لدى أحد الأصدقاء النقاد العرب مقولة وجيهة، بأن المهرجانات السينمائية هى فعل مناسب لفصل الشتاء أكثر منه للصيف؛ ودليله هو الفارق بين شعورنا ونحن نفر من صقيع برلين فبراير القارص لنحتمى بدفء قاعات العرض، وبين إحساس باطنى لدى كل من يترك شمس مايو على شواطئ الريفيرا ليقامر بالوقوف فى صف طويل من أجل مشاهدة أحد أفلام مهرجان كان قد لا يعجبه فى نهاية الأمر، بأن البحر ربما كان الخيار الأصوب. قد يصدق الأمر نسبياً بالنظر للمعاناة التى يحتاجها حضور كل فيلم فى كان، أما بالنسبة لمهرجان كارلوفى فارى السينمائى، فمتعة الصيف لا تكتمل إلا بحضور أفلام المهرجان. على بعد حوالى 130 كيلومترا من العاصمة براغ تقع مدينة كارلوفى فارى، المعروفة باحتضان أراضيها لعدد من الينابيع الساخنة (13 رئيسياً وقرابة الثلاثمائة ينبوع صغير)، وبكونها أحد أهم المنتجعات الصحية فى أوروبا، بما جعلها وجهة مفضلة لأشخاص بحجم بيتهوفن وكارل ماركس وفاجنر وتولستوى، كانت كارلوفى فارى هى نقطة الاستجمام المفضلة لهم. تاريخ عريق يمكن الشعور به فى كل شبر من المدينة العريقة والأنيقة. آلاف البشر يتوافدون على المدينة بداية يوليو من كل عام، تراهم فى أروقة المهرجان والممرات بين القاعات، يصطفون أمام شباك التذاكر للحاق بفيلمهم المفضل، فإن لم يعثروا على تذكرة اصطفوا مجدداً أمام القاعة انتظاراً للأماكن الشاغرة التى تتاح فى الدقائق العشر الأخيرة قبل عرض الفيلم للمنتظرين، بما يجعله مهرجاناً كامل العدد فى كافة عروضه الجماهيرية، ويرفع تلقائياً من متعة مشاهدة الفيلم وسط جمهور بمثل هذا الحماس. تاريخياً، عاش مهرجان كارلوفى فارى تقلبات عديدة تليق بمهرجان ظل عقوداً يُقام فى مقصد أغنياء المعسكر الشرقى، أبرزها استمراره حتى منتصف التسعينيات يقام كل عامين (كان الوحيد بين مهرجانات العالم الكبرى الذى يقام بهذه الدورية)، قبل أن يتحول بدءًا من 1995 حدثاً سنوياً يستقطب بالأساس أهم صناع الأفلام من منطقة أوروبا الشرقية، والذين يخصص لهم مسابقة كاملة عنوانها «شرق الغرب»، يعتبرها كثيرون أهم فعاليات المهرجان. 1- جواهر شرقية قياساً على مستوى الأفلام المعروضة تبدو الفرضية السابقة صحيحة إلى حد كبير، فبالرغم من كون المسابقة الدولية هى البرنامج الرئيسى للمهرجان، إلا أن معدل الأفلام الجيدة فى مسابقة «شرق الغرب» كان أعلى بكثير من مثيله فى المسابقة الدولية، التى ربما تعانى من التزامها بالبحث عن أفلام تُعرض عالمياً للمرة الأولى حسب قوانين الاتحاد الدولى للمنتجين (فياف)، نفس معاناة مهرجان القاهرة لمحاولة الالتزام بالشرط، مع صعوبة أكبر هى وقوع المهرجان بين موعدى كان وفينيسيا، بما يجعل صناع الأفلام الكبار يفضلون انتظار رد فينيسيا بالموافقة على حرق العرض الأول لعملهم فى كارلوفى فارى. الفيلم الفائز بجائزة «شرق الغرب» الكبرى هو الفيلم الروسى «كيف أخذ فيكتور الثوم أليكسى المسمار إلى دار المسنين» أو "How Viktor ‘the Garlic' Took Alexey ‘the Stud' to the Nursing Home" للمخرج ألكسندر هانت، والذى يعكس عنوانه الطويل الحس الكوميدى المسيطر على حكايته، التى يحاول فيها شاب منحرف مدمن خمور أن ينقل والده القعيد إلى دار مسنين كى يخلو له المنزل فينقل له صديقته، إلا أنه يكتشف فى الطريق للدار تورط والده مع عصابات تحوّل الرحلة مغامرةً مثيرة. فيلم طريق ساخر، مع تيمة نضج coming-of-age تتعلق باكتشاف أليكسى لقيمة العلاقة بوالده، فهو وإن كان بالغاً بمقاييس العمر، إلا أنه لم