في هذا الوقت من كل عام يقام الاحتفال السنوي بتسليم جوائز نوبل في الآداب والعلوم والسلام في السويد من قبل الأكاديمية السويدية وهذا العام تم منع المفكر والثائر الصيني "ليو" الحائز علي جائزة السلام من حضور الاحتفال ومنعت السلطات الصينية حتي السفير من تسلم الجائزة في اشارة صريحة منها لرفضها اختيار ذلك السجين الحر الذي ينادي بالإصلاح والديمقراطية في بلاده ومن ثم اعتبرت الهيئات الدولية ان موقف الحكومة الصينية معاديا للسلام وحقوق الانسان وللحرية ولكل معاني الانسانية وتأتي الاحتفالية لتذكرنا بهؤلاء الذين حصلوا علي جائزة نوبل في العالم أجمع سواء في الآداب أو العلوم أو السلام وكلهم حققوا إنجازات للبشرية وعبروا عن أوطانهم وأحلام شعوبهم ولم يتشبهوا بالآخرين ولم يتخلوا عن هويتهم أو ثقافتهم وإنما حاربوا من أجل أناسهم البسطاء وتعرضوا للأذي من قبل السلطات وأنصار الديكتاتورية وليس "محفوظ" ببعيد عن هذا المجال الحر الواعي وهو المصري العربي الذي جاءته نوبل عام 1988 لتتوج تاريخه الإبداعي هو وجيلاً كاملاً من المبدعين الذين شكلوا العقل العربي وكونوا الفكر المصري ورسموا لوحة التنوير في القرن العشرين تلك التي عبرت بالأمة العربية نحو الحرية والتحرر من الاستعمار. ولأن ميلاد محفوظ كان في 11 ديسمبر عام 1911 فان مائة عام من التنوير والاستنارة قد تزامنت مع مولده وتوفيق الحكيم وطه حسين ويحيي حقي والمازني والعقاد وشوقي وأباظة وإدريس واحسان والعشرات من عمالقة الفكر والأدب والسياسة لكن محفوظ تفرد بأنه اتخذ خطاً واضحا منذ البدايات ألا وهو الخط القصصي السردي الواقعي الفلسفي السياسي دون صدام مع السلطة السياسية وأفاد دوما الكتابة عبر آليات الرمز الواقعي والحدوتة والحكاية والمكان لمصر في القرن العشرين مصر القاهرية ابنة الطبقة الوسطي تلك الطبقة التي حيرت الكتاب وأرهقت المفكرين لأنها طبقة قد تتلاشي وتتآكل مع وجود الرأسمالية والديكتاتورية السياسية لكنها أبداً لا تنقرض ولا تنفك تظهر من جديد بصور وأشكال متعددة حتي ولو كانت مستسلمة أو خانعة مثلما كانت احسان في القاهرة 30 أو القاهرةالجديدة أو حتي كانت ضائعة مثل زهرة في زقاق المدق أو انها غابت عن الحقيقة كما في ثرثرة فوق النيل أو باعت عقلها كما في اللص والكلاب أو أخلاقها كما محفوظ عبدالدايم لأن تلك الطبقة الوسطي هي لب قضية التنوير عند نجيب محفوظ. لكن محفوظ أبدع في كتاباته الفلسفية وتصادم مع التيارات الدينية المتطرفة لأنه كتب من منظور فكري انساني عبر نظرية د.شكري عياد عن أنسنة الدين أو تحويل اللامحدود إلي محدود واللاواقعي إلي انساني مجرد وتقريب الوجودي الروحاني كما في الأساطير اليونانية التي حاولت فك شفرات الطبيعة والقوي الميتافيزيقية في صور أساطير وآلهة للخير وللموت وللقتال وللحرب وللجمال وللمتعة والخصوبة ولكأن كل إله يحمل صفات بشرية تمنح الانسان جزءاً من وجوده لهذا فان محفوظ كتب في هذا المضمار عدة أعمال بدأها بأولاد حارتنا عام 1959 والتي نشرت في سلسلة مقالات بجريدة الأهرام وعند نشرها هاجمها العديد من علماء الأزهر الشريف وصودرت ومنعت من التداول بحجة انها دعوة للكفر والالحاد ولكن رواية قلب الليل وكذلك ملحمة الحرافيش تناولتا ذات المضمون ونفس الرواية أو القصة الكونية عن بدء الخلق وكينونة الخالق وعلاقة الخالق بالرسل والرسل بالبشر وهو ما حاول نجيب أن يجسده في صور وشخوص وأحداث وأزمنة وأمكنة وأسلوب سردي وصراعات بشرية كل هذا في قالب فني روائي يأخذ القارئ نحو الحدوتة ويدفعه لأن يتفاعل مع أبطال الروايات ويعيش صراعاتهم دون أن ينسي لحظة أن يتساءل ويتحاور مع عقله في مجال درامي بين القارئ والنص وبين الشخصيات والحياة وبين الكاتب والفكرة الفلسفية عن الوجود الانساني ولهذا كان منح نجيب محفوظ جائزة نوبل لانه بحث عن فلسفة الوجود والانسان في قالب روائي غير مسبوق في الأدب العالمي وبأسلوب شيق رشيق يصل إلي القارئ البسيط والمركب في آن واحد. ان نجيب محفوظ وكتاباته مثل لوحة ليوناردو دافنشي المثال والفنان الإيطالي.. لوحة "الموناليزا" تلك المرأة ذات الابتسامة الساحرة التي تؤثر في المتلقي هل هي ابتسامة السعادة والرضا أم ابتسامة التأمل والتأني أم ابتسامة الاستسلام والسكون وقبول الألم لان كتابات نجيب محفوظ تحتمل في كل قراءة تأويلا مختلفا وتفسيرا متغيرا يحتمل كل عذابات البشرية ويحمل كل أفراحها وآمالها وأحلامها في حديث متصل من الصباح إلي المساء وأحلام وأصداء وطريق نحو المعرفة ونحو الحرية.. وستظل كتاباته مثل ابتسامة الموناليزا خالدة ومحيرة.