يمكن بسهولة تقسيم حياة الكاتب الكبير الراحل محمود أبوزيد إلي ثلاث مراحل.. أولها بعد تخرجه في معهد السينما عام 1971 عندما قدم مع المخرج عاطف سالم فيلم "بنات في الجامعة" ثم توالت أعماله التي جاءت في أغلبها تجارية بحتة.. هدفها اثبات الحضور في وسط حالة انتعاش سينمائية بين قطاع عام وخاص تسمح بإنتاج نوعيات مختلفة من الأفلام واتاحة الفرص أمام الجميع خاصة ان الإنتاج السنوي كان يتجاوز المائة فيلم بسهولة وتعددت أفلام "أبوزيد" بين الرومانسي والأكشن والكوميدي.. وربما جاءت دراسته للفلسفة وعلم النفس.. لكي تضعه في مرحلة ثانية هي الأهم في حياته.. عندما التقي مع المخرج علي عبدالخالق في الرباعية التي صنعت لهما معا مكانة خاصة في دنيا السينما بل ومتميزة وغير مسبوقة.. رغم ان عبدالخالق كان قد سبقه في تحقيق شهرته من خلال فيلمه الكبير "أغنية علي الممر" ويعتبر من أفضل الأفلام التي تناولت مرحلة الاستنزاف وما أخذ بأيدينا إلي انتصار أكتوبر العظيم. الرباعية التي بدأت عام "82" بفيلم "العار" ثم توالت بعد ذلك بأفلام الكيف 85. جري الوحوش 87. البيضة والحجر ..90 هذه الرباعية استمدت أهميتها من كونها اعتمدت علي الحوار بشكل أساسي.. والسينما في المفهوم النقدي هي صورة لها لغة تكتبها الكاميرا. هذه السلسلة تناولت عالم المخدرات ثم عدالة السماء في توزيع الأرزاق علي العباد من المال والبنون وأخيرا مسألة الدجل والشعوذة.. لكنها قدمت موضوعاتها.. بعمق في رسم الشخصيات وجاء الحوار مطابقا لها ومكملا لظاهرها وكاشفا لباطنها في أسلوب رشيق وجذاب ومقنع.. وكانت الرسالة الأخلاقية بارزة ولامعة وهو ما أعطي لهذه الرباعية جماهيريتها ونجاحها الخاص وفي ذلك ما يكذب ويهدم بعض النظريات التي تقول بأن الفن لا ينبغي أن يقاس بمفهوم أخلاقي.. مع ان هناك نظريات جاءت من الغرب تقول ان الأخلاق هي الفرع الأصيل في جماليات الفن علي اختلاف أنواعه.. لذلك جاء مصطلح "السينما النظيفة" الذي أطلقه كاتب هذه السطور مثيرا للحساسية عند من أرادوا للسينما ان تكون فاحشة ودموية وجافة وهو ما جعل الأفلام تتراجع من حيث الكم رغم ازدياد دور العرض الفخمة.. ورغم حاجة الفضائيات المتخصصة في عرض الأفلام إلي الجديد. وللتأكيد علي ذلك أكثر من خلال سيرة "أبوزيد" نفسه.. نجد ان أسهمه الفنية تراجعت بعد الرباعية في المرحلة الثالثة التي بدأت بفيلم ديك البرابر ثم عتبة الستات والأجندة الحمراء وبون سواريه. ملك الحوار ورغم شهرة "أبوزيد" في كتابة الحوار وتميزه في ذلك وبراعته.. إلا ان تجربته الأولي والأخيرة في كتابة المسلسل التليفزيوني لم تجد نفس النجاح السابق للرباعية.. رغم اعتماد المسلسل علي الحوار بشكل أساسي وفيه متسع لإبراز قدرات مؤلف كبير من طراز أبوزيد.. السر هنا.. يكمن في التركيز علي نبيلة عبيد بطلة العمل وهي قيمة بالطبع.. كما ان دخول الاستوديو بدون اكتمال النص.. والارتباط بالعرض الرمضاني علي قنوات داخلية وخارجية.. جعل المؤلف يكتب علي الهواء في الاستوديو.. وتوقع ان تسعفه مهارته في الحوار واستطرد في ذلك وطالت المشاهد أكثر مما ينبغي وهبط الايقاع.. لكن اسطي الحوار عندما اتجه إلي المسرح وفي جرابه سلاح الحوار وخفة الظل.. كانت "حمري جمري" التي استمرت لسنوات طويلة حديث الناس.. ثم قدم بعد ذلك "جوز ولوز" لكنها لم تحقق نفس النجاح.. لأن الأمزجة تتقلب والظروف أيضا. ولأن "أبوزيد" كان رجلا منطقيا يحترم قلمه وتاريخه نجده في المرحلة الثالثة قد تراجع.. وقد تغيرت السينما نفسها وتقلصت أفلامها.. ومقاييس إنتاجها ورجالها. الأب والابن وفي ظل ابتعاد أبوزيد الأب.. ظهر الابن "أحمد" مرتكزا علي ميراث أبيه الناجح وقدم "العار" و"الكيف" بطريقة ساذجة أهانت ما اجتهد فيه الأب وصنع منه العلامات المميزة في تاريخه.. وما قدمه الأب في ساعتين أراد الابن أن يقدمه في 22 ساعة.. ولكن هيهات فالمقارنة ظالمة بين الفيلم والمسلسل.. وبين نور الشريف ومحمود عبدالعزيز ويحيي الفخراني وحسين فهمي.. وبين مصطفي شعبان وأحمد رزق وشريف سلامة وباسم السمرة.. رغم محاولات إجراء التعديلات لكنها ظلمت الأفلام لأنها لم تتركها في حالها ولم تقدم جديدا في المسلسلات التي جاءت أشبه بالأعمال الكارتونية في تفكير ساذج.. ان ميراث الأب الفني من حق الابن ان يلعب فيه كما يريد يجوز هذا في شقة أو قطعة أرض أو محل بقالة.. لكن في الفن الأعمال تصبح ملك جمهورها. وقد جاء رحيل "أبوزيد" علي بعد أيام قليلة من وفاة النجم الكبير وشريك نجاحه محمود عبدالعزيز وكأنه يقول لنا ولغيرها وقد سبقهما نور الشريف.. وكأن انسحاب الأكابر.. اشارة توجع القلب علي ما وصلنا اليه من انحدار سينمائي وتليفزيوني رغم حاجتنا أكثر وأكثر في هذه الأيام إلي دراما أخلاقية تأخذ بيد الموجوع والمحبط إلي ساحات الجمال والخير. وشاءت الظروف ان يرحل الكبير "أبوزيد" في ظل انشغال الأمة كلها بفاجعة كنيسة البطرسية حيث تجللت الصحف والقنوات بالسواد ولكن الرسالة واضحة فالإرهاب الأسود الذي يحيط بنا.. يضرب المجتمع كله في مقتل.. ولعلنا ندرك ان الفن أحد أسلحتنا لمواجهة الغباء والجهالة..ولكن كيف لهذا الفن ان يقاوم وهو نفسه في الوقت الحالي يفتقد أبسط عناصر "المقاومة".. ويطعن الأخلاق في مقتل بالانحراف والبلطجة والمخدرات!!