التونسي محمد بن عطية أحد المخرجين العرب المحظوظين. لأنه منذ فيلمه الأول مروراً بفيلمه الثاني وجد منتجة في قوة وثقل شخصية المنتجة درة بوشوشة والتي بدورها نجحت في أن تقنع مخرجين كبيرين في قوة الأخوين داردين ليُشاركا في إنتاج باكورة أفلامه الطويلة. مما سهل أمامه - ليس فقط - اقتحام مسابقة برلين الرسمية بل واقتناص جائزتين منها دفعة واحدة قبل عامين. أما الفيلم الثاني لمحمد بن عطية فذهب مباشرة إلي برنامج نصف شهر المخرجين بالمهرجان الكاني الشهير. وها هو الآن يُعرض بتظاهرة "آفاق" في أهم وأشهر مهرجان بأوروبا الوسطي والشرقية ونقصد به المهرجان التشيكي كارلوفي فاري الممتد من 29 يونيه - 7 يوليو الجاري والذي شهد مشاركة عربية موسعة بينها فيلمان داخل المسابقة الوثائقية يتنافسان علي جائزة الكرة الكريستال» أحدهما لبناني "الأرجوحة" للمخرج سيريل عريس. والثاني مصري ألماني للمخرجين مروان عمارة وجوهانا دوميك. إلي جانب فيلم مصري آخر "آمال" يُعرض بمناسبة مشاركه مخرجه محمد صيام بعضوية لجنة تحكيم الوثائقي. وهناك أيضاً مسابقة "أفلام شرق الغرب" والتي تشارك في عضويتها المنتجة اللبنانية مريام ساسين. يبدأ الفيلم - الذي ساهم في إنتاجه كل من تونسفرنسا وبلجيكا وجهات أخري خليجية ساهمت في تقديم الدعم - من حالة القيء والإعياء الشديد والصداع النصفي للابن سامي الذي لا نري وجهه بوضوح. بينما يبدو الفزع أكثر وضوحا علي ملامح الأب رياض. وإلي درجة أقل إتقاناً علي وجه الأم التي تساعده. طوال الفيلم. خصوصا في الساعة الأولي. نري كيف يُكرس الأب حياته وكيف كان علي استعداد ليرهن مستقبله ويحرم نفسه. ويخاطر بحياته كلها من أجل تعليم ابنه في الخارج. وبلوغه أعلي المراتب. حتي لو اقترض أو باع سيارته. وكيف كانت التضحيات من أجل هذا الابن. في الخمسين دقيقة الأولي - من الفيلم الذي يبلغ طوله 100 ق - تظل الأحداث تدور في فلك الأب الذي يحاول أن يعالج ابنه ويبحث عن مقترحات عند الجميع. ويمكن اختصار بعضها. عند منتصف الفيلم تظهر المفاجأة. مع الاختفاء. والاشتباه في أنه التحق بالجهاديين في سوريا. لتبدأ رحلة الأب في البحث عنه في مشاهد نتوقع فيها بأنه سيتم التلاعب به. وفي مشهد غير مقنع نراه يعثر علي ابنه. لقد تحول السيناريو منذ الاختفاء إلي فيلم تشويقي أكثر منه فيلم يقدم تحليل عميق لتلك المعضلة التي تؤرق كثير من الآباء والأمهات الذين اختفي أبناؤهم وانضموا إلي داعش والجهاديين. كغيره من الأفلام يمر شريط "ولدي" علي شخصيات تستثمر في هذا الطريق الخطر. وتتكسب منه أموالا طائلة. مثل أغنياء الحرب. الفيلم لا يقدم جديدا بشأن تلك المعضلة. بل يمر مرورا سطحيا علي تركيب شخصية الابن. كان التركيز علي تضحيات الآباء والأمهات اللائي يدفعن الثمن. ويتم تخريب حياتهم. وحتي شخصية الأم لم تُرسم بمهارة. وكان الأداء- للممثلة مني الماجري - مفتعلاً في كثير من المشاهد خصوصا في لحظات البكاء والانهيار. "ولدي" فيلم متقن التنفيذ علي المستوي السينمائي من حيث التشويق. اختاير المواقع. تحريك الممثلين وأحاديثهم بتلقائية. نسج شخصيات ثانوية تبث الحياة في العمل. مع ذلك لايزال ينقص الفيلم تقديم شيء يجذبنا لمتابعته والخروج منه بإضاءة جديدة. ورغم ذلك فإن أفضل شيء به هو انغامسنا مع أداء شخصية الأب التي قدمها الممثل الكبير محمد ظريف بمهارة لافتة. معجونة بالصدقية والتلقائية. في لمحات وإيماءات شديدة الحساسية. بالنظرة المباشرة. أو بطرف العين. بملامح الوجه. وإشارات اليدين. بالعيون الزائعة. والجسد المتهالك. بإرادته في المقاومة وعدم الإستسلام. والحكمة التي طوقته رغم الفقدان العاطفي. الحكمة التي جعلته يُدرك أين ومتي يتوقف. ثم يأتي المشهد الأخير ليكون مسك هذا العمل صوتاً. وصورة. وتكويناً سينمائيا بلاغياً. وتأكيدا لتكوين شخصية الأب. الذي نراه بين زملائه في العمل. أثناء استراحة تناول طعام الغداء. وجهه هو الوحيد الذي يظهر بوضوح كامل. الآخرون يُحيطون به من دون أن نري ملامحهم. وأحد الشباب الجدد لا يحتمل الفلفل الحار في الطعام. يمزحون معه فتنطلق الضحكات. وبينما تتلاشي أصواتهم نلمح نظرة لرياض وعيونه المبتسمه تشرد للحظة بعيدا كأنه يري فيها ولده. ثم يلتفت إلي الشاب والابتسامة لا تفارقه. بنظرة أبوية تملأها العاطفة والحنان. فهل كان موت الابن المتمرد علي والده تورية تشي بموت الثورة علي القديم. واستمرار السلطة الأبوية؟!