تعودت في طفولتي خلال حقبة ستينيات القرن الماضي علي رؤية "مفتش الصحة" الذي كان يمر علي المحال التجارية في قريتي خاصة محلات البقالة والجزارة والأسماك وأسواق الخضروات ليعدم الأطعمة الفاسدة ويأخذ عينات من الأطعمة والمنتجات الغذائية المشكوك في سلامتها لفحصها والتأكد من صلاحيتها ومن ثم تحرير محاضر للمخالفين.. كان يمر مفتش الصحة"الأستاذ حسين أبو خليل" علي المحلات والباعة الجائلين ونحن-أطفال القرية- نراقبه ونتشفي في أصحاب متاجر الأغذية الفاسدة رغم أن جشعهم كان أرحم بنا من جشع وانعدام ضمير كثير من تجار اليوم. كان هذا الأمر يحدث في ستينات القرن الماضي عندما كانت أحوال مصر الاقتصادية والعلمية محدودة وكان الوعي الصحي والغذائي في مهده. وكان مفتشو الصحة بلا أجهزة فحص حديثة وعددهم محدودا.. لكنهم كانوا يقومون بحملات واعية لحماية المستهلكين من المنتجين والتجار معدومي الضمير الذين يبيعون للمستهلكين أطعمة غير سليمة تضر بصحتهم وتهدر أموالهم. وفي حقبة السبعينات كنا في قريتنا نري مفتشي الصحة والتموين يمرون علي الجزارين ويصادرون ما لديهم من لحوم ماشية مريضة ومذبوحة خارج المجازر التي كانت محدودة للغاية في ذلك الوقت وكان الجزارون يتهربون منهم كما لو كانوا يتاجرون في المخدرات. حدث هذا في مصر- قري ومدناً- في وقت كانت فيه البلاد لا تعرف الوعي الصحي الموجود الآن وليس لديها جيش من مفتشي التموين كالذي يعمل في وزارة التموين الآن.. وكنا في أغلب الأحوال نتناول طعامنا وشرابنا بعيدا عن السموم المتنوعة التي يمتليء بها الآن.. ولذلك كانت أجسادنا متماسكة وتحمل قدرا من المناعة ضد الملوثات. **** الآن للأسف.. لم يعد لدي وزارة الصحة مفتشون يمرون علي الأسواق والمحلات التجارية لانقاذنا من الأطعمة الفاسدة التي تدخل بطوننا يوميا.. ولم يعد لمفتشي التموين فاعلية في حمايتنا من الفاسدين وتجار الطعام والشراب المضروب رغم كثرة العاملين في وزارة التموين والتجارة الداخلية. في كل سوق من أسواق مصر وشوارعها التجارية يقف تجار الطعام الفاسد يبيعون ويشترون بكل حرية ويلتقطون ضحاياهم وأغلبهم من الفقراء ومحدودي الدخل الذين يبحثون عن الطعام الرخيص لإطعام أسرهم بما يمتلكون من مال.. فاللحوم الحمراء التي تبدو طازجة ب 40 جنيها والدجاج المذبوح الطازج ب 18 جنيها للكيلو والأسماك من أرقي الأصناف ب20 جنيها.. ولك أن تتخيل سمك الدانيس والقاروص يباع بعشرين جنيها في هذه الأسواق وثمن السليم منه يتجاوز المائة وخمسين جنيها في أسواق الأسماك. **** منذ أيام دخلت سوقا شعبيا كبيرا في إحدي ضواحي الجيزة لشراء بعض الخضروات والفواكه فوجدت به ما لا عين رأت من الأطعمة الفاسدة والمشكوك في مصدرها من لحوم ودواجن وأسماك. ووقفت أراقب عن قرب مدي إقبال المواطنين عليها وخرجت من السوق الذي يمثل مصدرا حيويا مهما لقطاع كبير من المواطنين في منطقة سكنية جديدة بصدمة كبيرة حيث يقبل بعض المواطنين علي هذه الأطعمة الفاسدة بسبب انخفاض أسعارها ولا يهم بعد ذلك ما تسببه لهم ولأولادهم من أمراض!! وكما يحدث في هذا السوق يحدث في كل الأسواق.. بل اقتحم تجار الطعام الفاسد الأحياء الراقية ووقفوا علي النواصي يبيعون الأسماك الفاخرة بربع ثمنها أو أقل وهنا لن تستطيع أن تقنع مواطنا بسيطا أن كيلو الجمبري أبو عشرين جنيها لا يمكن أن يكون سليما وخاليا من الأمراض المهلكة للصحة.. وليس هناك من وسيلة لحماية المواطنين من هذه الأطعمة سوي مفتشي الصحة والتموين الذين كنا نحظي بحمايتهم لنا في الماضي. لا ينبغي الرهان في مواجهة الطعام الفاسد الذي يحيط بنا من كل جانب وتتنوع مصادر تلوثه. علي وعي المواطنين. فنحن في مصر مازلنا نعاني من أمية في الوعي الغذائي والصحي وأجهزة الدولة الرقابية ستظل مصدر الحماية الأكبر لنا ومصدر الردع ضد هؤلاء الفاسدين الذين يستغلون حاجة البسطاء لطعام رخيص ليروجوا بينهم ما يلحق بهم الأذي. *****پ يجب أن نعترف في شجاعة بأن سلامة الغذاء في مصر تحتاج الي إجراءات أكثر حسما وتحتاج الي تحرك واع وصحيح من الأجهزة المعنية بذلك. خاصة أن سنوات الفوضي التي عشناها عقب ثورة يناير جعلت الرقابة تكاد تكون معدومة علي مصانع انتاج الغذاء.. كما اختفت الرقابة تماما من الأسواق. وأصبحت مصادر الطعام والشراب سواء أكانت زراعية أو صناعية أو منتجات لحوم وأسماك وغيرها محل شك وريبة. فالتلوث في مصر طال كل ما نأكله ونشربه حتي الأدوية التي نعالج بها أمراضنا. لا ينبغي أن نضع رءوسنا في الرمال وندافع ونبرر دون علم ودون معرفة فكل خبراء التغذية في مصر يؤكدون عدم سلامة المنتجات الزراعية من خضراوات وفواكه بسبب تلوثها بالأسمدة والهرمونات الزراعية والمبيدات الحشرية وأعتقد أن هذا التلوث هو الذي يعوق منتجاتنا الزراعية من دخول العديد من الدول الأوروبية.پ لا ينبغي السكوت علي مصادر أساسية لتلوث المياه التي تستخدم في الزراعة والتي تضر بالبيئة الزراعية فما زالت مصانع الكيماويات وبعض محطات الصرف الصحي والزراعي تلقي بمخلفاتها في النيل وهي مخلفات تهلك الحرث والنسل وتظهر سمومها أولا بنفوق كميات هائلة من الأسماك.. ثم تصل تلك السموم الي الضحايا الأكبر من المواطنين حيث پنشرب جميعا من مياه النيل.پ لا ينبغي أن نترك غالبية المصارف الزراعية تستقبل مخلفات الصرف الصحي والصناعي من المصانع بكميات كبيرة بصفة يومية دون معالجة الأمر الذي تسبب في تدهور نوعية التربة وانتشار أمراض الفشل الكلوي والسرطان وأمراض الكبد وغيرها من الأمراض المزمنة في كل محافظات مصر.