انقطع التيار الكهربائي والشمعة الوحيدة التي وجدتها أمه بالمطبخ أشعلتها له.. لكن الضوء خافت شحيح وصوت الريح يزأر في صمت الليل والطفل الجالس إلي مكتبه يرتعد من الخوف والبرد لكن عليه الانتهاء من الواجبات المدرسية حفاظاً علي كرامته وتجنباً لما ينتظره من عقاب في الفصل. القلم ينزف ألماً علي الورق ويده الصغيرة لا تقوي علي الصمود فأمامه عشرات من الأسئلة الجافة الغبية لا يفهم معظمها لكنه مُجبر علي الإجابة عليها كتابة مع مراعاة النظام والنظافة وكل ما تتطلبه الإجابات من خط جيد وتسطير ووضوح خصوصاً الآيات العشرين من سورة نوح يكتبها مرتين إحداهما في كراسة الواجب والأخري في كراسة الفصل. يشعر بالجوع لكنه لا يأكل.. فَقَدَ شهيته للطعام والشراب مثلما فَقَدَ قدرته علي الضحك واللعب والفرح.. فالمناهج الثقيلة سرقت خُضرة أيامه وأحلامه ولم تبق له شيئاً سوي الإحساس بالرعب والرهبة والتعاسة وهذا الحزن الذي يسكن صوته وعينيه ويلازمه طول الوقت كلما دق جرس المنبه معلناً نور النهار فيغادر فراشه ويرتدي الزي المدرسي وتتعثر خطواته وهو يحمل الحقيبة المدرسية وينكفيء علي السلالم وصولاً للشارع فيقف واجماً في انتظار الباص كأنه دمية شاخصة علي جدار. في المدرسة تبدأ رحلة عذابه اليومي التي تبدأ بالوقوف في طابور الصباح ويرتفع صوت مدير المدرسة يطالبهم بشد قامتهم رغم الحقيبة المدرسية الثقيلة التي أحنت ظهورهم والتغني بنشيد الوطن بحماس منقطع النظير وتحية العلم ثم دخول الفصول لتتوالي الحصص بجرعات مكثفة من حشو المعلومات ولا وقت للفهم أو الاستيعاب.. وعندما يدق جرس الفسحة يتزاحم التلاميذ ويتسابقون علي نزول السلالم من الطابق الرابع إلي فناء المدرسة لممارسة العنف والشجار وتبادل السباب بألفاظ نابية وتلقي اللكمات الضارية مثلما يفعل أبطال المصارعة الذين يحفظون أسماءهم عن ظهر قلب وكأنهم يفرغون غضبهم في الانتقام من بعضهم البعض بضربات قاضية موجعة بينما الرقابة غائبة والإدارة لا هم لها سوي التفنن في اختراع أساليب جديدة تضاعف أرباح الملاك وتضمن عدالة توزيع حصص الدروس الخصوصية للمدرسين والمدرسات تعويضاً لهم عن المرتبات الهزيلة التي يتقاضونها. يفقد عمر طاقته الروحية والنفسية والجسمانية في المدرسة فرغم سنوات عمره الحادية عشرة عليه أن يصعد يومياً ورفاقه الصغار إلي الطابق الرابع حيث فصول الدراسة.. بينما تلاميذ الثانوي تقع فصولهم في الطابق الأول بما يؤكد ذكاء وعبقرية الإدارة التي تنتهج سياسات أشبه بالتعذيب المنظم لأطفال صغار لا حول لهم ولا قوة. يعود عمر إلي البيت مُنهك الجسد والروح.. يرمي حقيبته بجوار باب الشقة ويخلع حذاءه ويجري إلي غرفته كعصفور مقصوص الريش جريح فيختبيء تحت الأغطية يحلم ببعض الراحة والنوم.. لكن أمه تنتزعه من الفراش فلابد من تناول طعام الغداء بسرعة كي يلحق بموعد الدرس الخصوص. يعود من الدرس باكياً فقد وبَّخته المدرسة أمام زوجها وبناتها لأنه لم يضع فلوس الحصة في ظرف مُغلق كما أنها تركته كثيراً لتُرضع طفلتها.. وأعطته عشر صفحات مسائل حساب عليه حلها قبل الحصة القادمة.. مايزال يبكي وأمه منهارة تتوسل إليه أن يحتمل حفاظاً علي مستقبله بينما داخلها يفور بالغضب والحنق فكيف لطفل في الصف السادس الابتدائي أن يقوم بأداء واجبات في كل المواد تتعدي حدود المائة صفحة ومن أين له القدرة والوقت حتي ينتهي منها ومتي يأكل ويلعب وينعم ببعض الراحة والنوم.. وأين وعود وزير التعليم بتخفيف المناهج وتنقيتها من اللغو والحشو وخطيئة الحفظ والتلقين وهي التي استبشرت خيراً بتصريحاته حول إصلاح التعليم.. ومن أين لها بالمال كي تنقذ ابنها الذي أصيب بحالة نفسية منذ ترك صديقه الأنتيم المدرسة والتحق