الحكايات فى مصر تبدأ ولا تنتهى وهى مليئة بالأسرار والأخبار وتحكى فصولها جزءا كبيرا من تاريخ البلاد والعباد ، وأهمها حكايات الذهب الأبيض أو 'القطن المصري طويل التيلة كما تعلمنا فى الكتب المدرسية ، وظللنا نردد هذا الكلام دون فهم حتى أدركنا المعنى وهو أنه يتميز بالطول والنعومة التي تؤهله للاستخدام في صناعة المنسوجات العالية الجودة. وقد عرف الفلاح المصرى زراعة القطن منذ عهد محمد علي باشا الذى شجع زراعته واقام علية عدة صناعات مثل حلج وكبس القطن، وتجهيز النيلة للصباغة، ومعاصر الزيوت، وتصنيع المواد الكيماوية ومصانع الغزل والنسيج بجميع أنواعه، وكان أول مصنع حكومي هو «مصنع الخرنفش للنسيج» في عام 1816، وأيضًا مصنع الجوخ الذي كان الغرض منه هو توفير الكسوة العسكرية للجيش المصري . ووثيقة هذا الأسبوع تتعلق بالذهب الأبيض وهى على أهميتها غاية فى الطرافة فهى عبارة عن خطاب مرسل من أحد التجار وهو سليمان شاهين الى مصطفى باشا شاهبندر التجار يخبره فيه أنه قبل توجهه الى الاسكندرية بيوم أرسل بالوابور ( زنبيل ) أو جوال أرز وبداخل الزنبيل جواب ، ويتساءل الرجل هل وصل الزنبيل وبداخله الجواب ؟ أم لم يصل بعد ؟ وإذا كان لم يصل فيمكن السؤال عنه فى بوستة الافرنك ( البوستة الأوروبية ) ثم انتقل الرجل للسؤال عن شئ آخر هو سعر بيع القطن الشعر والذى ببذره من خلال مجلس التجار وبيت المال وهل صار مبيعه كما يقول ، وإذا كان صار مبيعه فعرفونا على صنف الدراهم الذى اندفع فيه - أى المبلغ الذى دفع فيه - . ومن هذه الوثيقة يتبين لنا أن المتحكم فى سعر القطن فى كل القطر المصرى كان تجار الإسكندرية أو بورصة الإسكندرية (بورصة مينا البصل ) وإن التجار كانوا على اختلاف أماكنهم فى كل أنحاء المحروسة كانوا يتابعون أخبار أسعار القطن فى الاسكندرية والتى على أساسها تتحدد حركة البيع والشراء ، وقد نشرت جريدة The graphic الانجليزية فى عددها الصادر فى 1 نوفمبر 1873 تحقيقاً مقصوراً عن القطن فى مصر مكونا من 8 لوحات مرسومة لحركة بيع القطن فى مصر بداية من جمعه من الفلاحين ونقله فى المراكب النيلية حتى وصوله الى منطقة التشوين والتخزين فى مينا البصل بالاسكندرية والمضاربات التى تقام عليه، ثم صورة لأحد مزادات بيع القطن فى دايرة الخديو حتى الوصول الى السعر المناسب، يلى ذلك صور لكبس القطن داخل الشونة تمهيداً لشحنة الى أوروبا . ومن المعروف أن بورصة الإسكندرية تعد من أقدم البورصات في العالم فقد تمت أول صفقة قطن محلية مسجلة في العالم عام 1885 بمقهى أوروبا السكندرى بميدان Les Consuls” - القناصل - والذي سمى لاحقاً ميدان المنشية ، حيث كان تجار القطن يجتمعون ويعقدون صفقات قائمة على العرض والطلب بشأن القطن طويل التيلة وغيره من الأنواع . وكان المتممون الأوائل لصفقات القطن ينتظرون وصول «صحيفة الأنباء» من أوروبا لكى ترشدهم في عملياتهم ، وكانت السمعة الطيبة تؤثر فى هذه التعاملات ، فكان احترام المواعيد والمصداقية على رأس اهتمامات التاجر إذا ما أراد تحقيق ربحاً. ومن المقهى الأوروبي انتقل متممو صفقات القطن إلى مبنى مجاور، وعندما بدأ العمل يتزايد أنشئت هيئة الإسكندرية للقطن . وقد أنشئ مبنى بورصة الأسكندرية في عام 1899 خلال عهد الخديو عباس حلمى الثانى بميدان محمد علي وأصبح إحد أهم معالم المدينة و النقطة المركزية لمجتمع المدينة المالى ثم تم تقنين عقود بيع القطن الآجلة في عام 1909 . ومن بين سماسرة القطن الخمسة والثلاثين المسجلين في عام 1950 لم يكن هناك سوى اثنين فقط من المصريين، كما تألف مديرو البورصة من مزيج غير متساو من المصريين، والشاميين واليهود وكان رئيسها سوري الجنسية يدعى جول كلات بك. وعلى الرغم مما اتسمت به من مزيج عرقي إلا أن الهيئة كانت قد قطعت شوطاً كبيراً بعد تحكم البريطانيين فيها لفترة طويلة من خلال أكبر مصدرين للقطن في الإسكندرية وهما عائلة كارفرو وعائلة موس،وقد سيطر الأجانب في الأغلب على مغازل حلج القطن. وحتى الخمسينيات من القرن العشرين كان معظم التداول يتم مع بورصة القطن فى «ليفربول» كشاهد على روابط مصر القوية بالإمبراطورية البريطانية. ومع مرور الوقت أخذ عدد المصدرين الداخلين في هذه التجارة يزداد، ولقد ضم التجار الجدد كل من طلعت حرب باشا، مؤسس مجموعة شركات بنك مصر، ومحمد فرغلي باشا، رئيس هيئة مصدري القطن بالإسكندرية. ورغم مرور السنوات الا أن حكايات الذهب الأبيض فى مصر لم تنته ، حكاية بدأت مع محمد على باشا وصارت جزءاً لا يتجزأ من النسيج المصرى ... نسيج ناصع البياض ... طويل التيلة .