فاجأني مشهد الوداع.. لرحيل الأخ والصديق العزيز.. إبراهيم نافع.. ذهبت إلي جامع عمر مكرم بالتحرير للمشاركة في صلاة الوداع.. ولألقي نظرة أخيرة علي جثمانه الطاهر قبل نقله إلي مثواه الأخير.. فاجأتني الصورة وأذهلتني.. جمهور غفير جاء لوداع الراحل الكريم.. امتلأ الجامع عن آخره.. ولم يعد هناك مكان لموطئ قدم.. الشارع.. الذي يحتل الجامع ركن من أركانه.. هو الآخر اكتظ بأعداد غفيرة من البشر.. ومن كل الفئات.. هل كل هؤلاء زملاء مهنة.. هل كلهم من الصحفيين أو من العاملين في هذا المجال.. أم هل هم من قراء ومريدي الكاتب الراحل.. أم أنهم زملاء وتلاميذ.. شاركوه العمل.. وتعلموا منه المهنة وأصولها.. وها هم اليوم.. قد جاءوا زرافات.. لأداء تحية وداع.. وقراءة الفاتحة.. والدعاء الصادق والحميم.. لشخص أحبوه.. ولم تستطع الأيام أن تأخذ ذرة واحدة من هذا الحب الذي ربطهم به.. صحيح أن الصديق العزيز قد ترك المهنة منذ أكثر من اثنتي عشرة سنة.. بعد أن وصل إلي سن المعاش.. لكن الصحيح أيضا.. والواضح من مشهد المسجد المكتظ. بالمودعين المحبين.. وبالشارع الملئ عن آخره. بمن جاءوا لإلقاء نظرة وداع.. يشهد هذا كله.. بأن هناك أمراً آخر.. يشهد بأن "إبراهيم نافع.." قد ترك في قلوب. وعقول هؤلاء الذين تجمهروا داخل المسجد وخارجه.. قيمة أخري.. قيمة أعمق.. وأبقي.. وأكثر خلوداً ودواما.. من جانبي. كأخ وصديق.. لم يفاجئني ما يحمله إبراهيم نافع من مودة وحب للآخرين.. ولا يفاجئني حرصه الشديد علي مد يد العون والمساعدة لكل من هو في حاجة إلي أي شيء هو قادر عليه.. هو متسامح.. لا يحمل ضغينة أو كراهية لأحد.. هو محب للعمل.. ليلاً ونهاراً.. وبكل الجهد.. لكن.. وهو الأهم.. لا يغضب.. أو يغار.. أو يخشي ويتحفز ضد من يعملون.. هذه "السماحة..".. وهذه الثقة بالنفس مكنته من أن يحقق الكثير والكثير من الإنجازات التي لم تتوقف.. هذه السماحة.. والروح الطيبة.. فتحت أمامه أبواب النجاح.. وفتحت في قلبه وعقله القدرة علي اكتساب حب الآخرين له.. فنجاحاته المتعددة.. وفي كل ما تصدي له.. زوده برصيد ضخم من "المناعة..". والثقة بالنفس. التي لا يمكن أن تهزها. أو تؤثر فيها.. الغرائز. أو الغيرة.. أو حتي المنافسة الصغيرة والدنيئة.. هو واثق الخطي.. جاد في مخططاته.. متطلع إلي الأمام دائماً.. وإذا كنت قد بدأت الحديث اليوم.. بالقول.. "بأن مشهد الوداع.." الكبير لرحيل المرحوم إبراهيم.. في جامع عمر مكرم.. قد فاجأني.. فالمفاجأة هنا.. سببها ومصدرها.. هذه الجماهير التي اندفعت نحو الجامع.. جامع عمر مكرم.. داخله وخارجه.. بمجرد الإعلان عن خروج "الجنازة.." من هذا المسجد.. وأن هذا الحشد الضخم.. لم يكن. وكما سبق القول.. "من أبناء مهنة الصحافة" فقط.. ولم يكن أيضا من العاملين في الأهرام دون غيرهم.. وإنما كان حشداً متنوعاً.. كان حشداً متعدد المصادر والاتجاهات.. وهو ما أذهلني بالفعل.. وأكد في نفسي وعقلي. قناعة أصيلة.. وهي أن شعب مصر.. شعب أصيل.. وأن للمخلصين والصادقين من أبنائه.. ولأصحاب الرسائل الطيبة.. والأفكار النبيلة مكانة مميزة.. تحفر لنفسها أماكن عميقة داخل عقول وقلوب المتلقين لهذه الرسائل.. وتظل كامنة. إلي أن تأتي اللحظة المناسبة.. فتنطلق. وكأنها وليدة اللحظة.. وهو ما حدث بالفعل.. مع ظهور "مشهد.." جنازة المرحوم إبراهيم.. في جامع التحرير.. جامع عمر مكرم.. هذا علي الرغم من أن المرحوم قد ترك الصحافة لسنوات.. واكتفي