بمدرسة عصرية حديثة علي ترعة المريوطية بمصروفات تبلغ ثلاثين ألف جنيه في العام الواحد وهي التي توفر بالكاد ثمانية آلاف جنيه مصروفات مدرسته علاوة علي فواتير الدروس الخصوصية.. وكيف لها أن تحتمل هذا الإحساس بالذنب الذي يطاردها كلما لمحت في عيني طفلها نظرة حزن لا تفارقه فصديقه يحدثه يومياً عن مباهج التعليم في مدرسته.. فالمدرسون أجانب والواجبات يتلقاها ع النت وتستطيع أمه متابعة كل ما يجري في الفصل بنفس الطريقة ومشاريع وحفلات وموسيقي وأبحاث ومهن يختارونها ويتدربون علي ممارستها.. وكتاب عنوانه "قيم وأخلاق" يدرسونه ويطبق عملياً بمتابعة سلوك التلاميذ وتخصيص مكافآت تشجيعية لأصحاب السلوك المميز.. وتواصل مع الآباء في كل ما يتعلق بالعملية التعليمية والتربوية.. وألف شيء وشيء يدين التعليم الحكومي ومعظم مدارس اللغات التي باعت رسالتها المقدسة في سوق التجارة فأهدرت صحة وعقول ونفوس التلاميذ بل تمارس إرهاب أولياء الأمور فمن لا يعجبه عليه سحب أوراق أبنائه وإلحاقهم بالمدارس التي يريدونها. وهكذا يختفي نور النهار ويظلم المساء ويأتي من بعده الليل وعمر يفقد صحته وأعصابه وطفولته ما بين الذهاب إلي المدرسة ومواعيد الدروس الخصوصية وأداء الواجبات المنزلية.. لا يشعر بالطمأنينة إلا حين يختلي بسريره ويغيب في النوم فتطارده كوابيس قاتمة تهز أعصابه وعواطفه الرقيقة وتصيبه بالذعر والخوف بينما أمه المضطربة لا تنام.. تحلم وتتمني ثم تصير الأمنيات وهماً يهاجر مع الساعات الأخيرة من الليل حتي يدق جرس المنبه معلناً نور النهار فتوقظ الصغير كي تبدأ رحلة عذابه اليومي يحاصره إحساسه بالقهر والعجز والكآبة والخوف. وعمر ليس وحده الذي يعاني الإحساس الطاغي بالكآبة والخوف.. ولا يحتاج الأمر إلي صناديق إقتراع أو إلي استطلاع رأي أو إلي دراسات عشوائية كي تتأكد الحكومة الذكية من أن التلاميذ المصريين أغلبهم يمرون بهذه الحالة بعد أن نجحت في غرس الرعب من التعليم ورموزه في نفوس الصغار بانتهاجها سياسة زرع الخوف الذي حوَّل مدارسنا وبيوتنا إلي معتقلات للتعذيب وإهدار حقوق الإنسان.. فالمسئولون لا يكفون عن الحديث عن إصلاح التعليم وتنمية القدرة علي التفكير والخيال والابداع ليل نهار.. بينما تكشف التقارير للعام السادس علي التوالي أن مصر تحتل المركز 129 من بين 134 دولة في جودة التعليم بما يؤكد أن ما يُقال مجرد كلام في كلام. الخوف أصبح عنصرا أساسيا من عناصر اطمئنان السلطة إلي استمرارها في أماكنها من خلال حكومة تجنح نحو تعذيب الناس بسياسات تقشف ورفع للأسعار وإهمال أكبر في التعليم والصحة وشتي مرافق الخدمات.. لكن الخوف الذي يقود إلي دائرة اليأس هو نفسه الذي يؤدي إلي الانفجار.. ولأن أطفالنا لا يستطيعون توعد وزارة التربية والتعليم بالملاحقة القضائية ولا يملكون الوقت لتنظيم اعتصامات ووقفات احتجاجية.. يصبح البديل المتاح تشكيل جبهة موازية ممثلة في مجالس الآباء.. جبهة قوية تنتزع سلطتها من بين أنياب ملاك مدارس اللغات.. تشارك في وضع وتشريع أعراف وتقاليد لها قوة القانون تحمي أطفالنا من تعنت وتعسف الإدارة وتلزمها بالاستعانة بمدرسين أكفاء يطبقون المباديء التربوية والتعليمية في طرق التدريس بما يراعي قدرات التلاميذ النفسية والعقلية وفقاً لمراحل النمو والأعمار وإعلان ثورة التمرد والعصيان ضد سياسات تعليمية تتسم بالجهل والغباء والتخلف والاستسهال وتثقل كاهل الأطفال بواجبات منزلية ثقيلة لا تفيد بقدر ما هي مضيعة للجهد والصحة والوقت والمال.. يحتاج أطفالنا إلي انتفاضة مجالس الآباء لإنقاذهم من لحظة انفجار قد تؤدي بهم إلي الجنون فنراهم يوماً ما يقفون في الشوارع ينظمون حركة المرور ويتسولون ثمن رغيف خبز حاف .