بفطنة الطبيب الماهر وضع الرئيس السيسي يده علي متاعب الجسد المصري في الوقت الراهن بعد ظروف وتحديات كثيرة مررناها خلال العقود الثلاثة الماضية.. وخاصة منذ أحداث يناير 2011. وإذا كان الكل قد أجمع علي ان التعليم والصحة يأتيان علي رأس أولويات الولاية الثانية للرئيس نظراً لملامستهما احتياجات المجتمع ومتطلبات المستقبل.. فقد جاءت الثقافة لتكمل هذا المثلث الحيوي لإعادة بناء الإنسان المصري ودعمه ليكون قادراً علي خوض معترك الحياة في هذا العالم الذي لا يعترف إلا بالعلم والمعرفة والقدرة علي المنافسة. وبعدما بدأت مصر بقوة عملية الإصلاح الاقتصادي وبدأت تؤتي ثمارها من خلال مؤشرات اقتصادية وبشهادات مؤسسات دولية.. فإنه من المهم ان تكتمل المنظومة بالإصلاح الاجتماعي الذي يمثل فيه العنصر البشري عاملاً أساسياً في الارتقاء بأحوال المجتمع ورفع مستوي معيشة أفراده. والاستثمار الأمثل لكل امكانيات الوطن. فلاشك ان المردود الاقتصادي يتأثر مثلاً بمشكلة مثل الزيادة السكانية أو عوامل الجهل أو الفساد والجشع أو ممارسات الغش والاحتكار بل حتي بالعادات الاجتماعية الضارة بالاسراف والاستهلاك الزائد عن الحاجة - مثلما يحدث في شهر رمضان.. وأيضاً زيادة الفاقد نتيجة سواء عمليات التخزين أو النقل وغيرها.. ولهذا السبب يقرن أساتذة وخبراء الاقتصاد والاجتماع العامل "الاقتصادي الاجتماعي" معاً ويعولون عليه في إحداث التنمية وتطور المجتمعات. *** أما الثقافة في مجتمعنا المصري فقد صارت تمثل أزمة واشكالية كبيرة تركت آثارها السلبية علي كل مناحي الحياة.. وهو ما دفع الرئيس السيسي ان يضعها مع التعليم والصحة في مقدمة اهتماماته للنهوض بالوطن والمواطن. ولعل أجيالنا القديمة تشعر بفقدان المجتمع بالثقافة الجادة التي كانت تميز شعبنا في الماضي حتي الطفرة التي حدثت في التعليم والتقدم التكنولوجي. ومن أسف ان الشباب استسهل حصوله علي الثقافة من خلال القنوات الفضائية وبرامج المسابقات وشبكات التواصل الاجتماعي التي تفتقد المعلومة الصحيحة بل تكشف تردي أحوال التعليم قبل الثقافة من خلال الأخطاء اللغوية والاملائية البشعة التي يقع فيها رواد النت رغم استخدامهم اللغة العامية والمفردات الغريبة في كتاباتهم وتعليقاتهم علي بعضهم البعض. وتشهد القراءة كوسيلة أساسية وضرورية للثقافة الجادة تراجعاً حاداً بعدما هجرها الكثير من الناس حتي الصحف والمجلات التي كانت تمثل خط الدفاع الأخير لثقافة المجتمع وتنوير البشر شهدت انخفاضات هائلة في التوزيع نتيجة لانصراف الكثيرين عن هذه العادة القديمة التي كانت تمثل زاداً للمعرفة وحشداً للرأي العام وراء قضاياه الوطنية والمجتمعية. وبالتأكيد.. فإن الثقافة لا تنفصل عن الإعلام الذي سبق ان أبدي الرئيس السيسي ملاحظات سلبية كثيرة عنه وأشار إلي ان الرئيس عبدالناصر كان محظوظاً بإعلام فترة حكمه ورجاله من صحفيين واعلاميين وكتاب ونقاد ومفكرين حشدوا الشعب وراء المشروع الوطني لهذه الحقبة من تاريخ مصر. وأتصور أن الرئيس عبدالناصر كان محظوظا أيضاً بمثقفي عصره الذين أخلصوا لهذه الرسالة الكبري في حشد المجتمع وتنويره حيث كان الواحد منهم منبراً ثقافياً هائلاً في حد ذاته بدءاً من طه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي وإحسان عبدالقدوس وأنيس منصور ويحيي حقي وغيرهم الكثيرين الذين لا يتسع المجال لذكره. وفي هذا الصدد أشير إلي كتاب وقع في يدي صدر عام 1971 للكاتب والأديب الراحل إبراهيم الورداني بعنوان "يوميات مصرية" يرصد فيه الحالة الثقافية في مصر خلال فترة الستينيات ومدي تأثيرها في المجتمع.. ويشير فيه إلي بعض مناطق العائلة الأدبية والثقافية ومنها المجلس الأعلي للآداب والفنون بلجانه التي تشمل الأدب والفن والفكر والثقافة.. وأيضاً جمعية الأدباء وجمعية الكتاب العرب. وجمعية كتاب فلسطين. وجمعية مؤلفي الدراما وكان يتردد عليها جميع أدباء وكتاب أوربا وآسيا وافريقيا وأمريكا الذين زاروا مصر. وهناك أيضاً نادي القصة.. وجمعيات وجماعات أدبية أخري تقع في شقق أو حدائق أو مقاه أو مساحات للفنادق لا تقتصر فقط علي الكتاب والأدباء بل تضم فنانون وقضاة ومعلمين وأطباء وقدامي سياسة.. وكذلك قاعات في الجامعات والمدارس وأيضاً منتديات ثقافية في دور الصحف وغرفات المجلات الأسبوعية ولكل دار ولكل مجلة كتابها وأدباؤها ونقادها.. وهناك أيضاً أجنحة في الاذاعة والتليفزيون حيث تعد التمثيليات والمسرحيات وبرامج القصص والشعر وعنوان الفكر والفنون بالاضافة إلي قصور الثقافة الجماهيرية وبيوت ومؤسسات وهيئات النشر ومجلات وزارة الثقافة.. علاوة علي أكاديميات أدبية خاصة لها ثقل ووزن تلتئم من حول نفسها في بيوت بعضها البعض بصالونات زاخرة شامخة. *** هكذا كانت الحياة الثقافية في مصر. لذا فلم يكن من الممكن ان تجد تلك الجماعات الإرهابية والمتطرفة مكاناً تعبث من خلاله في أركان المجتمع وتغذي الشباب بالأفكار الشاذة والمتطرفة.. أو يجد تجار الفن الساحة خالية لكي ينشروا مسلسلات البلطجة والمخدرات والعنف والجنس كتلك التي ابتلينا بها في كل رمضان! حقاً.. ما أحوجنا لعودة الثقافة مرة أخري في جنبات حياتنا.