بما قدم وساهم به خلال مسيرته الصحفية والإعلامية الطويلة والثرية.. وبالعودة إلي الماضي.. إلي التاريخ.. وبداية اللقاء والتعاون بيني وبينه.. أذكر.. أن الصدفة.. أو الظروف غير المحسوبة هي التي قررت وحددت لقاءنا وتعارفنا.. كان العام 1959.. وكان وقتها يعمل بالإذاعة المصرية. قسم الأخبار.. وكنت أعمل بجريدة يومية هي "الشعب.." محرراً. دبلوماسياً.. وفجأة وبدون إنذار.. تقرر إغلاق جريدة الشعب.. ودمجها.. بكل ما تحمل من بشر وغير البشر إلي الجمهورية.. في نفس الوقت.. حدوث "رحيل مفاجئ..". وجماعي من وكالة أنباء الشرق الأوسط.. حيث قرر المرحوم عبدالحميد سرايا ترك منصبه ومكانه بالوكالة الرسمية.. وإذا برجال "سرايا.." يقررون معه الرحيل.. وهم محمد عبدالجواد.. ومحمود عبدالعزيز.. ومحسن محمد.. ومحمد الحيوان.. ولما كان سرايا.. قيمة مهنية رفيعة المستوي.. تلقفته علي الفور جريدة الجمهورية.. هو ومن قرر معه الرحيل.. وإذا بنا نفاجأ بأن غرفة أو مكتب مدير التحرير الجديد "للجمهورية.." عبدالحميد سرايا.. ملئ بمجموعة من النوابغ والمواهب.. ففضلاً عمن رافقوه الرحيل من الوكالة.. ظهر شابان واعدان.. وهما إبراهيم نافع الذي ترك مكانه في الإذاعة وبدون سبب.. ومحفوظ الأنصاري. الذي تقرر إغلاق الجريدة التي يعمل بها وهي الشعب.. وبالتالي تحولت غرفة مدير التحرير الجديد "للجمهورية".. الأستاذ عبدالحميد سرايا.. إلي مركز وقاعدة جاذبة للقيادات والمواهب.. وفي حضن. وكفاءة "سرايا..".. ومن رافقوه عملنا.. وتعلمنا. وظهرت مواهب العديد منا.. وبتوجيه من رئيس المجموعة ومن معه.. أصبح "إبراهيم نافع.." المحرر الاقتصادي الأول.. وأصبحت المحرر. الدبلوماسي للجماعة.. وكان للتميز الذي أثبته "إبراهيم نافع..".. والانفرادات التي حققها في مجال الأخبار والنشاط والاقتصاد. دور مميز لتفوقه.. الأمر الذي دفع الأستاذ هيكل رئيس تحرير الأهرام وقتها. ليقدم عرضاً مغرياً "لإبراهيم.." بالانتقال إلي الأهرام.. وبالفعل ذهب.. وأصبح نجماً في الجريدة الكبري.. وتواصل صعوده بالأهرام. إلي أن وصل إلي قمة العمل رئيساً للتحرير.. ورئيساً لمجلس الإدارة.. وهنا لابد أن نذكر أن مسيرة "إبراهيم..".. اتسمت. وتميزت.. بالهدوء.. وبالسلاسة في التحرك والإنجاز والصعود.. ويمكن القول إن طبيعة وشخصية الرجل قد لعبت الدور الأول في صعوده وتفوقه المستمر.. لم يكن من أصحاب الصوت العالي.. ولم يكن ممن يفاخرون. ويتباهون بانفراداته.. كان ينطبق عليه الوصف القائل.. بأنه.. "السهل الممتنع..".. لا يقول أبداً.. إنه تفوق. أو انفرد.. وإنما إنجازاته. وانفراداته. هي التي تقول.. وتثبت ما أحجم عن الافصاح عنه.. خاصة أن ما كان يعمل له ويسعي في سبيله.. لم يتوقف عند حدود التفوق الصحفي.. سواء بالانفراد بالأخبار والموضوعات الهامة.. ولكنه تحرك في نفس الوقت في اتجاه تطوير وتحديث المؤسسة التي أصبح يتولي. إدارتها وهي الأهرام.. فقرر وبهدوء ودون ضجة أو إعلان أو دعاية.. أن يحدث المؤسسة.. وبكل مرافقها.. مبني.. ومطابع.. وأجهزة.. وكذلك اهتمام غير مسبوق بالبشر.. وبكل من يعمل في هذا. الصرح الضخم.. صحفيين كانوا.. أو إداريين.. أو عمالا.. وأعتقد أن اهتمام المرحوم إبراهيم. بالمؤسسة الصحفية. الأهرام بكل من فيها.. وبكل ما بها هو الذي أخذ الرجل بعيداً عن الاهتمامات الجانبية أو الصغيرة.. فلم يدخل يوماً في صراع أو منافسة مع زملائه في المؤسسات الأخري.. وبقيت