تظل هجرة الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه من مكة الى المدينة علامة فارقة فى الدعوة الاسلامية التى تمكنت بالهجرة ان تجد آفاقا واسعة ورحبة انطلقت فيها الدعوة الى كل مكان علماء الدين شرحوا معالم ودروساً من الهجرة النبوية ، موضحين أن الأمة الإسلامية أكبر من الأشخاص لارتباط وجودها بالقيم الربانية التي شرعها المولى تعالى ، وأن حالة الهبوط الاضطراري هدوء يسبق العاصفة التي بدت بشائرها تلوح في الأفق. المفكرة الإسلامية د.خديجة النبراوي أوضحت أن الدرس الذي يغيب عن المسلمين في العصر الحالي هو حسن الترتيب والتدبير لمستقبلهم مع التذرع بالصبر لما يواجههم ، فالرسول كثيرا ما حضر إليه الصحابة رضوان الله عليهم يسألونه الدعاء بالنصر، فيغضب من كلماتهم قائلا : لقد كان فيمن قبلكم يؤتى بالمنشار فيوضع على رءوسهم فيشقون نصفينن ما يصرفهم ذلك عن دين الله تعالى، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على الغنم ، ولكنكم تعجلون" ورغم الحصار الذي فرضته قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أنه لم يرضخ لضغوطهم ولم يخرج من مكة مهاجرا إلى المدينة إلا بإذن ربه، رغم تعلقه بمكةالمكرمة التي خاطبها بقوله عند الخروج منها :" اللهم وقد أخرجتني من احب البقاع إلىّ فأسكني في أحب البقاع إليك" ويروي عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبيه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته وهو واقف على راحلته ويقول: "والله إنك لخير الأرض، وأحب الأرض إلى الله، ولولا أنى أخرجت منك ما خرجت" ، قال: فقلت يا ليتنا نفعل فأرجع إليها فإنها منبتك ومولدك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني سألت ربي عز وجل فقلت: "اللهم إنك أخرجتني من أحب أرضك إلىّ، فأنزلني أحب الأرض إليك"، "فأنزلني المدينة"، إلا أن هذا الحب لم يك عائقا أمام تلبية دعوة ربه ونداء خالقه بالهجرة فرارا بدعوة الحق الى منبت خصب وأرض جيدة التربة ، ولم يكن تحرك الرسول للهجرة عبثيا وإنما مدروسا ومتقنا ، مما يكشف عن سبب تأخر المسلمين وتقدم غيرهم بسبب اعتمادهم على العبثية والخطط العشوائية لإدارة شئونهم الداخلية والخارجية، ولنسمع الى أبي بكر الصديق رفيق الطريق يروي لنا ما حدث وقت التفكير في الهجرة حيث يقول أبو بكر: حضر إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت لم يكن من المألوف أن يزورهم فيه، فقد كان يمر بدارهم كل يوم صباحا أو في العشي، ولكنه لم يكن يزورهم أبدا في وقت الظهيرة ، واشتداد الحر في مكة كما حدث في ذلك اليوم، فقال الصديق رضي الله عنه في نفسه: ما جاء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أمر عظيم، وربما توقع أنه هذا الأمر وأنها الساعة التي كان ينتظرها، فاخبره عليه الصلاة والسلام انه قد أذن له في الهجرة، وعليه أن يعد العدة ويستعد للخروج معه رفيقا ومؤنسا معينا في هذه الرحلة ، فبكى أبو بكر من شدة الفرح، وزاد إحساسه بالمسؤولية عن سلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن نجاح هذه الرحلة الميمونة، فاستأجر دليلا خبيرا ماهراً مؤتمنا، من بني عبد بن عدي، تسلم الراحلتين يعتني بهما ويعلفهما حتى تأتي الساعة الموعودة، ثم رتب مع عامر بن فهيرة مولاه أن يرقبهما حتى إذا استقرا في الغار ويتابعهما بأغنام أبي بكر كل يوم ليشربا لبنها ولتختفي آثار أقدامهما تحت أرجل الغنم، وكلف ابنه عبد الله أن يأتيهما كل ليلة حين تهدأ الرجل محاذرا ليخبرهما بما سمع من حديث