ينضج عقلياً إلا بخوض الرحلة، والتى يرسمها المخرج كقرار أرعن، ناتج من عقل أفسده الكحول، بتأثير واضح على الصورة المزدحمة بألوان مشبّعة وأجسام كثيرة، بشرية وغير بشرية، فى انعكاس بصرى واضح لما يدور داخل عقل البطل. ازدحام وحدة بصرية تأخذ فى الخفوت شيئاً فشيئاً، مع تباطؤ مقصود فى الإيقاع مع بدء ارتباط أليكسى بوالده، فى خيارات إخراجية جعلت من الكوميديا عملاً كبيراً، وأظهرت قيمة المخرج الشاب التى قدرتها لجنة التحكيم. أما جائزة لجنة التحكيم الخاصة فى المسابقة ذاتها فذهبت للفيلم الجورجى «ديدى Dede» للمخرجة مريم خاتشفانى. حكاية تدور بعد الحرب الجورجية فى بداية التسعينيات، عن فتاة تتمرد على التقاليد وتقرر ألا تتزوج الشاب الذى وعده أبوها بها، وتختار صديقه بدلاً منه، ليؤدى قرارها لمأساة تلو الأخرى. المخرجة عبرت بشكل رقيق ومؤلم عن فكرة الفشل الحتمى، فالبطلة ديدى تنجح لحظياً فى الانتصار لحبها، لكن هذا الانتصار الوهمى على التقاليد لا يجلب لها سوى التعاسة، فالحل ليس التمرد الفردى وإنما التخلص الكامل من ميراث مجتمعى يُثقل كاهل كل امرأة. 2- الأفضل فى المسابقة الدولية وبالرغم من أن الجائزة الكبرى للمهرجان (الكريستالة الذهبية) اختارت لجنة تحكيم المسابقة الدولية أن تمنحها للفيلم التشيكى «الصليبى الصغير Little Crusader» لفاكلاف كادرنكا، إلا أن الفيلم الذى يدور فى العصور الوسطى ويحاول أن يروى بشكل شعرى حكاية خروج نبيل للبحث عن ابنه الصغير الذى يترك المنزل ويهرب، لم يكن بالتأكيد هو العمل الأفضل فى المسابقة. الفيلم الأكثر اكتمالاً كان «أرثميا Arrhythmia» للمخرج الروسى بوريس خليبنيكوف، والذى فضلت لجنة التحكيم منح بطله ألكسندر ياتسينكو جائزة أحسن ممثل عن أدائه المدهش لدور المسعف الحكومى أوليج، الذى نراه فى بداية الفيلم مجرد سكير يتصرف بشكل خارج عن اللياقة ويسبب مشكلات لا تحصى لزوجته طبيبة الطوارئ بصورة تدفعها لمطالبته بالانفصال، قبل أن ينقل الفيلم بوصلته لنرى ما يعانيه خلال عمله من تعنت حكومى يجعله يشاهد يومياً موت مرضاه بينما يقف عاجزاً عن مساعدتهم. «ليس من المهم أن تنقذ حياة المريض، المهم ألا يموت داخل ورديتك»، يقولها مدير وحدة الإسعاف صراحة لأوليج ملخصاً سياسة بيروقراطية تهمها سلامة الإجراءات أكثر من سلامة المرضى. حالة مرضية تلو الأخرى يمر عليها أوليج، مسابقاً الموت من جهة وتعنت الإدارة من الأخرى، لتتحول حياته موجة من الأرثميا، أو اضطراب ضربات القلب، لنصل معه لنقطة ندرك عندها أن ما يفعله ليلاً من الإغراق فى الشراب ما هو إلا رد فعل منطقى لما يقابله طوال يومه. الحقيقة التى تكتشفها زوجته بمرور الأحداث، لينقلب الفيلم من حكاية عن الفساد الصحى إلى حكاية عن الحب بمعناه الأولى، كعلاقة يعود لها الإنسان فى نهاية اليوم كى تنقذه من كوارثه. عمل آخر بديع نال جائزة لجنة التحكيم الخاصة هو «الرجال لا يبكون Men Don,t Cry» للمخرج البوسنى ألين درليفيتش، الذى يرصد بحس تسجيلى واضح لقاء تصالحيا يتم بعد عقدين من الحرب الأهلية البلقانية بين مقاتلين من مختلف طوائفها. صرب وبوسنيون وكروات تجمعهم مصحة نفسية دخلوها طواعية بهدف التصالح، لتنفجر بينهم الخلافات التى تقول إن الحرب لاسيما الطائفية ندبة لا تزول من الروح ولو بعد عقدين من الزمان، الفيلم روائى يجسده ممثلون محترفون، لكن المخرج أجاد تقديمه كما لو كان رصداً تسجيلياً للقاءات حقيقية، بما زاد من قوة وتأثير العمل فى نفوس من شاهده من جمهور كارلوفى فارى.