كان حديث السيدات في اليوم ذاته على السحور عن روبى ، كيف قتلت مخدومتها التى أحبتها ، حرقا ! .. السحور الذى جلست فيه على رأس مائدة ضمت سيدات كثيرات من نجوم المجتمع ، يصفقن لأداء روبى ، أخفى فى الوقت ذاته مشاعر خوف من وجود عمل فنى يحرض على مواجهة بين شريحتين فى المجتمع ، لقد بدأن فى متابعة مسلسل سجن النساء من اليوم الأول ، مستمتعين برؤية عالم مختلف ، نجحت المؤلفة نقل تفاصيله بطريقة محترفة ، ووقعت المخرجة فى غرام الفكرة وهذا العالم بكل مافيه فخاضت تجربة صعبة للغاية من أجل تقديم هذه النماذج إلى المشاهد . لكن المباراة الحقيقية للمشاهد بدت بين أبطال العمل ذاته ، بين كل بطلة ، لكل حلقة بطلة مستقلة ، نحن إذن أمام عملا فنيا ناجحا جذب ملايين المشاهدين ، لكنه عملا متطرف المشاعر ، متطرف فى إختيار النماذج التى تصدى لها ، هذا هو المجتمع ؟ أم بعض المجتمع ؟ أم شريحة من المجتمع ؟ فى كل الأحوال يطرح السؤال الكلاسيكى نفسه : هل الفن هو إعادة تدوير مايحدث فى المجتمع طبق الأصل دون تقديم وجوه متعددة للحدث أو اللقطة التى قرر صناع العمل التوقف عندها وتفجيرها ؟ كنت صديقا للأستاذ عاطف الطيب ، الله يرحمه ، وكان مبدعا يحمل على كتفيه عشق حقيقى للحياة والجمال والخير والأمل حتى وهو يخوض تجاربه السينمائية المكثفة التى تعيد ترجمة السينما الواقعية ، وكان الرجل يرى دائما فى مناقشاتنا حول أفلامه القيمة المهمة وأتفق معه أن الإبداع الحقيقى هو مساحة من المتعة والبهجة والتطهر ، وما أسهل أن تنقل الواقع بكل كآبته وأحزانه وإهماله وقبحه ، الأصعب أن تنقله بالإسلوب الذى يجعل المشاهد يعيد رؤية الحياة بشكل مختلف ، ليست مهمة المبدع أن يقتل المشاهد .. إنما أن يوقظ داخله أشياء كثيرة من بينها الأسئلة والأمل والحلم . قبل وفاته بعاما على قهوة تريانون فى محطة الرمل بالإسكندرية جلست وعاطف الطيب تناقش عن الفن حين يقدم شخصيات كلها بائسة محطمة فاسدة مشروخة ، وكان رأيه واضحا فى حضور الأديب الكبير الأستاذ نجيب محفوظ أن الفن هو وجهى العملة ، وأنك لا يمكن أن تبرز اللون الأبيض بدون اللجؤ إلى الأسود ، ولا الأسود بدون اللجؤ إلى الأبيض ، الشر المطلق يدعو المشاهد للنفور من الأفكار التى تريد أن تصل إلى المتلقى ، والخير المطلق يجعل العمل ساذج بدون طعم حقيقى . كل واحد فينا يحمل الخير والشر فى الروح نفسها والجسد نفسه والأفكار نفسها .. ليس منطقيا إذن أن تكون كل مهمة المؤلفين والمخرجين تقديم أصنافا متعددة من الشر ! فى رمضان هذا العام ، تتضاعف جرعة الشر والحزن والنماذج المشوهة وتقديمها بكل حرفية ، يلتهم المشاهد الإفطار ثم يتلقى صدمات مقنعة تماما من التمثيل ، لا مناقشة أن الموهبة كانت واضحة ، لكن تحضر الموهبة ويغيب الإبداع ، فالموهبة بدون تفكير وبدون أفكار وبدون ذكاء يتوقف عند مرحلة الموهبة لا يتحول إلى إبداع ! الإبداع يحتاج وقت أطول لكى يحصل المؤلف على الشخصيات والأحداث ثم يبدأ فى إعادة صياغتها ورسمها وتشكيلها وليس مجرد نقلها إلى الواقع بإسم الواقعية . كم من الجرائم ترتكب بإسم الواقعية ؟ فتنقل لنا الدراما ، نصا وإخراجا وتمثيلا ، تفاصيل مذهلة لا يصح نقلها ، والكلام هنا يشمل مسلسلات متعددة هذا العام وليس سجن النساء فقط ، لعل أخطرها هى طرق الإنتقام التى حولت مجرد الخواطر أو الأفكار .. إلى واقع ملموس على الشاشة . من حق السيدات الخوف من إنتقام المساعدة أو الخادمة أو الشغالة أى كان الوصف منهن ، بطريقة أو بأخرى ، إذا لم يكن بالحرق .. يمكن السرقة أو أى إسلوب أخر . هل علينا أن نصفق للفن حين يتحول إلى محرض على قلب نظام العلاقات الإنسانية فى المجتمع ، فى مجتمع أصلا يكاد يخلو من الثقافة ؟ الدراما ، خاصة المسلسلات التليفزيونية المجانية التى تبث على مدار الساعة ، هى ثقافة البسطاء وعامة الناس ، هى أفكارهم وهى النقطة الفاصلة التى تغير حياتهم ، حتى لو كان ماتقدمه المسلسلات جزء من حياتهم ، مشاهد العنف فى هذه المجتمعات موجودة ، لكنها جاهزة تماما لأن تتضاعف وتكبر وتصبح أكثر قسوة بمجرد مشاهدتها على لسان أبطال مسلسل . يغيب عن صناع المسلسلات دورهم فى صناعة مجتمع وصياغته ، ينكرونها ، ويكتفون بأنفسهم تقديم صور مؤثرة على حواس المشاهد ، يكتفون بالنجاح الكبير على حساب كل شئ وأى شئ . هذا نجاح مهما كان صعبا للوصول له .. فهو أسهل بكثير من النضج الذى يجب أن يصل إليه صناع الدراما . سوف أختلف ، وسأظل أختلف مع كل صناع الدراما التى تدعى الواقعية .. بينما هى تدعم الوقيعة بين طبقات المجتمع ! هذه قضية سوف تظل ، ماهو الواقع ؟ وماهو الإبداع فى الفن ؟ وسوف يكسب الإبداع حتما يوما ما قريبا جدا .. حين يخرج المشاهد من دوامة الحزن التى تسيطر على مزاجه . ويعيد إستقبال الحياة بطريقة مختلفة .