاحت: أكرهك لهذا تحديدا أكرهك.. لا تحاول الاتصال" هذه هي المفارقات والصراعات التي يضع الواقع المحبين بينها فلا يصبح أمامهما سوي الاختيار بين الخروج عن تقاليد الواقع وأحكامه أو الاستسلام لتلك القوانين بل مسايرتها "طالع صورتها ثلاث مرات في ثلاث صحف مختلفة في اجتماعات هيئة مهمة للسينما محاطة بصحفيين ورجال أعمال"، وانتهت (قصة حب) علي ما بها من محاولة التمرد علي الواقع بما انتهت به القصص الأخري من فراق "استحال إلي ذكري وأصبحت سماء هاربة. ". أما البطل في قصة ( حقيبة ليست لأحد ) فقد ترك بلاده التي قال عنها لحبيبته "أن بها بشرا تملؤهم الأحلام لكنهم لا يجدون طريقا لها ليسلكوه"، وربما لهذا السبب اختار الهجرة غير الشرعية التي نجا من نهايتها المعروفة / الموت ليعيش قصة حب مع فتاة من سلالة أوروبية نبيلة " وهو يرسم أحلاما كثيرة ملؤها عينان تبتسمان، ويدان من حرير تملآن بيتا بالدفء في بلاد الصقيع والاغتراب"، ولكن سعي البطل إلي تحقيق أحلامه علي الجهة الأخري من الشاطئ لم يكلل بالنجاح ، فلم يختلف مصيره عن مصير أولئك الذين غرقوا أثناء هجرتهم، أوأولئك الذين بقوا في بلادهم ولم يجدوا طريقا لأحلامهم، هو الآخر لم يجد طريقا لأحلامه فتضاعف إحساسه بغربته وأحزانه وتحولت محبوبته إلي طيف " ظل يحدق في السقف ويراها تبتسم له في حنو ورحمة فيغفو مبتسما"، أما هو فقد تحول إلي ما يشبه الأشباح في وصف استطاع الراوي أن يغلفه بلغة شاعرية شديدة التأثير علي متلقيها " بدا الإعياء يلف جسده الذي نحل كثيرا وهو يقتات علي عبوات البسكويت الصغيرة والماء من الكشك المقابل لرصيف القطار ويسعل بشدة "، إن الاطمئنان الذي تسلل إلي نفس المتلقي بنجاة البطل من مصير الهجرة غير الشرعية ينقلب إلي حزن، حين يتخيل مصير البطل الذي رسمه الراوي، وربما تمني المتلقي للبطل الموت الفعلي؛ فقد يكون أرحم من الحياة معذبا بقصة الحب التي لم تكتب لها النهاية السعيدة علي الجهة الأخري من الشاطئ . في قصة ( خارج النص) لم تكتب الذات القصة ولكن الحياة كتبتها بمشاهدها المتنوعة" هل نكتب الحياة أم تكتبنا؟ ألا يحتمل أن نكون أبطالا في قصة تصوغنا فيها أنامل خفية"، لقد كتبت الذات القصة من حيث بدا أنها لم تكتبها، ذلك لأنها داخل الحياة ، والحياة نفسها قصة، يصف القصة التي لم يجدها "يصطخب فيها العالم وتتصارع الموجودات ، بين زوابع وأمواج حيوات وتاريخ وبشر وأمكنة . تركها كمخاض خاو، وصراع لا يسفرعن شيء. كالحياة تماما" هنا تسقط الحدود بين بحث الذات عن نفسها في إبداعها الخاص وبين الواقع وما يفرضه عليها، لم تستطع الذات الكاتبة التعبير عن رغباتها وطموحاتها من خلال القص، وإنما وجدت الواقع يشد تلك الرغبات إليه فإذا به هو الذي يكتب القصة، وفي النهاية يسفر ذلك الصراع عن لا شيء وتصبح القصة مثل الواقع تماما، لأنه هو الذي كتبها فصبغها بألوانه وطبيعته . طريق المقبرة في آخر قصص المجموعة تدهش القارئ تلك المفارقة العجيبة بين عنوان القصة وبين متنها فالقصة عنوانها (الأحلام) لكن عند الانتقال إلي المتن لا نجد أحلاما، وإنما نجد واقعا مسيطرا علي الذات حتي في حالة تخديرها/ ابتعادها عن الواقع، إنه الواقع الذي يطارد الأحلام / الأماني، ثم يتجاوزها إلي الأحلام/ الرؤي، في سرد يصل بين الرؤية والرؤيا إلي حال من الاتحاد، وكأن الواقع يحرم الذات حتي من حق الحلم / الرؤيا، لتظل ما تعاينه الذات في واقعها هو نفسه ما تعاينه في منامها أو تخديرها ، ليصبح ذلك دليلا علي توغل الواقع في حياتنا، فلا يصبح هناك مجال للفرار منه حتي في الأحلام ، وإنما يجذبها الواقع إليه و يفرض عليها حضوره بكل ما يحمله من براءات الطفولة وأمنيات بمستقبل أفضل تنتهي بالفشل في الأحلام أيضا ! "هل أنت سعيد الآن؟ لن تعين معيدا زميلك الثاني في الترتيب كل عام سبقك ... وسيعين بدلا منك ....... مبسوط يا دون كيشوت ". لم تنجح الأحلام إذن في مجاوزة الواقع أو الخروج من أسره، وعجزت الذات حتي عن تشكيل أحلامها بما يدل علي تمام الاستسلام للواقع . بدأت المجموعة القصصية بقصة (حياة) وانتهت بقصة (الأحلام) ولكن انتهاء الأحلام إلي الوقوع تحت سيطرة(حياة) /الواقع ينفي وجود الأحلام قصصيا وواقعيا، وتصبح الحياة / الواقع هي صاحبة الوجود الفعلي، فلم تعد الحياة يتقاسمها الواقع والأحلام؛ لأن الواقع بقسوته علي أحلام البشر أصبح صاحب السيادة وتم نفي الأحلام إلي الأركان المظلمة . إن تناول المجموعة القصصية علي هذا النحو الفردي لا يلغي وحدتها وإنما يؤكد وحدة الموضوع الذي يربط قصصها، ووحدة تلك اللغة التي تأثرت بشاعرية الذات الكاتبة فحملت الكثير من الشحنات العاطفية الهادئة التي تسللت إلي السرد الذي تميز بالبساطة في مراعاة واضحة لأولئك الذين أهدي لهم الكاتب مجموعته، والذين كانوا هم أبطال قصصه، فجاء السرد معبرا عن بساطة أحلامهم وأحقيتهم في تحقيقها، وربما كان السرد ببساطته أداة من أدوات الذات الكاتبة لمواجهة تعقيدات الواقع وصخوره، فتثبت لنفسها القدرة علي تحقيق وجودها من خلال الكتابة في اتجاه معاكس للواقع أو باتجاه الطريق الذي اختارته لنفسها. في النهاية وبعد الانتهاء من قراءة القصة قد يجذب الانتباه تصميم الغلاف الذي وضع الصخور بين الشخص المرسوم وبين اتجاه الطريق، ويصبح علي من يريد السير باتجاه الطريق أن يحمل تلك الصخور علي كتفيه، كي يستطيع الوصول إلي البحر / الحياة .... ولكن يبدو أن ذلك لن يتم إلا "عن طريق المقبرة".