علاقاته بالجميع طيبة.. وبهذه الروح الطيبة.. تواصلت علاقتي بالصديق العزيز الراحل.. وحتي رحيله.. فقد أخذ كل طرف منا. نحن شركاء المهنة الطريق الذي يختاره ويرضاه.. دون ازعاج.. أو مداخلات أو صراع.. ولم يتردد الرجل يوماً في الاستجابة لمطالب الزملاء. أو تقديم ما يطلبون من مساعدات.. وقد أسفر هذا السلوك الكريم عن تطور ملموس لحق بكل المؤسسات الصحفية.. وساهم في تطورها.. ومن بين هذه المؤسسات وكالة أنباء الشرق الأوسط. التي توليت رئاسة مجلس إدارتها. ورئاسة تحريرها واستطعت من خلال هذه الروح الطيبة التي سادت المسيرة الصحفية..: أن أطور عمل الوكالة. وأدواتها.. سواء ما يتعلق.. بتحديث الأجهزة.. أجهزة الاتصال.. والبث.. وأجهزة التواصل. والانفتاح علي الخارج.. فضلا عن التقدم التكنولوجي الذي لعبت فيه التطورات العلمية والعملية دوراً كبيراً.. وكان لابد من اللحاق بكل هذه التطورات. وإدخالها في عجلة التواصل والحركة بعد كل هذا الذي طرأ علي حياتنا وأوضاعنا من تقدم.. وهنا لابد وأن أذكر علي سبيل المثال. لا الحصر.. أن هذه الروح العامة والتعاونية. التي قدمها إبراهيم نافع في إدارته للأهرام.. عكست نفسها علي الجماعة الصحفية. بشمولها.. مؤسسات.. وأفرادا.. ولهذا عندما قررنا تحديث الوكالة في هذا المناخ الجديد.. وجدت مساهمات مفاجئة ومبهرة. من الكثير.. أصحاب الصلة. والهيمنة المباشرة علي المؤسسات الحكومية.. وجدت رجلاً عظيماً مثل المهندس.. "إبراهيم محلب..".. يتواجد وبشكل دائم ومتصل. داخل أروقة "الوكالة.." يتابع. ويشرف. ويوجه العاملين.. مهندسين أو عمالا. أو مهنيين لتخرج عملية. التطوير في أفضل صورها. وأعلي مستوياتها.. وذلك دور طلب أو رجاء.. وإنما الرغبة في التقدم.. نفس الشئ بالنسبة لمشروعنا الخاص.. بالتحول الإلكتروني لشبكة التواصل والترابط الإلكتروني.. وتبديل الأدوات والأساليب القديمة.. بالوسائل والأدوات والأجهزة الإلكترونية والكهربائية الحديثة.. ومثلما وجدت المهندس "إبراهيم محلب.." متواجداً ومتابعاً لعملية التقدم والتطوير.. فوجئت بالدكتور محمد شاكر. متواجداً.. مثله مثل المهندس محلب وسط أبناء الوكالة. ووسط المهندسين والفنيين الذين أتوا للمشاركة في عملية التقدم والتطوير الكبري.. لتصبح الوكالة علي أرفع مستوي من التغيير والتبديل.. وتصبح بكل أدواتها. ورجالها علي المستوي المطلوب.. وكما ذكرت.. لم تكن مساهمة ومشاركة "محلب..".. ولا مساهمة الدكتور محمد شاكر بطلب منا نحن المسئولين عن الوكالة.. وإنما هي "الروح.." التي سادت العمل العام في هذه المرحلة. الهامة والدقيقة.. وخرجت عملية التجديد والتبديل والتطوير للوكالة وأجهزتها وأدواتها.. من خلال روح التعاون والعمل المشترك.. والرغبة في اللحاق بالعصر وأدواته وأساليبه.. إلي عالم جديد.. أعود وأقول وأكرر إن روح السماحة.. والتعاون. والعمل المشترك.. هي القادرة في كل وقت علي الإنجاز وعلي التقدم وعلي مواكبة العصر.. رحم الله الصديق والأخ العزيز "إبراهيم نافع.." الذي أسهمت روحه السمحة.. وتعاليه علي الصغائر.. في تقديم نموذج فذ للعمل العام.. العمل المشترك.. الذي يعطي ولا يأخذ.. ويكفي الرجل الكريم "إبراهيم..". هذه المظاهرة التلقائية التي تجمعت حول جثمانه.. داعية له بالرحمة والغفران.. مؤكدة قدرته غير العادية علي تحقيق المستحيل دون ضجة.. أو إدعاء.. فهو في الحقيقة. رجل "السهل الممتنع..".. بعيداً عن أي إدعاء.. أو مزايدة..