شاهدت الرجل مهابا. يلتف حوله كل أهالي القرية. ويتزاحم الجموع للفوز بمصافحته. كان بيته لا يخلو من الزائرين خلال الساعات القليلة التي كان يتواجد فيها كل اسبوعين أو ثلاثة بالقرية. فقد كان الرجل يقيم بالقاهرة في أحد أحيائها الراقية حيث يشغل مركزاً مرموقاً في وزارة مهمة. شاهدته بعد سنوات يجلس وحيداً أمام منزله. فاستفسرت من مرافقي فقال : "أصل الرجل إتركن علي الرف" وعندما لاحظ عدم فهمي أضاف "يعني خرج علي المعاش أصبح ملوش لزمة". هذا الموقف المتكرر في كل زمان ومكان داخل مصر يفضح ثقافة المجتمع في الاستهانة بأصحاب المعاشات. حيث يتم تداول بعض العبارات المهينة لهم مثل "الرجل لبس الجلابية البيضه" أو "الرجل لبس البيجاما المخططة" مما يعني أن كل من يخرج علي المعاش يصبح خارج الزمن وليس له دور في المجتمع وينفض الجميع من حوله حتي أهله وأقاربه . وهو بمثابة اغتيال معنوي ومادي لهم مما دفع بعض أصحاب المعاشات لوصف أنفسهم ب "خيل الحكومة" والتي يتم إعدامها رميا بالرصاص عند تقاعدها توفيراً لتكاليف الأكل والشرب والمبيت. أما الذي يضاعف أزمة أصحاب المعاشات هو الاحتياج المادي. ولا أبالغ إذا قلت أن غالبية أصحاب المعاشات يتسولون حتي يبقوا علي قيد الحياة فهل يعقل أن يفقد الموظف حوالي 75% من دخله فجأة بمجرد خروجه للمعاش رغم أن أعباءه ترتفع في هذه السن فالكثيرون لديهم أبناء وبنات يريدون الزواج. وحتي المتزوجين منهم ينتظرون مساعدة الوالد شهريا. وأيضا تزداد تكاليف الدواء لتعدد الأمراض وقد رأيت بنفسي "مدير عام سابق" يتسول الدواء من الصيدلية المجاورة لمنزلي. وقال لي والدموع حائرة في عينيه : "عشان أنا كنت موظف نظيف بوزارة التموين مش لاقي ثمن الدواء ولو كنت مرتشي زي الآخرين كان لدي الآن عمارات وأملاك" وأبلغ تعليق علي قرار وزارة التضامن بالاستشكال في تنفيذ حكم القضاء الشهير بأحقية أصحاب المعاشات في 80% من الخمس علاوات الأخيرة سمعته من أحد الأصدقاء يقول : "لماذا تعادي الحكومة أصحاب المعاشات.. ليه يكلونا لحم ويرمونا عضم.. المسئولين في هيئة التأمينات مش عارفين انهم بعد فترة حيتركنوا علي الرف زينا". والحقيقة ان الحكومة ممثلة في هيئة التأمينات وتصرفت ضد القانون لأنها طعنت أمام محكمة الأمور المستعجلة غير مختصة بوقف الحكم. وأيضا لأنها طعنت وهي تعلم تماما أنه حكم واجب النفاذ والتنفيذ في قضية عادلة بهدف المماطلة وتدويخ أصحاب المعاشات رغم أن مهمتها الأصلية التي تأسست من أجلها أن ترعاهم وتستثمر أموالهم التي دفعوها علي مدار سنين طويلة من أجل تحسين دخولهم ورفع مستوي معيشتهم وللأسف نجحت الهيئة في المماطلة وسيضطر أصحاب المعاشات للانتظار أكثر من شهر ونصف حتي 27 مايو المقبل موعد الحكم في الاستشكال. رحم الله 3 من أصدقائي استجاب الله لدعائهم بالوفاة قبل بلوغهم سن التقاعد. وكان الدافع وراء الدعاء ما شاهدوه من معاناة مريرة ل "المركونين علي الرف".