لم يكن حلما مستحيلا، بل بالعكس، كان حلما ممكنا، من ذلك النوع من الاحلام، القابلة للتحقيق، بغير مشقة، ولا كبير عناء. كان حلمنا ممكنا، لانه، من فرط تواضعه، لم يكن ثمة هدف له سوي ان تتاح لنا، فى ربوع مصر، فرص مشاهدة افلام من روائع السينما العالمية، غير تلك التى من انتاج استديوهات هوليوود الكبرى، وبفضل شبكة توزيع افلامها عالميا، استطاعت احتكار سوق السينما، فى مختلف بلاد العالم، شرقا وغربا، لافلامها.. دون غيرها من افلام الدول الاخرى، بحيث أصبح امرا متعذرا مشاهدة افلام سينما أخرى، غير السينما الامريكية. ومع ذلك، فما ان بدأنا فى تحقيق حلمنا المتواضع هذا عندما انتدبت، مديرا للرقابة على المصنفات الفنية، وذلك قبل ما يقارب نصف قرن من عمر الزمان، حتى وجدتنى أواجه عقبات، التغلب عليها ليس بالامر اليسير ومن بين تلك العقبات، ادمان جمهور الفيلم الاجنبى مشاهدة الافلام الامريكية، على نحو أصبح معه، تذوقه لافلام أية سينما أخري، من الصعوبة بمكان ويحضرنى، هنا، ما حدث لفيلم "هيروشيما.. حبي" ولصاحبه المخرج "آلان رينيه"، اثناء عرضه بسينما كايرو (1962) كان جمهور الفيلم، غير جمهور الفيلم الاجنبى، العادى أقبل على مشاهدته، لانه قرأ عنه، وسمع الكثير وكان، بحكم ذلك، تواقا لان يرى قصة حب، وقد ترجمت إلى لغة السينما. لتقول من بين ما تقول ان لقاء تم بين نجمة سينما فرنسية، متزوجة ولها ولدان، ويابانى متزوج، ويعيش حياة زوجية سعيدة وكان لقاء عابرا على أرض "هيروشيما"، حيث كلاهما بث شكواه للآخر. هى حكت له ما حدث لها فى مدينتها الفرنسية الصغيرة "نيڤير"، والحرب على وشك الانتهاء، كيف قتل حبيبها الجندى الالمانى، وكيف حلقوا لها شعرها، عقابا لها على التعاون مع الاعداء وهو حكى لها ما حدث لمدينته "هيروشيما"، لحظة القاء القنبلة الذرية عليها، كيف انتهى بها الامر ارضا خرابا، وكيف أصبحت جلود الناس فيها احجارا، وسقطت الشعور من على رؤوس النساء. وبينما هما فى الفراش، يتناجيان على هذا النحو، راعى مغادرة الناس أفواجا لدار السينما، اثناء عرض الفيلم وتساءلت اذا كان ذلك حال فيلم هز العالم، فما بال حال افلام أخري، غير امريكية، لم تنل، ولو قدرا ضئيلا من الشهرة التى نالها "هيروشيما.. حبي". واياما كان الامر، فبفضل فشل تجربة "هيروشيما" هذه اتضحت لى معالم الطريق الصحيح، للوصول إلى تحقيق حلم عرض افلام سينما أخري، مختلفة، عن السينما المهيمنة حاليا على عروض دور السينما، فى ربوع مصر. فالافلام التى ليست كغيرها من الافلام الأجنبية المحتكرة لعروض دور السينما عندنا، ليس مكانها دور السينما الكبيرة، وانما دور صغيرة، أقرب فى عدد كراسيها لمسرح الجيب، وذلك يرجع إلى ان جمهور الافلام المختلفة، ليس كجمهور الافلام العادية، السائدة انه جمهور محدود، حقا قابلا للازدياد، ولكن على المدى الطويل. وكان الحل فى الاهتداء بما فعله المهتمون بالشأن السينمائي، فى فرنسا، حيث نشروا فى مدن فرنسا الكبرى، وبخاصة باريس، دور سينما صغيرة، اطلقوا عليها اسم "سينما الفن والتجربة" روعى فيها ان تعرض على شاشاتها، الافلام الممتنع عرضها فى دور السينما الكبيرة، أما لان جمهورها محدود، واما لاسباب أخرى وفعلا أقترح افتتاح دارى سينما صغيرتين من ذلك النوع احداهما فى القاهرة، والاخرى فى الاسكندرية. وهكذا كان الحلم الممكن، على وشك التحقيق، لولا هزيمة الخامس من يونيه "جزيران".. 1967. فاذا بكل شىء يتحول إلى كابوس طويل واذا بكل شىء ينتكس، مرتدا إلى ماض سحيق".