المشركين وظنونهم وتدبيرهم، وكلف أسماء بنت أبي بكر أن تعد سفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما سيحملانه في هذه الرحلة من زاد وماء. أضافت: وصل الركب إلى غار ثور، ووجدا فيه مكانا صالحا للاختفاء فترة من الزمن حتى يهدأ الطلب، فأسرع الصدّيق يتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتاد المكان يتفحصه ويؤمنه حتى يطمئن إلى خلوه من عدو أو خطر أو دواب أو حشرات، ودخل الغار يصلح من شأنه قدر طاقته حتى يكون صالحا لإقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشق رداءه قطعا يسد بها شقوق الغار خشية أن يكون بأحدها حية أو حشرة ضارة من حشرات الأرض مخافة أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما إن حل الرسول الكريم بالغار حتى أسرعت الحمامة تصلح عشها وتبيض على بابه، وجاءت عنكبوت فنسجت نسيجها الواهي تسد به مدخل الغار، وتم ذلك بأمر الله وتدبيره عز وجل. وظل الفتية من قريش الذين يتربصون برسول الله صلى الله عليه وسلم أمام داره فغشيتهم الغاشية، فلم يحسوا به يتسلل من بين أيديهم، وما لبثوا أن علموا بخروجه، فأصابهم ما يشبه الجنون، وانطلقوا يبحثون عنه في كل اتجاه ويبذلون الوعود بالمكافأة السخية لمن يدلهم على محمد أو يأتيهم بأخباره وصاحبه، وأخذوا يهددون آل أبي بكر وصغاره عسى أن يفوزوا منهم بكلمة تدلهم على مكانه، فلم يصلوا إلى شيء، وانطلقوا يبحثون عنه صلى الله عليه وسلم في كل شبر بمكة وشعابها وما حولها حتى وصلوا إلى الغار وتقدم دليلهم متوقعا انه سيجدهما في هذا الغار المحفور في الصخر، لكنه فوجئ على باب الغار بحمامة ترقد على بيض وعنكبوت نسجت فسدّت مدخل الغار، فقال للقوم انه غار لم يدخله أحد منذ شهور عدة، وارتجف قلب أبي بكر حين رآهم فوقه خوفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فأجابه صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما" وخلّد القرآن هذا المشهد الرائع بقول الحق تبارك وتعالى: "إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها"، ومكث الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار يومين أو ثلاثة، وكان عبد الله بن أبي بكر يأتيهما بالأخبار، حتى هدأ الطلب عليهما، فجاءهما الدليل عبد الله بن فهيرة بالرواحل، وجاءت أسماء بالزاد ولما لم تجد ما تعلق به الطعام والماء في الرحل فشقت نطاقها فجعلت منه حبلا ومنذ يومها سميت ذات النطاقين، وبدأت الرحلة في طرق وعرة سعياً للفرار بدين الله وإنقاذ دعوة - يبعد أهلها عنها في الوقت الحاضر وينأون بأنفسهم عن الدفاع عنها رغم أنها جاءتهم سهلة ميسورة ويتركون دينهم ينفلت من أيديهم لأجل دنيا يريدونها، وللأسف لم يفلحوا في طلب الدنيا ولا في نصرة دينهم، الذي أعلن أبوبكر الصديق التضحية بنفسه فداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم في رحلة الهجرة حرصا على سلامة الدين وسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يمشي أمام الرسول ليتلقى عنه ما قد يأتي من الأمام، ثم يتذكر الطلب فيمشي خلفه، ثم يمشي عن يمينه، ثم يمشي عن يساره، وهكذا طول الطريق يمهد له الظل ليستريح، ويأتيه بالطعام والشراب، لا يدخر وسعا ولا يألو جهدا في خدمته وتهيئة أسباب الراحة ما أمكنه ذلك، يخفق قلبه عند أية بادرة سوء خوفا عليه صلى الله عليه وسلم وعلى مصير الإسلام والمسلمين إن حدث له شيء ، في الوقت الذي يسخر الأقزام من رسول الله بلا حياء أو خجل ويكتفي المسلمون اليوم بمصمصة الشفاه. د.