الإسكندرية كانت المنفذ الرئيسي لتصدير القطن المصري إلي جميع دول العالم وخاصة أوروبا وهي المركز التجاري الاول الذي تعقد به صفقات البيع والشراء وأخذ كبار تجار القطن والسماسرة في مصر يترددون علي احدي المقاهي المشهورة بحي محرم بك انذاك وكان يسمي مقهي "أوروبا اسكندرية" ومع تزايد عملية البيع والشراء انتقلت الاجتماعات في عام 1885 إلي مقهي اخر ويسمي مقهي "اخوان" بمنطقة استانلي بحي الرمل والتي كانت في ذلك الوقت تعد منطقة النخبة من الاثرياء من ابناء الإسكندرية وانتقلت تجارة القطن إلي مرحلة تقتضي معها التوثيق والتنظيم في البيع والشراء وتحديد السعر خاصة ان البيع كان بعقود مؤجلة لتسليم القطن او تسليم القطن ساعة البيع فتم انشاء بورصة الاسكندرية لتداول الاوراق المالية و تجارة الاقطان في عام 1889 في عهد الخديوي عباس الثاني وكان مقرها المنشية وكان هذا المبني ملك للجالية اليونانية وتم استئجاره من قبل الحكومة المصرية بعقد انتفاع لمدة 25 سنة وفي عام 1909 صدر مرسوم من الخديوي بترخيص البورصة علي ان تكون اللجنة المشرفة عليها مكونة من 12 عضواً وكانت اللجنة بها اعضاء من اجناس واعراض مختلفة من العرب والاجانب وكان اول رئيس للبورصة سوري الجنسية وبلغ عدد السماسرة المسجلين بالبورصة في ذلك الوقت 75 سمسارا وكان لكل سمسار "كابينة" بها تليفون وشكل السماسرة فيما بينهم لجنة لفض المنازعات وبلغ عدد الشركات المسجلة بالبورصة بالإسكندرية 288 شركة وكان رأس مال البورصة انذاك قدره 60 الف جنيه مصري واحتلت بورصة الاسكندرية للاقطان في هذه الفترة المرتبة الخامسة علي مستوي العالم بين البورصات العالمية وكان يستدل بتحديد السعر لضمان الربح بصحيفة الانباء الاوروبية والسمعة الطيبة والدقة في مواعيد التسليم والتسلم معيار اساسي في عملية البيع والشراء وكان علي قمة التجار في بيع القطن المصري عائلات من اجناس مختلفة إلي ان ظهرت القوي التجارية المصرية ممثلة في طلعت باشا حرب الذي انشأ بنك مصر واتحاد مصدري الاقطان بالإسكندرية وكان اول رئيس له يسمي رينهارد وهو سويسري الجنسية في عام 1932 إلي ان جاء محمد أحمد فرغلي باشا والذي تولي رئاسة الاتحاد في خمس دورات من عام 1935 إلي عام .1958 والاسكندرية كانت تمتاز عن غيرها من المحافظات وتنافس المدن العالمية وكان لها السبق كأول بورصة في مصر وتم انشاؤها قبل بورصة القاهرة وكان بها بورصتان بورصة المنشية التي كانت تتم فيها عملية البيع والشراء بعقود مستقبلية والثانية بورصة مينا البصل وكانت البضاعة فيها حاضرة بلغة تجار القطن اي ان تسليم البضاعة من القطن كان يتم في ذات ساعة البيع والشراء وكانت كميات كبيرة من الأقطان يتم وضعها في مخازن القباري ومينا البصل وكثيرا ما كانت بورصة مينا البصل هي رمانة الميزان في ضبط الاسعار. وظلت بورصتا المنشية ومينا البصل في عملها تصول وتجول حتي صدر القرار الجمهوري عام 1966 علي تصفية بورصة عقود الاقطان وان تتولي التصفية لجنة تشكيل بقرار من وزير الاقتصاد انذاك علي ان يؤول فائض التصفية إلي الخزينة العامة وطول هذه الفترة تربع القطن المصري علي القمة بلا منازع وفي بداية التسعينات بدأت حلقات مسلسل التراجع والانهيار للقطن المصري حتي وصل إلي ما هو عليه الان "لا حس ولا خبر" لا انتاج ولا تصدير ولا تصنيع علامات استفهام كثيرة تطرح نفسها عن اسباب هذه الحالة التي وصل إليها القطن المصري وما افضل السبل لعلاج هذا المرض الذي اصاب القطن المصري بعلة ظل يعاني منها ويئن ويتوجع منها ابداً من الدهر. في البداية يقول المهندس نبيل السنتريسي رئيس مجلس إدارة اتحاد مصدري الاقطان منذ 70 عاما وانا اعمل في مجال القطن وكان يطلق علي القطن المصري الذهب الابيض وكانت تبلغ مساحة الأراضي المنزرعة بالقطن في الموسم نحو 2 مليون فدان وكان انتاج المحصول يصل سنويا إلي 10 ملايين قنطار وكانت المصانع المصرية تستخدم 6 ملايين قنطار في صناعات الغزل والنسيج وكان اشهر هذه المصانع هي المحلة التي كانت تستخدم مليون قنطار في صناعات الغزل والنسيج بالاضافة إلي مصانع