في الفيلم الروائى القصير المثير للانتباه الذى أخرجته سعاد شوقى باسم «كيف ترانى» والذى يروى علاقة ملتبسة تقام بين رسامة شابة متحررة، وشاب متزمت يعمل موظفاً فى إحدى الدوائر الحكومية.. وتأثير هذه العلاقة على كل منهما.. وربما كانت السبب غير المباشر فى تغير مناهجه ورؤيته للحياة. فى هذا الفيلم البديع والمتقن.. تلعب اللوحات التى رسمتها الفنانة الشابة (نسمة المسيرى) دوراً حاسماً فى الأحداث.. وتلقى ضوءاً داخلياً مشعاً على كل واحدة من هاتين الشخصيتين المتناقضتين، بطريقة درامية مؤثرة وفعالة.. مما أعاد إلى ذاكرتى عبارة أطلقها فى يوم من الأيام الفنان السينمائى والأديب التشكيلى البارز جان كوكتو.. حتى قال »فى كل لوحة مرسومة.. هناك بُعد درامى يميزها.. ويطلقها.. كما أن فى كل صورة سينمائية بُعداً تشكيلياً يحررها من كونها مجرد صورة متحركة لتصبح لوحة حياة بألوانها ونغمات قلبها.. وتأثيرها«. هذه العبارة تمثلت لى بقوة.. من خلال مشاهد فى اللوحات التى رسمتها نسمة المسيرى.. ووضعتها سعاد شوقى محرك درامى أساسى لأحداثها. اللوحات تمثل نساء فى أوضاع مختلفة.. يجمع بينها جميعاً.. عيون واسعة سوداء تحدث فى الفراغ.. مسدلة الجفون أحياناً.. أو مفتوحة على آخرها.. تنطق بتساؤلات لا تنتهى.. أو تعبر عن فزع داخلى غامض.. أو نشوة لا يمكن تحديدها.. وأجساد عارية.. تلتف حول نفسها مشكلة عقداً عاجى اللون يصفعك أحياناً أو ينقلك أحياناً أخرى إلى أبعاد لا تنتهى. خطوط عصبية حادة.. تتقاطع فى ألوانها السوداء.. أو تموجات جسدية تكاد تهمس بخطاياها.. بحياء أنثوى مدهش. اللوحات المتناثرة.. فى فوضى منظمة خلاقة.. عرفت المخرجة كيف تستغلها واستطاع حضور الرسامة وشفافيتها أن يفرضها مادة درامية أساسية لمتن الفيلم كله. كيف ترانى.. هو قصة لوحات أمكنها أن تغير حياة كاملة، وأن توجهها وجهة مخالفة تماماً.. لمسيرها الطبيعى.. ومن هنا تأتى قوتها وتأثيرها المدهشين. لا يمكن لأى مشاهد للفيلم أن يخرج منه دون أن يحمل فى ثنايا ذاكرته هذه العيون الواسعة السوداء التى تطل على سماء رمادية.. والتى تحمل تساؤلات لا تنتهى.. عين انفتحت على اتساعها لتشمل كل ما حولها، بضربة ريشة واحدة.. كيف يمكن لفنانة لازالت فى أول طريقه الصعب.. أن تخلق لنفسها عالماً مميزاً قائماً بذاته.. يطفح بشخصياته التى تشكل بالتناسق مع بعضها كتلة حية تميزها عيون مفتوحة على اتساعها.. عيون تتساءل وتندهش.. وتتألم وتصرخ وتتوسل وتغرى وتسحر فى الوقت نفسه. لقد وضعت نسمة المسيرى بصمتها بشكل لا يقبل الجدل على حدث درامى.. فأعطته بُعداً حسياً وميتافيزيقياً فى الآن نفسه.. وحققت ما أراد جان كوكنر أن يقوله.. فى تحويل اللوحة إلى دراما.. تعيش صراعها الداخلى، كما حوّل الرسامون الكبار فى زمن من الأزمنة لوحاتهم إلى دراما حية لازالت تشغل بال كل من يراها، وتجذبه إلى عوالمها الآسرة المليئة بالطلاسم والتساؤلات. ربما تصبح عيون نسمة المسيرى السوداء الواسعة، فى يوم من الأيام.. نقطة انطلاق لمدرسة جديدة فى السينما المصرية.. سينما تقول أكثر مما تتكلم.. وتؤثر أكثر مما تصرخ.. وتضرب عميقاً فى القلب.. لأنها صادرة هى أيضاً من أعماق القلب.