عفاف النجار عميد كلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات بجامعة الأزهر قالت: تكشف رحلة الهجرة النبوية عن الإعداد والتنظيم والتخطيط الذي سبقها بما يبين أن الإسلام لا يؤمن بالصدفة ولا المفاجأة، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم يقيناً أن مكة ليست بالمكان الملائم لانتشار الدعوة، وبالتالي كان يستفيد من وجوده بها قدر طاقته ، فيقابل الحجيج القادمين إلى مكة ويعرض عليهم الدعوة، وكان من ثمار ذلك أن عقد الرسول صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الأولى والثانية مع أهل يثرب من الأوس والخزرج ، وأخذ صلى الله عليه وسلم يتدرج في البيعة، ثم أرسل مصعب بن عمير إلى المدينة ممهدا لمقدمه وداعيا إلى الإسلام، والغريب في تلك البيعة أن عمه العباس بن عبد المطلب حرص على حضور البيعة رغم عدم إسلامه ليتأكد من حماية ابن أخيه، فسأل الأنصار عن وسائل حماية ابن أخيه فردوا أنهم أبناء حروب وأهل دروع ورثوها كابراً عن كابر، وأنهم سوف يحمون رسولهم مما يحمون به أبناءهم ونساءهم ، وفي يوم الرحلة طلب الرسول من ابن عمه علي بن أبي طالب أن ينام بفراشه لخداع المشركين الذين ظلوا منتظرين خروجه صلى الله عليه وسلم من بيته لينقضوا عليه بضربة رجل واحد، ووكله برد الأمانات إلى أهلها مما يؤكد عدم تركه صلى الله عليه وسلم فرصة يستغلها المشركون لإثارة الشبهات حول أمانة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أضافت: إن الهجرة النبوية الشريفة لم تكن تحركا عشوائيا، أو هروبا، ولكنها كانت نقلة استراتيجية عظيمة أراد المولى عز وجل بها حماية الدعوة بعد ان اشتد الضغط وكثر الأذى، وازدادت المؤامرات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أتباعه في مكةالمكرمة، وأمعنت قريش في الظلم والتعدي والتعرض له صلى الله عليه وسلم، ولصحابته الكرام، فجاء الإذن بالهجرة إلى المدينةالمنورة التي أحسنت استقبال الإسلام والمسلمين، وكان اختيار المدينة باعتبارها مركزا حضاريا من الناحية التجارية ومن الناحية الزراعية، فقد كانت تمتلئ بالحركة والنشاط إضافة لكونها ملتقى القوافل التي كانت تمر من الشام إلى اليمن ومن اليمن إلى الشام مما جعلها مؤهلة لأن تلعب دوراً أساسيا بالنسبة لانتشار الدعوة الإسلامية، إضافة لما يمتاز به أهل المدينة من مروءة جعلت الأنصاري يقول للمهاجر يا أخي عندي زوجتان اختر إحداهما أطلقها لك، وعندي بيتان اختر أحدهما أتركه لك، مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مقالته المشهورة: "لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار"، ثم توالت الفتوحات الإسلامية بما أشعل حماس الجميع للمسارعة في الخيرات، وصدق المسلمون ما عاهدوا الله عليه فصدقهم ما وعدهم سبحانه بالفتح المبين وأصبحت مكة تمتلئ إيمانا وتكبيرا بعدما ملئت شركا وكفرا، ودخل الناس في دين الله أفواجا، باليقين والعزيمة الصادقة لأبطال لم تشغلهم المظاهر الكاذبة عن تأييد دعوة الله تعالى، والمسلمون لن تعود إليهم سطوتهم وشوكتهم إلا بالاعتصام بحبل الله جميعا، وبدون ذلك فالله قادر أن يستبدلهم بغيرهم، فما أشبه اليوم بالبارحة، فالمسلمون اليوم يتعرضون لأكبر محاولة إقصاء من تاريخ الوجود، ويتعاون الجميع لضرب الاسلام ضربة رجل واحد، ولكننا نفتقد علياً الذي ينام في الفراش لخداع المتآمرين، وفي الجهة الأخرى يسعى من يحاول الفرار بالاسلام الى مكان آمن لا خوف عليه وبناء فتية يخشون ربهم ويقدمون أنفسهم لبناء استراتيجية اسلامية جديدة.