كفر الدوار وطنطا وشبين الكوم وكانت اصناف القطن في ذلك الوقت لها مسميات اخري غير المتعارف عليها الان وهي اسماء كانت مشهورة بالجودة علي مستوي العالم مثل "قطن الكرنك والمنوفي والميت عفيفي" و "الميت عفيفي" هو الصنف الذي تزرعة امريكا الان في ارضها وتصدره إلي كل انحاء العالم تحت اسم "البيما الامريكي". وكانت الشركات المصرية في التصدير وصناعة الاقمشة والمفروشات والمنسوجات ملوك العالم بلا منازع لأنه كان لدينا سمعة طيبة في جودة الخامة والصناعة والقطن لم يقتصر الاستفادة منه في هذه الصناعات فقط ولكن في صناعات اخري مثل انتاج الزيوت والعلف والصابون اما الان فقد تبدل الحال وتراجع الانتاج من 10 ملايين قنطار إلي مليون قنطار وانحصرت المساحة المنزرعة من مليون فدان إلي ما بين 100 الف إلي 200 الف فدان. ويقول المهندس نبيل ان الاسباب التي و صلت بنا إلي هذه الحالة المحزنة هو القرار الذي اتخذ في بداية التسعينات بتحرير زراعة القطن والغاء الدورة الزراعية له حيث كان هناك دورة زراعية اجبارية بزراعة كل فلاح ثلث ما يملك من الارض بمحصول القطن في موسم زراعته والان اصبح هذا الامر غير موجود كما ان عدم الاهتمام بسلالات وتحديثها والابحاث والدراسات لتطوير زراعة وصناعة القطن بما يتماشي مع المتطلبات والاحتياجات في السوق العالمية والمحلية بالاضافة إلي تكلفة الزراعة وانخفض هامش الربح مقارنة بالزراعات الاخري مما حجب الفلاح المصري عن هذه الزراعة ادي إلي هذا الوضع السييء. ويري المهندس نبيل السنتريسي رئيس اتحاد مصدري القطن المصري ان الروشتة لعلاج ما اصاب زراعة وصناعة القطن يبدأ اولا بتوفير مساحات كبيرة من الاراضي لزراعة القطن في اماكن جديدة حتي لا يؤثر ذلك علي زراعة الاغذية مثل توشكي والعوينات والفرافرة والظهير الصحراوي الغربي في الصعيد المصري ووادي النطرون علي ان يتم حصد القطن بالطرق الآلية الحديثة التي تتم حاليا في اغلب دول العالم ومنها الهند ولعل ما مادي إلي حجب الفلاحين في الدلتا وغيرها عن زراعة القطن هو ارتفاع مصاريف وتكلفة زراعة القطن الذي لا يزال يتم يدوياً في مصر ويتكلف حصد القنطار الواحد 800 جنيه وتبلغ تكلفة حصد الفدان الواحد 4500 جنيه. كما لابد من تخفيف مصروفات الزراعة علي الفلاح بتوفير خدمات مجانية لزراعة القطن تتمثل في الحرث وتسوية الارض وتوفير كميات المبيدات اللازمة بسعرها الرسمي واستنباط سلالات جديدة ذات انتاجية عالية حيث ان انتاجية السلالات الحالية تنتج ما بين 6 إلي 7 قناطر في الفدان بينما هناك سلالات تنتج 11 قنطاراً في الفدان بما يوفر هامش ربح كبير للفلاح. ويجب تشجيع شركات الغزل التي توقفت بسبب غزو الغزل الهندي للاسواق المصرية بسبب انخفاض سعره عن الغزل المصري حيث يتكلف كيلو الغزل الهندي 2 دولار والمصري 2 دولار ونصف دولار فيجب فرض جمارك علي الغزل المستورد ومع زيادة الانتاج من القطن المصري سيتم توفير الغزل وان كان علينا في هذه المرحلة توفير الغزل والاقطان للشركات بقروض مؤجلة بفوائد مخفضة لحين التصنيع والبيع لتعود المصانع التي توقفت ماكيناتها للعمل مرة أخري لصناعة الغزل والنسيج والملابس والمفروشات والاقماش وصناعة زيت القطن الذي يستخدم في قلي الطعام وهو من اجود الزيوت لصحة الانسان وكان يسمي بالزيت الفرنساوي. ويقول المهندس سعد نجم رئيس هيئة تحكيم واختبارات القطن بالإسكندرية ان عزوف الفلاح عن زراعة القطن يرجع في الاساس إلي ارتفاع تكلفته وخاصة عملية "جني المحصول باليد" وهو ما يستدعي عمالة مكلفة بجانب تكلفة المبيدات والسماد فيجد الفلاح هامش ربح غير مرضي أو معوض للجهد والوقت كما ان السعر غير مستقر متغير دائما. ويؤكد انه لابد من زراعات مساحات كبيرة من القطن خارج منطقة الدلتا من اصناف عالية الانتاج وتقبل الحصد الالي الذي يوفر كثيراً من التكلفة وهذا سوف يساهم بشكل كبير في زيادة المنتج وتوفير الخامات الجيدة باسعار منخفض مما يؤدي إلي طرح صناعة ذات جودة باسعار تنافسية في الاسواق العالمية والمحلية مما يعود بالنفع العام علي الاقتصاد المصري كله.